أما بعد: يا أمة يبس الزمـان وعودها ريـان من نبع النبـوة أملدُ تسري بأعماق السنين جذوره وتشد أذرعه النجوم فيصعـد يا أمـة القرآن لـم يذبل على شـفتيك هـذا اللؤلؤ المتوقد إنها أمة القرآن، أمة الإسلام، أمة محمد صلى الله عليه وسلم. هذه الأمة التي فضلها الله عزوجل على سائر الأمم واختصها بكرامات كثيرة في الدنيا ليست لغيرها، وإنما نالت من ذلك مانالته باتباعها لرسولها محمد صلى الله عليه وسلم. إنها خير الأمم وأكرمها، وحسبنا شهادة الله في كتابه: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ [آل عمران:110]. قال صلى الله عليه وسلم في هذه الآية: ((إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله)) [الترمذي:3001، وقال حديث حسن]. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((فضلت على الأنبياء بست لم يعطهن أحد كان قبلي))، وفيه: ((وجعلت أمتي خير الأمم)) [البزار بإسناد جيد]. وهذه الأمة المحمدية العظيمة التي حازت شهادة الخيرية جعل الله لها جملة من الخصائص امتازت بها على غيرها من الأمم. فمن خصائصها: حل الغنائم. فقد كانت الأمم قبلنا على ضربين: منهم من لم يؤذن له في الجهاد فلم تكن لهم غنائم، ومنهم من أذن له في الجهاد فكانوا يغزون ويجاهدون ويأخذون أموال أعدائهم ولكن لا يتصرفون فيها بل يجمعونها، وعلامة قبول غزوهم أن تنزل نار من السماء فتأكلها، وعلامة عدم القبول ألا تنزل. وقد من الله على هذه الأمة ورحمها لشرف نبيها عنده فأحل لهم الغنائم فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَـٰلاً طَيّباً [الأنفال:69]. وفي الحديث عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي)) وذكر منها: ((وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي)) [البخاري ومسلم]. ومن خصائص الأمة المحمدية أن جعلت لها الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل أدركته الصلاة فلم يجد ماء ولا مسجدا فعنده طهوره ومسجده فيتيمم ويصلي بخلاف الأمم من قبلنا فإن الصلاة أبيحت لهم في أماكن مخصوصة كالبيع والصوامع. وعن عبد الله بن عمر وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ عام غزوة تبوك ـ قام يصلي فاجتمع وراءه رجال يحرسونه حتى إذا صلى انصرف إليهم وقال: ((أعطيت الليلة خمساً ما أعطيهن أحد قبلي))، وفيه: ((وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت، وكان من قبلي يعظِّمون ذلك إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيعهم)) [أحمد وقال الهيثمي رجاله ثقات]. ومن خصائص هذه الأمة المحمدية أن الله وضع عنها الأغلال والأثقال والآصار التي كانت على الأمم قبلها فأحل لها كثيراً مما حرم على غيرها، ولم يجعل عليها في أحكامها عنتاً وشدة كما قال الله: هُوَ ٱجْتَبَـٰكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ٱلدّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]. فكانت شريعة المصطفى صلى الله عليه وسلم أكمل الشرائع وأيسرها وأسهلها، حتى قال عليه الصلاة والسلام: ((إني أرسلت بحنيفية سمحة)) [أحمد]. وفي الحديث الذي رواه أحمد عن حذيفة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((وأحل لنا كثيراً مما شدد على من قبلنا ولم يجعل علينا من حرج)). وحسبك حتى تدرك رحمة الله بهذه الأمة وتيسيره عليها أن تعلم ما يلي: 1ـ كان بن وإسرائيل إذا أصاب أحدهم البول قرضه بالمقراض، فلا يطهر إلا بذلك، ونحن نكتفي بغسله. [أحمد]. 2ـ كان اليهود إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيت. [أي لم يجلسوا وإياها تحت سقف واحد]. ونحن أحل لنا الاستمتاع بالحائض فيما دون الفرج. [مسلم:302]. 3ـ كان في بني إسرائيل القصاص في القتلى ولم تكن فيهم الدية فخفف الله عنا بتشريع الدية فذلك قوله تعالى: فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْء فَٱتِبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَـٰنٍ ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ [البقرة:178]. 4ـ كانت بن وإسرائيل إذا أصاب أحدهم ذنباً أصبح مكتوباً على بابه ذنبه وكفارة ذلك الذنب. [أثر عن ابن مسعود رواه ابن جرير]. 5ـ كان صوم من قبلنا من الأمم إمساك عن الكلام مع الطعام والشراب فكانوا في حرج، ورخص الله لنا بحذف الإمساك عن الكلام. [قال ابن العربي وأورد ابن كثير أثراً عن مالك بمعناه]. ومن خصائص هذه الأمة المحمدية أن الله هداها ليوم الجمعة سيد الأيام وخير يوم طلعت فيه الشمس. عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوت والكتاب من قبلنا، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله فالناس لنا فيه تبع، اليهود غداً والنصارى بعد غد)) [البخاري ومسلم:855]. ومن خصائص هذه الأمة المحمدية أن الله تجاوز عنها الخطأ والنسيان وحديث النفس ما لم تعمل أو تتكلم. روى أب وهريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به نفسها ما لم يتكلموا أ ويعملوا به)) [البخاري ومسلم:127]. ومن خصائص هذه الأمة المحمدية أنها محفوظة من الهلاك والاستئصال فلا تهلك بالسنين ولا بجوع ولا بغرق ولا يسلط عليها عد ومن غيرها فيستبيح بيضتها ويستأصلها. فعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض (أي كسرى وفارس)، وإني سألت ربي ألا يهلكها بسنة عامة وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم. وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامـة (أي قحط) وألا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ول واجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضا)) [مسلم:2889]. ومن خصائص هذه الأمة المحمدية أنها لا تجتمع على ضلالة فهي معصومة من الخطأ عند اجتماعها على أمر، كما أنها لا تخل ومن وجود طائفة قائمة بالحق في كل زمان لا يضرها من خالفها. عن كعب بن عاصم الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد أجار أمتي أن تجتمع على ضلالة)) [ابن أبي عاصم وقال الألباني: الحديث بمجموع طرقه حسن]. وعن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)) [البخاري ومسلم:1920]. ومن خصائص هذه الأمة المحمدية أن الله قبل شهادتها وجعل أهلها شهداءه في أرضه، فقد جاء في حديث أنس بن مالك أن جنازة مرت فأثني عليه خيراً فقال النبي: ((وجبت وجبت)) ثم مرت أخرى فأثني عليها شراً فقال النبي: ((وجبت وجبت)) فلما سأله عمر عن ذلك قال: ((من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض)) [البخاري:1367، ومسلم:949]. ومن خصائص هذه الأمة المحمدية أن صفوفها في الصلاة كصفوف الملائكة، ولم يكن هذا لأمة قبلها، فقد جاء في الحديث الذي رواه حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قـال: ((فضلنا على الناس بثلاث))، وذكر منها: ((جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة)) [مسلم:522]. |