أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد: فما زلنا مع بعض الأحكام المتعلقة بالأولاد في الإسلام، والتي يلزم المسؤلان عن الأسرة المسلمة ـ أي الأب والأم ـ العلم بها ليقوما بتربية أبنائهم على ضوء منها، وليحسن إعدادهم لدورهم المنتظر منهم، واستكمالاً لما مضى من الكلام على البشارة بالمولود أقول: كان الناس في الجاهلية يهنئون بولادة الذكر وبوفاة الأنثى دون ولادتها، وكانوا يقولون للزوج عند بناءه بزوجه: (بالرفاء والبنين) أي يدعون له بالالتحام والاتفاق، وبأن يُرزق البنين دون البنات، فيُهنئون بالبنين دون البنات، وقد تقدم ذكر قول الله تعالى في سورة النحل وفي سورة الزخرف إنكارًا على هؤلاء الذين كانوا يستبشرون بالذكر، وتسود وجوههم إذا بشروا بالأنثى، قال الله تعالى: وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بِٱلأُنْثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَىٰ مِنَ ٱلْقَوْمِ مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى ٱلتُّرَابِ أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ . وندب رسول الله المسلمين إلى أن يقولوا بدلاً من "بالرفاء والبنين" تلك التهنئة الجاهلية ندبهم إلى أن يقولوا: ((بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير)). هكذا يُدعى للزوج. وأما عن البشارة بالمولود فذلك يكون في حينه عندما يولد له فيبُشر سواء ولد له ذكر أو أثنى، ولهذا ذكر ابن المنذر عن الحسن البصري رحمه الله تعالى أن رجلاً هنأ رجلاً جالسًا عنده بالمولود الذكر فقال له: هنيئًا لك بالفارس أو كلمة نحوها. وعندها ظن الحسن البصري رحمه الله أن في الرجل بقية وآثارًا من الجاهلين ولهذا استعمل هذه التهنئة المبالغ فيها، فقال له، عندها خشية من الذين يهنئون بالذكر ويبالغون في ذلك ولا يهنئون بالأنثى، فقال له الحسن: "وما يدريك فارس هو أو حمار؟ فقال له: فكيف نقول؟ قال: قولوا: بورك في الموهوب، وشكرت الواهب، وبلغ أشده، ورُزقت بره" هذا هو آخر ما يتعلق بالبشارة بالمولود، ويبشر من ولد له بالولد الذكر أو الأنثى على السواء، ثم اعلموا أيها الأخوة الكرام رحمكم الله: أنه يستحب التأذين في أذن الصبي اليمنى عند ولادته وقد جاء في ذلك حديث صحيح أذكره بعد قليل، وأما الإقامة فقد ورد فيها حديثان ضعيفان، فحديث الأذان هو القوي وهو الصحيح، وقد أخرجه أبو داود والترمذي، وقال الترمذي: "حديث صحيح" عن أبي رافع رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله أذن في أُذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة). وقال ابن القيم رحمه الله تعالى عن التأذين وحكمته وسره قال: "وسر التأذين والله أعلم أن يكون أول ما يقرع سمع الإنسان كلماته (أي كلمات الأذان) لا الطبول ولا الغناء ولا الموسيقى ولا الزغاريد ولا نحو ذلك من الأساليب التي اعتادها المسلمون في أعصارهم الأخيرة، التي طال العهد بينها وبين الصدر الأول خير القرون قرن رسول الله والقرنين اللذين بعده. وسر التأذين والله أعلم أن يكون أول ما يقرع سمع الإنسان كلماته المتضمنة لكبرياء الرب (الله أكبر الله أكبر) وعظمته، والشهادة التي أول ما يُدخل بها في الإسلام، فكان ذلك كالتلقين له شعار الإسلام عند دخوله إلى الدنيا، كما يُلقن كلمة التوحيد عند خروجه منها، فكما هو من المسنون من رسول الله أن يُلقن المحتضر كلمة لا إله إلا الله عند خروجه من الدنيا لتكون كلمة الشهادة آخر ما يتوفى عليه المرء. فكذلك يُلقنها المولود عند دخوله إلى هذه الدنيا". ثم يقول رحمه الله: "وغير مستنكر وصول أثر التأذين إلى قلبه وتأثره به وإن لم يشعر، لا يستنكر أن يصل أثر التأذين إلى قلب ذلك الصبي وأن يتأثر بذلك وإن لم يعرف ولم يدرك معنى ما يُصنع به ويُفعل به، مع ما في ذلك من فائدة أخرى، وهي هروب الشيطان من كلمات الأذان، وهو كان يرصده حتى يولد فيقارنه (كان الشيطان ينتظره حتى يولد ليقارنه) للمحنة التي قدرها الله وشاءها (من خروج الأبوين وهبوطهما من الجنة إلى الأرض، وإنظار