أما بعد: عباد الله، إن لهذه الأمة سلفاً، هم أبر الناس قلوباً، وأحسنهم إيماناً، وأقلهم تكلفاً، سيرة كل عظيم منهم عظة وعبرة، وفي اقتفاء أثر أحدهم هداية، وفي الحياد عن طريقهم غواية. وإننا اليوم على موعد مع واحد من هؤلاء العظماء. رجل عاش الجاهلية والإسلام، رجل غليظ شديد ولكن على الباطل، ورقيق حليم رحيم بالمؤمنين، ولي من أولياء الله، خليفة من خلفاء المسلمين، مرقع الثياب ولكن راسخ الإيمان، تولى أمر المسلمين فطوى فراشه، وقال: (إن نمت بالنهار ضاعت، رعيتي وإن نمت بالليل ضاعت نفسي)، إنه شهيد المحراب، إنه من قتل وهو يصلي على يد من لم يسجد لله سجدة، أظنكم قد عرفتموه، إنه أبو حفص، إنه الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وجمعني وإياكم في زمرته. فلنستشعر هذه الصور الجميلة في حياة عمر، فحياته كلها عبر ودروس. الصورة الأولى: وهو مولده في الإسلام رضي الله عنه، أسلم لما سمع طه مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْءانَ لِتَشْقَىٰ إِلاَّ تَذْكِرَةً لّمَن يَخْشَىٰ تَنزِيلاً مّمَّنْ خَلَق ٱلأرْضَ وَٱلسَّمَـٰوٰتِ ٱلْعُلَى ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ [طه:1-5]، فَسَرَتْ في قلبه، وحركت وجدانه، فتحول من حال إلى حال. قد كنت أَعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها قل للمـلوك تنحـوا عن مناصبكم فقـد أتـى آخذ الدنيا ومعطيها الصورة الثانية: الرسول عليه الصلاة والسلام يفسر ثلاث رؤى رآها في المنام، كلها لأبي حفص رضي الله عنه، وكلها صحيحة كالشمس. الأولى: قال صلى الله عليه وسلم: ((بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي، وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، وعرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره، قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين)) أخرجه البخاري ومسلم. الثانية: عن ابن عمر رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((بينا أنا نائم، أتيت بقدح لبن فشربت حتى أني لأرى الري يخرج من أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب، قالوا: فما أولته يا رسول الله، قال: العلم)) رواه البخاري ومسلم. الثالثة: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قال: ((بينا أنا نائم، رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب، فذكرت غَيْرَتَهُ، فوليت مدبراً))، فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا رسول الله) أخرجه البخاري. الصورة الثالثة: حل بأبي بكر رضي الله عنه السكرات فيكتب لعمر: (بسم الله الرحمن الرحيم، من أبي بكر إلى عمر بن الخطاب، وأنا في أول أيام الآخرة وآخر أيام الدنيا. أما بعد: فيا عمر بن الخطاب، قد وليتك أمر أمة محمد عليه الصلاة والسلام، فإن أصلحت وعدلت فهذا ظني فيك، وإن اتبعت هواك فالله المطلع على السرائر، وما أنا على صحبة الناس بحريص. يا عمر، اتق الله لا يصرعَنّك الله مصرعاً كمصرعي. والسلام). وتولى عمر وألقى خطبة عظيمة، بين فيها سياسته، وأوضح فيها واجباته تجاه الأمة، وسار في الناس سيرة عظيمة. كتب عنه الفضلاء، وحكى عنه العلماء، وتدارس سيرته الأذكياء. الصورة الرابعة: عمر رجل العَسّه [1] الأول، ينام الناس في عاصمة الخلافة ولا ينام، يشبع الناس ولا يشبع، يرتاح الناس ولا يرتاح. كان رضي الله عنه إذا هدأت العيون وتلألأت النجوم، يأخذ دِرَّتَه [2] ويجوب سكك المدينة؛ عله يجد ضعيفاً يساعده أو فقيراً يعطيه أو مجرماً يؤدبه. وبينما هو يمشي في ليلة من الليالي، إذْ بامرأة في جوف دار لها وحولها صبية يبكون، وإذا قِدْرٌ على النار قد ملأته، فدنا عمر من الباب فقال: أمةَ الله، ما بكاء هؤلاء الصبيان؟ قالت: بكاؤهم من الجوع. قال: فما هذا القِدر الذي على النار؟ قالت: ما أعللهم به حتى يناموا وأوهمهم أن فيه شيئاً. فبكى عمر ثم جاء إلى دار الصدقة، وأخذ غرارة [3] وجعل فيها شيئاً من دقيق وشحم وسمن وتمر وثياب ودراهم حتى ملأ الغرارة ثم قال لمولاه: يا أسلم احمل عليّ، قال: يا أمير المؤمنين، أنا أحمله عنك. قال: لا أم لك يا أسلم، أنا أحمله لأني أنا المسؤول عنهم في الآخرة. فحمله حتى أتي به منزل المرأة، فأخذ القدر، فجعل فيه دقيقاً وشيئاً من شحم وتمر، وجعل يحركه بيده، وينفخ تحت القدر، قال أسلم: فرأيت الدخان يخرج من خلل لحيته حتى طبخ لهم، ثم جعل يغرف بيده، ويطعمهم حتى شبعوا. أين أصحاب المسؤوليات؟ أين الرعاة من هذه الأخلاق العظيمة؟ الصورة الخامسة: كان عمرو بن العاص رضي الله عنه والياً على مصر في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فجاء رجل من أهل مصر إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين، عائذ بك من الظلم، فقال عمر: عذت معاذاً، قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين. فكتب عمر رضي الله عنه إلى عمرو رضي الله عنه يأمره بالقدوم ويقدَم بابنه معه، فقدم فقال عمر: أين المصري؟ ثم قال: خذ السوط، فاضرب. فجعل المصري يضرب ابن عمرو بالسوط، ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين. قال الراوي: فضرب، والله فما أقلع عنه حتى تمنينا أن يرفع عنه. ثم قال عمر لعمرو رضي الله عنهما: مذ كم تعبَّدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً. قال: يا أمير المؤمنين، لم أعلم ولم يأتني. الصورة السادسة: وتستمر مسيرة عمر رضي الله عنه، ويدخل عام الرمادة سنة ثماني عشرة للهجرة، فيقضي على الأخضر واليابس، يموت الناس جوعاً، فحلف عمر لا يأكل سميناً حتى يرفع الله الضائقة عن المسلمين، وضرب لنفسه خيمة مع المسلمين حتى يباشر بنفسه توزيع الطعام على الناس، وكان رضي الله عنه يبكي ويقول: آلله يا عمر كم قتلت من نفس! ويقف على المنبر يوم الجمعة ببرده المرقع، ووالله لو أراد أن يبني بيته من الذهب الخالص لاستطاع، ولو أراد أن يمشي من بيته إلى المسجد على الحرير والاستبرق لاستطاع، ولكن يقف أثناء الخطبة، فيقرقر بطنه وأمعاؤه تلتهب من الجوع، فيقول لبطنه: قرقر أو لا تقرقر، والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين. الصورة السابعة: حج عمر رضي الله عنه بالمسلمين آخر حجة له، ووقف يوم عرفة، فخطب الناس، ثم استدعى أمراء الأقاليم وحاسبهم جميعاً أمام الناس واقتص للناس منهم، وبعد أن انتهى ذهب ليرمي الجمرات فرماه أحد الحجاج بحصاة في رأسه فسال دمه، فقال عمر: هذا قتلي. ـ يعني أنني سوف أقتل ـ. قال سعيد بن المسيب رضي الله عنه: لما صدر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، من منى أناخ بالأبطح ثم كوم كومة من بطحاء، ثم طرح عليها رداءه واستلقى ثم مد يديه إلى المساء، فقال: اللهم كبرت سني وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرِّط. قال سعيد: فما انسلخ ذو الحجة حتى قتل عمر رضي الله عنه، رجع إلى المدينة وهو يتمنى