الحمد لله الواحد بلا شريك، والقويّ بلا نصير، والعزيز بلا ظهير. أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، فهو الأول والآخر، والظاهر والباطن، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ [الشورى:11]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمّة، وجاهد في الله حقّ جهاده، وتركنا على المحجّة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك. صلى الله عليه وسلم، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد: فنقف أيضاً وقفة مع تربيته لنفسه على عدم الثأر للنفس. هكذا هي قواعد التربية عند سلفنا الصالح دائماً لا يتجاوزونها قيد أنملة فلا غضب إلا لله تعالى لأنهم قد جردوا النفوس التي بين الضلوع، فما كان لغير الله أخرجوه منها ولم يبق إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم. ونفوس كهذه النفوس لا يوجد فيها غضب لذاتها عندما تهان، فمما جاء في سيرته رحمه الله أنه كان في المسجد ورجل خلفه، فلما قاموا إلى الصلاة جعل الرجل يقول له: تقدم ولا يجد الربيع مكاناً أمامه فرفع الرجل يده، فوجئ بها في عنق الربيع، ولا يعرف أن الذي أمامه هو الربيع بن خثيم، فالتفت الربيع إليه فقال له: رحمك الله..رحمك الله، فأرسل الرجل عينيه فبكى حين عرف الربيع. ولعل نفس الربيع في تلك اللحظات تدعوه للانتقام أمام هذه الإهانة أمام الناس وبدون سبب وهو المشهور بين الناس، ولكنه يدوس على هذه النوازع ويقابلها بعكس ما تريد، فيدعو للمعتدي عليه بالرحمة مرتين مما جعل المعتدي يفجأ بهذا الخلق العظيم فيبكى. وسرق له فرس، والفرس يعد في ذلك الزمان الدابة المفضلة الغالية الثمن فقال له بعض الناس: ادع الله عز وجل عليه، فقال:بل أدعو الله له، اللهم إن كان غنياً فأقبل بقلبه، وإن كان فقيراً فأغنه. عجباً والله لحسن الخلق. وتأمل رحمني الله وإياك موقف أحد الناس حين سرق حذاؤه من المسجد. فتصور ماذا قال. لقد أخذ يلعن من سرق حذاءه. يلعن مسلماً من أجل حذاء، وعندما قلت له:أتلعن مسلماً من أجل حذاء؟! قال: نعم. ثم قارن بين حال أسلافنا رحمة الله عليهم أجمعين وحالنا اليوم. لقد كان هؤلاء لا يشغل قلوبهم هم أو ألم أو غم سوى ما يتصل بأمور الآخرة، ولأنها هي التي غلبت على نفوسهم فكل ما دونها هين في أعينهم ليس له اعتبار مادام دنيوياً. وهذا كان واضحاً في رد الربيع عندما يسأل:كيف أصبحتم؟ فيقول: ضعفاء مذنبون، نأكل أرزاقنا وننتظر آجالنا. هي نفوس متعلقة بالآخرة، ولا وقت لها لإضاعته في غير ذلك، ومما يرويه أبو حيان عن أبيه قال: ما سمعت الربيع بن خثيم ذكر شيئاً من أمر الدنيا إلا أني سمعته مرة يقول: كم لكم مسجداً. هذه هي المرة الوحيدة التي سمعه فيها هذا الرجل يتكلم بأمور الدنيا. وقفة مع شدة خوفه من الله. لقد كانت أمه ترق له عندما كان غلاماً لم يبلغ الحلم بعد، وقد انشغل بكثرة قيام الليل فتقول له: يا ربيع ألا تنام, فيقول: يا أماه من جن عليه الليل وهو يخاف السيئات حق له ألا ينام. فلما بلغ ورأت ما يلقى من البكاء والسهر نادته فقالت: يا بني لعلك قتلت قتيلاً؟ قال: نعم يا أماه قد قتلت قتيلاً. قالت: ومن هذا القتيل يا بني حتى نتحمل إلى أهله فيغتفروك (يسامحوك) والله لو يعلمون ما تلقى من السهر والبكاء بعد لرحموك، فقال: يا أماه هي نفسي (أي قتلت نفسي بالمعاصي). وهكذا هم طلاب الآخرة في صراع دائم مع أنفسهم التي تدعوهم إلى السوء ويدعونها للصلاح تجذبهم بقوة خارج الصراط ويجذبونها بقوة نحو الصراط، فهو في ممارسة دائمة لقتل هذه النفس التي تأمره بالسوء أو تحويلها إلى نفس ذات خصائص أخرى تدعوه إلى الخير. ولم يخف بكاؤه على أهل بيته حتى أن ابنته لاحظت ما لاحظته أمه من قبل فقالت له مشفقة عليه: يا أبتاه الناس ينامون ولا أراك تنام. قال: يا بنية إن أباك يخاف السيئات. وقفة مع محاسبته لنفسه. إنه عندما يصل المرء إلى هذا المستوى في التقرب إلى الله، وهذه الحالة الإيمانية لكثرة الاتصال والصفاء، قد تحثه نفسه على العجب لما وصل إليه، واحتقار ما يقدم الآخرون والشعور بالتميز عنهم لما وفقه الله من ذلك الخير ولكن الربيع ينتبه إلى هذا الأمر الدقيق ولا يترك لنفسه مجالاً لتحرق ما قدم وتبطل ما عمل وتهدم ما بنى، فلقد كان وهو يبكي والدموع تبل لحيته يقول: لقد أدركنا قوماً كنا في جنوبهم لصوصاً. هذه المحاسبة الدقيقة إنما هي نتاج ذلك الخوف من الله تعالى، خوف يبعثه على التحري الدقيق لكل ما يقول وكل ما يفعل إن كان خالصاً لله أم كان غير ذلك. وتأتي ابنته الصغيرة وهو مجتمع بأصحابه تستأذنه باللعب فيرد عليها "اذهبي فقولي خيراً، فتعيد عليه وهو يعيد كلامه فلما أكثرت عليه قال له بعض القوم: اتركها تذهب تلعب. قال: لا أحب أن يكتب علي اليوم أني أمرت باللعب. ولقد كان لا يترخص مع نفسه خوفاً من التجرؤ عليه في أمور أخرى. وكان يلتزم العزم في الأمور ليقوى على نفسه من غير غلو أو خروج عما أمر الله به أو جاءت به السنة. فقد أصابه في آخر حياته الفالج (الشلل) فكان يحمل إلى الصلاة، فقيل له: إنه قد رخص لك، قال: قد علمت، ولكني أسمع النداء بالفلاح. فلا يرضى أن يسمع الأذان وهو مشلول، فلا يجيب. فأين شبابنا وأقوياءنا الذين تركوا الصلاة في المساجد ويصلون في بيوتهم وقد رزقهم الله الصحة والعافية؟ أين الذين إذا بعد المسجد عن بيوتهم قليلاً تركوا الصلاة فيه وأصبحوا يصلون في بيوتهم؟! لا أخالهم الآن يجدون جواباً لهذه التساؤلات. وبعد معاشر المؤمنين ماذا عسى الواحد فينا يقول لنفسه حين يسمع سيرة هؤلاء عليهم رحمة الله؟ وكيف يكون حال الواحد منا وهو يرى الواحد من السلف قد عمل الصالحات وهو خائف مشفق. ونحن نسيء ونقصر، ونحن في أمن واطمئنان. إنه عباد الله الغرور بتسويلات الشيطان والاغترار بقلة من الطاعات الواجبة التي يؤديها المرء، وهو يرى أنه يستحق الجنة على ما فعل. فنسأل الله أن يعاملنا بعفوه وكرمه. اللهم اغفر لنا وارحمنا، وعافنا واعف عنا. اللهم توفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين. وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. |