إبليس إلى يوم القيامة، وهو الذي حلف ليجتهدن في إضلال بني آدم، إلا عباد الله المخلصين، فينتظر الشيطان المولود ليقارنه) فيسمع شيطانه ما يضعفه ويغيظه، (وهو الأذان) أول تعلقه به وفيه معنى آخر (أي في التأذين معنى آخر وما زال الكلام لابن القيم رحمه الله) وهو أن تكون دعوته إلى الله وإلى دين الإسلام وإلى عبادته سابقة على دعوة الشيطان (يؤذن في أذنه حتى يُدعى فورًا إلى الله الأكبر وأنه لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله يدعى إلى ذلك قبل أن يدعوه الشيطان ليكون من جنده وأحزابه وأولياءه). كما كانت فطرة الله التي فطر الناس عليها سابقة على تغيير الشيطان لها، ونقله عنها ولغير ذلك من الحكم". ثم يستحب تحنيك الصبي وذلك أيضًا في لحظاته الأولى قبل أن ينزل إلى جوفه شيء يستحب أن يتولى من يُعرف بالصلاح مضغ تمرة في فمه ثم يضعها في فم الصبي ويديرها فيه ليكون ريقه أول ما يخالط ريق هذا الصبي [1] وذلك لما جاء في الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: وُلد لي غلام فأتيته النبي فسمّاه إبراهيم وحنّكه بتمرة. زاد البخاري رحمه الله: "ودعا له ودفعه إلي" وكان أكبر ولد أبي موسى رضي الله عنه. ولما جاء في الصحيحين من حديث أنس ابن مالك في قصة الولد عبد الله بن أبي طلحة أخي أنس ابن مالك لأمه أم سليم، هذا الولد الذي حملت به أمه في ليلة مات لها فيها ولدٌ كان مريضًا وكان صغيرًا، وهو الطفل الذي كان رسول الله عليه وسلم يداعبه، ويقول له: أبا عمير، ما فعل النُفير؟ كان هذا الطفل يلعب بطائر يقال له النُفير وكان رسول الله الرحيم الرقيق اللطيف إذا مَرّ بذلك الطفل يداعبه ويلاطفه ويقول له: أبا عمير ما فعل النُغير؟ ثم توفي هذا الولد، وفي الليلة التي مات فيها لم يكن أبوه موجودًا فلما عاد سأل عنه فعرضّت أم سليم ـ لم تُجب صراحة ولكن عرّضت وفي المعاريض مجال وبديل عن الكذب، يقال كلام ويُحمل على أكثر من معنى فيكون صاحبه وقائله صادقًا ـ قال لها: كيف حال الغلام؟ فقالت له: هو أسكن ما يكون الآن. وأرجو أن يكون قد استراح (إلى آخر ما جاء من الروايات في الكلام الذي عَرّضت به) ثم هيأت له نفسها فجامعها. ثم قالت له بعد ذلك: وارِ الغلام: أي ادفنه. فذهب إلى رسول الله وقص عليه الخبر فدعا له النبي بأن يبارك الله لهما في ليلتهما، فولد له من هذه الليلة التي قدر فيها هذا المولود، ولد منها عبد الله هذا الولد الصغير الذي ثبت أن رسول الله حنكه بتمرة ودعا له وهو الذي كان قد دعا له قبل أن يخرج إلى الدنيا في ليلة قدره الله تعالى حملاً. ودعا له بعد خروجه إلى الدنيا، قال الرواة: فرؤيَ له تسعة من الأولاد كلهم يحفظون كتاب الله القرآن الكريم لعبد الله هذا المولود الذي عوض الله به أبويه عن أبي عمير الطفل الذي مات. والشاهد أن رسول الله حنكه عند ولادته بتمرات، وكذلك روى أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء رضي الله عنها أنها حملت بعبد الله بن الزبير في مكة وولدته في قباء فجاءت به إلى الرسول في المدينة، ووضعته في حجره فتفل رسول الله في فيه وحنكه بتمرة، وهذا هو الذي يعم الجميع [2] وأما التفل بفعل رسول الله لا ينبغي أن يتفل أحد بعده في فم أحد أو على رأس أحد أو في وجه أحد احتجاجًا بفعل رسول الله فهذه خصوصيات له عليه الصلاة والسلام لا تتأتى لغيره، أمّا التحنيك فهو ثابتٌ للجميع. حنكه رسول الله بتمرة ودعا له بالبركة، فرح المهاجرون بعبد الله فرحًا شديدًا لأنه كان أول مولود يولد للمهاجرين في المدينة وكان قد قيل لهم: إن اليهود قد سحرتكم فلا يولد لكم، فلما ولد لهم هذا المولود استبشروا خيرًا وفرحوا به فرحًا شديدًا. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
[1] والصحيح أن التبرك بالريق من خصوصيات النبي ، ولا يشاركه فيها أحد مهما بلغت درجة صلاحه، لكن لو فعل ذلك بقصد تليين التمر كما تفعله الأم لولدها إذا أرادت أن تطعمه فهو أمر آخر ليس من هذا الباب ولا شك في جوازه (المنبر). [2] انظر التعليق السابق.
|