الشهادة، قالت له حفصة ابنته: يا أبتِ، موت في سبيل الله وقتل في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن من أراد أن يقتل فليذهب إلى الثغور. فيجيب عمر: سألت ربي وأرجو أن يلبي لي ربي ما سألت. الصورة الأخيرة: وصل عمر إلى المدينة ورأى في المنام أن ديكاً ينقره نقرتين أو ثلاث فعبروا له الرؤيا فقالوا: يقتلك رجل من العجم، فقام وخطب الناس، وقدم نفسه للمحاسبة وجسمه للقصاص وماله للمصادرة، وأعلن في الناس: إن كان ضيع أحداً أو ظلم أحداً أو سفك دم أحد فهذا جسمه فليقتص منه، فلما فعل ذلك ارتج المسجد بالبكاء، وأحس المسلمون أنه يودعهم ثم نزل من على المنبر واستودع الله الأمة، وكانت هذه هي آخر جمعة يلتقي فيها أمير المؤمنين بأمة محمد صلى الله عليه وسلم. صلى عمر الفجر في أحد الأيام، وفي أثناء الصلاة أتاه أبو لؤلؤة المجوسي الذي ما سجد لله سجدة، فكانت نهاية هذا الطود الشامخ على يديه. مولى المغيرة لاجادتْك غادية من رحمة الله ما جادت غواديها [4]مزّقت منه أديمـاً حَشْـوُهُ هِمَمٌ فـي ذمّة الله عاليهـا وماضيها [5]فما راع الناس إلا صوت عبد الرحمن بن عوف يكمل بهم الصلاة خفيفة، وفزع الناس أين صوت عمر؟ أين صوت الخليفة؟ أين صوت الحبيب؟ أين العادل؟ أصبح في سكرات الموت يسأل وهو في السكرات: من قتلني؟ قالوا: أبو لؤلؤة المجوسي، قال: الحمد لله الذي جعل قتلي على يد رجل ما سجد لله سجدة. وحملوه إلى البيت وأحضروا له وسادة فنزعها وقال: ضعوا رأسي على التراب، لعل الله أن يرحمني، وأخذ يبكي ويقول: يا من لا يزول ملكه، ارحم من زال ملكه. ويدخل عليه أحد الشباب يعوده فيرى طول إزاره، فيقول له: ارفع إزارك، فإنه أتقى لربك وأنقى لثوبك. يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر حتى وهو بهذه الحال. استأذن عائشةَ أن يدفن مع صاحبيه، فقالت له: لقد هيأت هذا المكان لنفسي، لكن والله لأوثرن عمر به، ادفنوه مع صاحبيه. أيا عمر الفاروق هل لـك عـودة فإن جيـوش الروم تنهـى وتأمر رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم وجيشك في حطين صلوا وكبروا نساء فلسـطينٍ تكحلـن بالأسـى وفي بيت لحم قاصـرات وقصّر وليمون (يافا) يابس في حقـولـه وهل شجر في فيضه الظلم يثمر اللهم ارض عن عمر، والعن من لعنه، اللهم ألحقنا بالصالحين، واحشرنا في زمرة المتقين، برحمتك يا أرحم الراحمين. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَـٰهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى ٱلتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِى ٱلإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَازَرَهُ فَٱسْتَغْلَظَ فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ [الفتح:29].
[1] عَسَّ عسًّا وعَسَسًا واعتسَّ: طاف بالليل. (القاموس المحيط، مادة: عسس). [2] الدِرَّه – بالكسر -: التي يضرب بها. (القاموس المحيط، مادة: درر). [3] الغِرارة: الجُوالق (وعاء) .. قال الجوهري: الغرارة، واحدة الغرائر التي للتبْن، قال – أي الجوهري – وأظنّه معرّباً. (لسان العرب، مادة: غرر)، (القاموس المحيط، مادة: جولق). [4] الغادية: السحابة تنشأ غدوة، والجمع: الفوادي: وجادتك: أمطرتْك. يدعو عليه بانقطاع الخير والرحمة عنه. (ديوان حافظ، قسم المديح والتهاني). [5] الأديم: الجلد. وقوله: (عاليها وماضيها) يصف همة عمر بالرفعة والمَضَاء. (ديوان حافظ، قسم المديح والتهاني).
|