أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102]. الأسرة المسلمة نواة المجتمع الصالح، فصلاح الفرد من صلاح الأسرة، وصلاح المجتمع بأسره كذلك من صلاح الأسرة. اهتم الإسلام اهتماماً لا مزيد عليه بشأن الأسرة، وأُسُسِ تكوينها، وأسباب دوام ترابطها، لتبقى الأسرة المسلمة شامخة يسودها الوئام، وترفرف عليها المحبة، وتتلاقى فيها مشاعر المودة والرحمة، قال تعالى: وَمِنْ ءايَـٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوٰجاً لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21]، ولتعيش الأسرة المسلمة وِحْدة شعور ووِحدَة عواطف قال تعالى: هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ [البقرة:187]. بيَّن القرآن للأزواج أن كلا منهما ضروري للآخر ومتمم له، قال تعالى: هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ وٰحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف:189]، ولا يتصور أن تقوم حياةٌ إنسانية على استقامة إذا هُدمت الأسرة، والذين ينادون بحلّ نظام الأسرة لا يريدون بالبشرية خيراً، وقد كانت دعوتهم ولا زالت صوتاً نشازاً على مرّ التأريخ. تقوم الأسرة على أساس التفاهم، وتمارس أعمالها بتشاور، ويبني حياتها على التراضي، هذا بيان قرآني بليغ يجلي هذه المبادئ السامية؛ فعند رضاع الأولاد، وفطامهم ولو بعد الانفصال يقول تعالى: وَٱلْوٰلِدٰتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـٰدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَاد أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ ، إلى قوله: فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا [البقرة:233]. الأسرة التي تروم السعادة، وتبحث عن الاستقرار، تبني حياتها على أسس راسخة، أبرزها رعاية واحترام الحقوق بين الزوجين، المعاشرة بالمعروف، فتح آفاق واسعة من المشاعر الفياضة، ليتدفق نبع المحبة وتقوى الرابطة، وهنا يجد الأزواج السكن النفسي الذي نصّ عليه القرآن. بمثل هذا الرسوخ تؤمّن الأسرة من التصدّع، وإذا نشأ خلاف فإن المحبة الصادقة والمودة ستذيبه. إن الحكيم الخبير علم أن النفس قد تثور فيها أحياناً وفي أجواء الخلاف مشاعر الكراهية، فيجد الشيطان ضالته المنشودة لهدم كيان الأسرة، فكان التوجيه القرآني لتنقية المشاعر وليعود للحياة صفاؤها، وللأسرة بهاؤها، قال تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً [النساء:19]، ولذلك قال الإمام ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: "أي فعسى أن يكون صبركم في إمساكهن مع الكراهية فيه خير كثير لكم في الدنيا والآخرة" [1]. قد يجني الجاهل على نفسه، ويدمّر حياته بطوعه واختياره، حين يستبدل المحبة والمودة والرحمة بالعناد والتحدي، وهذا نذير شؤم، وبداية تصدع، ولا يدمر الأسرة شيء كما يدمرها العناد والتحدي. فالخلافات الصغيرة تصبح بالعناد كبيرة، والخلافات الكبيرة تغدو باللين والصبر صغيرة. كم نسمع ونشاهد تصدّع أسر وهي في مهدها، ولما يكتمل نباؤها، نتيجة لهذه الاعتبارات. وقد قرر كثير من الباحثين أن التفكك الأسري سببٌ رئيس في انحراف الأهداف والسلوك من طريق الجنوح، ولهذا فإن الأسرة مطالبة بحماية نفسها قبل حدوث الشقاق، ولا يخفى أن الحياة لا تصفو دائماً، بل هي معرضة للسراء والضراء. كل شيء في هذا الكون مهما صغر شأنه له حكمة ويؤدي وظيفة، فما رسالة الأسرة المسلمة؟ للأسرة المسلمة في المجتمع المسلم وظائف، أهمها: إقامة حدود الله، وتطبيق شرعه ومرضاته بتأسيس البيت المسلم، قال تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ [البقرة:229]، تكثير نسل الأمة المسلمة، قال : ((النكاح من سنتي، فمن لم يعمل بسنتي فليس مني، وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم)) [أخرجه ابن ماجه من حديث عائشة رضي الله عنها] [2]. تكثير النسل قوة للأمة، وعزةٌ، وحسن ذكر بعد الموت. ودعاة تحديد النسل لا يرومون للأمة الخير، وحججهم الواهية تدل على أنهم قد أصيبوا بانهزامية نفسية مع ضعف يقين وتوكلٍ على الله. إعداد النسل المسلم وتربيته من وظائف الأسرة، بل هي المدرسة الأولى التي يتلقى الولد في جنباتها أصول عقيدته، ومبادئ إسلامه، وقيمه وتعاليمه، ولا يقوم مقامها دور الرعاية والخادمات، فالطفل الذي يرضع حليب أمه، ويرضع معه حنانها ودفأها لن يساويه ذلك الطفل الذي يعيش بين أكناف المربيات والخادمات، دون عطف ولا رعاية ولا حنان ولا مشاعر. الأسرة المسلمة مسؤولة أمام الله عن تنشئة الأبناء على الإسلام، فهل تمارس أسرنا اليوم رسالتها التربوية؟ هل هي من القوة والمكانة والرسوخ ما يؤهلها لمقاومة العلمنة والتغريب؟ هل يجلس أفراد الأسرة على موائد القرآن أم على مشاهد العصيان؟ هل يتلقى أولادنا في بيوتنا التذكرة النافعة، والعظة الرشيدة، والآداب الرفيعة؟ إن أي تقصير أو إخفاق في قيام الأسرة بدورها التربوي ستكون له عواقب وخيمة على سلوك الأبناء والبنات، ومن ثم على المجتمع في بنائه وفكره وأمنه. القيام بالواجبات الأسرية أمانة سيسأل عنها الزوجان يوم القيامة، كما أخبر بذلك الصادق المصدوق : ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها)) [أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما] [3]. من الأمانة تطهير البيت من المنكرات، وإلزام أهل البيت بالفرائض والواجبات، وحثهم على الفضائل والمستحبات. من الأهداف الرئيسة لأسرتك أيها المسلم إقامة رابطة قوية بين أبناء الأسرة والمسجد، ذلك أن المسجد في حياة المسلم جوهريّ وأساس، والتردد على المسجد عمل تربوي جليل القدر، عميق الأثر، يغرس في النفوس الفضائل والقيم والآداب. لقد استطاعت الأسرة المسلمة التي قامت على الإيمان بالله، وتمسكت بأخلاق الإسلام، وتعقلت بالمساجد، استطاعت بنور القرآن أن تخرّج للحياة أبطالاً شجعاناً، وعلماء أفذاذاً، وعباداً زهاداً، وقادة مخلصين، ورجالاً صالحين، ونساء عابدات، كتبوا صفحة تأريخ مجيدة في حياة المسلمين. وهي اليوم تواجه حملة شرسة لزعزعة أركانها، وإلغاء كيانها، بفكّ رباط الأسرة، وإفساد أخلاق المرأة، ونبذ قيم الأسرة، والدعوة الى العهر والاختلاط والإباحية. وإذا تحطمت الأسرة، هل يبقى ثم أمة؟! وإن بقيت، فهل ستكون إلا على هامش الحياة؟! لقد تفككت عرى الأسرة في بعض بلاد المسلمين نيتجة السقوط في حمأة التقليد الأعمى للغرب، والانسياق وراء كل نحلة ترد منه، فكثرت حالات الطلاق، وتدمرت الحياة، وأضاع المجتمع، وعزف كثير من الشباب عن الزواج، تبع ذلك انطلاق محموم وراء الشهوات البهيمية. إن الدور القادم - عباد الله – دور خطير ومؤثر، فقد أسهمت التغيرات الاجتماعية في تقليص دور الأسرة، واستولت أجهزة البث الفضائي وغيرها على وقت الأسرة، وأثرت في مسارها، وخلخلت قيمها، ففقدت الأسرة في بعض المواضع تأثيرها، وشيئاً من فاعليتها. إن هذه الأجهزة وغيرها، زاحمت الأسرة في توجيه الأبناء والبنات، داخل المعقل الحصين بجاذبية مدروسة، وغزو مستور ومكشوف، لتقطع صلتهم بأمتهم، وتضعف عقيدتهم، وتنسف غيرتهم. لكن المؤلم حقاً أن بعض الأسر قد تخلت عن دورها في مهمة التربية العقدية والفكرية، وأسلمت أولادها لأجهزة البث الفضائي وغيرها، تصنع ما يحلو لها من هدم ومكر. إخوة الإسلام: بناء الأسرة على الوجه السليم الرشيد ليس أمراً سهلاً، بل هو واجب جليل يحتاج إلى إعداد واستعداد، كما أن الحياة الزوجية ليست لهواً ولعباً، وليست مجرد تسلية واستمتاع، بل هي تبعات ومسؤوليات وواجبات، من تعرض لها دون صلاح أو قدرة كان جاهلاً غافلاً عن حكمة التشريع الإلهي، ومن أساء استعمالها أو ضيّع عامداً حقوقها استحق غضب الله وعقابه، ولذلك ينبغي أن يكون الإنسان صالحاً لهذه الحياة، قادراً على النهوض بتبعاتها، قال الله تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً [التحريم:6]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] تفسير القرآن العظيم (1/442). [2] أخرجه ابن ماجه في كتاب النكاح [1846]، وفي سنده عيسى بن ميمون وهو ضعيف، وله شواهد تقوية، انظر : التلخيص الحبير (3/116-117). [3] أخرجه البخاري في كتاب الجمعة [853-البغا-]، ومسلم في كتاب الإمارة [1829]. |