أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تبارك وتعالى واشكروه على ما هداكم للإسلام، وجعلكم من أمة خير الأنام عليه الصلاة والسلام، راقبوه ولا تعصوه، واعلموا أنكم لديه محضرون، وعلى أعمالكم محاسبون، وعلى تفريطكم نادمون. عباد الله، الآداب والأخلاق عنوان صلاح الأمم والمجتمعات، ومعيار فلاح الشعوب والأفراد، ولها الصلة العظمى بعقيدة الأمة ومبادئها، بل إنها التجسيد العملي لقيم الأمة ومثلها، وعنوان تمسكها بعقيدتها، ودليل التزامها بالمنهج السليم والصراط المستقيم، ولا يتم التحلي بالأخلاق العالية والآداب السامية إلا بترويض النفوس على نبيل الصفات وكريم السجايا والعادات، تعليمًا وتهذيبًا واقتداءً وتقويمًا. ومن شمولية هذا الدين وعظمته أنه دين الأخلاق الفاضلة والسجايا الحميدة والصفات النبيلة، جاءت تعاليمه وقِيَمه بالأمر بالمحافظة على الأخلاق الحسنة في كل أحوال المسلمين، صغيرها وكبيرها، دقيقها وجليلها، أفرادًا ومجتمعات، وأسرًا وجماعات، ويكفي لبيان ذلك أن حصَرَ النبي مهمة بعثته وهدف رسالته في إصلاح الأخلاق وتهذيبها بقوله: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)). وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا أيها المسلمون، وقد جعل الإسلام للأبواب الواسعة من الأخلاق الفاضلة والسجايا الحميدة والخصال الحسنة جعل لها مفتاحًا واحدًا وعنوانًا واضحًا ودليلاً ظاهرًا، به يقاس معيار الخلق جميله أو قبيحه، ذلك ـ يا معاشر المسلمين ـ هو خلق الحياء، الحياء من الله والحياء من الناس. بذلك جاءت وصايا الرسول الكريم لأمته في كثير من أقواله وتوجيهاته التربوية، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله مرّ على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء، أي: ينهاه عن كثرة الحياء، فقال رسول الله : ((دعه؛ فإن الحياء من الإيمان))، وعن عمران بن حصين قال: قال رسول الله : ((الحياء لا يأتي إلا بخير))، وفي رواية لمسلم: ((الحياء خير كله)) أو قال: ((الحياء كله خير))، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، أو بضع وستون شعبة، أفضلها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان))، وعن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله أشد حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئًا يكرهه عرفناه في وجهه. ما هو الحياء؟ ما هو تعريف الحياء؟ الحياء ـ عباد الله ـ هو خلق الإسلام الفاضل الذي يحمل على ترك القبيح من الصفات والأفعال والأقوال، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق سبحانه وتعالى، وذلك عندما يرى العبد آلاء الله ونعمه عليه، ويرى تقصيره في شكرها والقيام بحقها، وعبودية الله تعالى على الوجه الذي شرعه سبحانه دون تفريط أو إفراط. الحياء هو امتناع النفس عن فعل ما يعاب، وانقباضها من فعل شيء أو تركه مخافة ما يعقبه من ذم ولوم. والدعوة إلى التخلق بالحياء وملازمته إنما هي دعوة إلى الامتناع عن كل معصية وشر، فالحياء خلة من خلال الخير، وشعبة من شعب الإيمان، وعليه مدار كثير من أحكام الإسلام. قال الفضيل بن عياض رحمه الله: "من علامات الشقوة القسوة في القلب، وجمود العين، وقلة الحياء، والرغبة في الدنيا، وطول الأمد". عباد الله، الحياء أصل الخير والعقل، وتركه أصل الشر والجهل، فالحياء يدل على كمال عقل صاحبه، فمتى وجد في الإنسان الحياء وجد فيه الخير كله، ومتى فارقه الحياء قادته نفسه وشيطانه إلى الهلاك المحتوم، وأرداه موارد الفساد. إذا قل ماء الوجه قل حياؤه فلا خير في وجه إذا قل ماؤه حياؤك فاحفظه عليك فإنما يدل على وجه الكريم حياؤه بالهيبة والحياء ـ عباد الله ـ تعمر القلوب، وتزكو النفوس، فإذا ذهبا من القلب لم يبق فيه خير، وعلى قدر حياة القلب تكون قوة الحياء، وقلة الحياء من موت القلب والروح. إذا لَم تَخش عاقبة الليالِي ولَم تستح فاصنع ما تشاء فلا والله ما في العيش خير ولا الدنيا إذا ذهب الحياء يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللّحاء من قوي حياؤه صان عرضه، ودفن مساوئه، ونشر محاسنه، وكان ذكره عند الناس محمودًا وعند الله مرفوعًا. ومن ذهب حياؤه ذهب سروره، وظهرت مساوئه، ودفنت محاسنه، وكان عند الناس مهانًا وعند الله ممقوتًا. الحياء والإيمان قُرنا جميعًا، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر. إن الله تعالى إذا أبغض عبدًا نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا بغيضًا مبغضًا. عباد الله، وكما يستحيي المسلم من الخَلق فلا يكشف لهم عورة ولا يقصر لهم في حقّ ولا ينكر لهم معروفًا فإن عليه أن يستحيي من الخالق سبحانه، فلا يقصّر في طاعته، ولا في شكر نعمته، لما يرى من قدرة الله عليه وعلمه به، فالله أحق أن يستحيى منه، ومن استحيى من الله حق الحياء حفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وذكر الموت والبلى، وترك زينة الحياة الدنيا، وشكر نعمة الله تعالى عليه، وأدرك عظمته واطلاعه عليه وإحاطته بعباده وقربه منهم وعلمه بخائنة الأعين وما تخفي الصدور، ثم رجع على نفسه فحاسبها على التقصير، فلا يراه الله حيث نهاه، ولا يفقده حيث أمره، قال عمر : (من استحيا اختفى، ومن اختفى اتقى، ومن اتقى وُقِيَ). عباد الله، ومن ثمرات الحياء العفة والوفاء، فمن اتصف بالحياء صار عفيفًا وفيًا بعيدًا عن كل منقصة، قريبًا من كل فضيلة. قال الأحنف بن قيس رحمه الله: (اثنتان لا تجتمعان أبدًا في بشر: الكذب والمروءة، ومن ثمرات المروءة الصدق والوفاء والعفة والحياء). أيها المسلمون، وإذا فُقِد الحياء من المرء فقل: عليه السلام، فقد هبط إلى ميدان الرذيلة، وهوى في دركات الحماقة والوقاحة، ولم تزل خطواته تقوده من سيئة إلى أخرى حتى يصير بذيًا جافيًا، فيه قبائح الأفعال وسيّئ الأقوال. إن الله عز وجل إذا أراد بعبده هلاكًا نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتًا، فإذا كان كذلك نزع منه الأمانة فلم تلقه إلا خائنًا، فإذا كان خائنًا نزع منه الرحمة فلم تلقه إلا فظًا غليظًا، فإذا كان فظًا غليظًا نزع ربقة الإيمان من عنقه، فإذا نزع ربقة الإيمان من عنقه لم تلقه إلا شيطانًا لعينًا. وعند البخاري من حديث أبي مسعود الأنصاري أنه قال: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)). الحياء ـ يا عباد الله ـ سراج منيع وحصن حصين من الوقوع في المعاصي والمحرمات، فمن ذهب حياؤه ذهبت مروءته، ومن ذهبت مروءته قل إحساسه، فلم يدر عيب الناس وانتقاصهم. ورُبّ قبيحة ما حال بينِي وبيْن ركوبِهـا إلا الحياء فكان هو الدواء لها ولكن إذا ذهب الحياء فلا دواء وما عانت المجتمعات ـ يا عباد الله ـ من المحن وانتشرت فيها الإحن وتتابعت عليها الفتن إلا يوم ضاع الحياء، فاستبيحت المحرمات، وعانق الناس الرذيلة، وأقصيت الفضيلة بدعوى الحضارة والتمدن. هل ضُيّعت الصلوات وعُطّلت أحكام الدين إلا يوم قل الحياء من الله وابتعد الناس عن الدين؟! وهل وقع في المعصية من وقع إلا يوم قل حياؤه من الله تعالى فاستهان بالله سبحانه حتى جعله أهون الناظرين إليه؟! وهل ظهر الاختلاط بين الرجال والنساء وانتشرت المعاكسات وعم الفساد إلا حين كسرت المرأة حجابها ودفقت ماء حيائها وضاع من وجهها العفاف فخرجت إلى المنتديات وتسكعت في الأسواق والطرقات وأغرت ضعاف النفوس وعديمي الحياء والمروءة وأدمت قلوبهم فوقعوا في الجرائم والفواحش؟! وهل فُقِدت الغيرة من الرجال فسمحوا لنسائهم بمشاهدة الأفلام الماجنة والمسلسلات الخليعة والوقوع في المحرمات من اختلاط بالخدم والباعة والخروج مع السائقين والسفلة إلا حين ضاع منهم الحياء وفشت فيهم الرذيلة؟! أعاذنا الله وإياكم منها. نعم يا عباد الله، أين الحياء ممن شغفوا بالأغاني الماجنة ومزامير الشيطان فأزعجوا بها الناس في طرقاتهم ومنازلهم؟! بل وأين الحياء ممن ضيعوا أبناءهم في الشوارع يخالطون قرناء السوء ويصاحبون ذوي الأخلاق الرديئة؟! وأين الحياء من المدخن الذي ينفث الدخان من فمه في وجوه جلسائه ومن حوله دون مبالاة بشعورهم؟! وأين الحياء من الموظف الذي يستهتر بالمسؤولية الملقاة على عاتقه ويتعامل مع المراجعين بكل صلف ورعونة؟! وأين الحياء من التاجر الذي يخدع الناس ويغش في السلع ويكذب في المعاملة؟! إن الذي حمل هؤلاء وغيرهم على النزول إلى هذه المستويات الهابطة من الأخلاق والتعامل هو ذهاب الحياء، وصدق المصطفى حين قال: ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت)). وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتمًا وعويلاً اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم جنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، واهدنا لأقوم الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها يا رب العالمين. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم. |