أما بعد: عباد الله، فاعلموا أن المتأملَ لحالنِا نحنُ المسلمين اليوم وحالِ زماننا وما ظهر فيه الآفاتِ والفتنِ، وما حصل فيه من انفتاحٍ كبيرٍ على الدنيا وزُخرُفها حتى ظن أهلها أنهم قادرون عليها، أو مخلدون فيها. إن المتأملَ لذلك ليشعرُ بالرهبةِ والإشفاقِ والخوفِ الشديدِ من مظاهرِ وعواقبِ هذه الحال، إذ قد قست منا القلوب، وتحجرت العيون، وهُجرَ كتابِ علامِ الغيوب، بل قُرأ والقلوبُ لاهيةٌ ساهيةٌ في لُججِ الدنيا وأوديتُها سابحةٌ. كيف لا وقد زينّا غير متبعين جدرانَ بيوتنا بآياتِ القرآن، ثم لم نزين حياتَنا بالعمل بالقرآن. يقرأه البعضُ - غير مقتدينَ - على الأموات، ثم لا يحكمونه في الأحياء. بل جُعلت البركةُ في مجردِ حملهِ وتلاوته. وتُركت بركتُه الحقيقيةُ المتمثلة في اتباعه وتحكيمه امتثالاً لقولِ الله تعالى: وَهَـٰذَا كِتَـٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ مُبَارَكٌ فَٱتَّبِعُوهُ وَٱتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:155]. غفلنا ولم نشعر أننا غفلنا وهذه لعمرُ اللهِ أدهى وأمرُ فينا. كثُر القلق وغلبَ الهمُ والحزن، وصاحبَ ذلك الأرق. مكر شديد بالليلِ والنهار بأساليبَ ووسائلَ خبيثة ماكرةٌ تزينُ الفاحشة وتصدُ عن الآخرةِ. فشت الفواحشُ والمظالم، ونيلَ من الأعراض، وأُكلتُ الأموال. وظهرت صورُ صارخةِ من الحسد والبغضاء والفرقةِ والخلاف، حتى بين خبراءِ الفضلِ والإحسان. وعندها استُضعِفَ المسلمون، وتبجحَ وتسلطَ الملحدون والمجرمون. قلنا ولم نفعل أمام عدونا وعلى أحبتنا نقولُ ونفعلُ قلّ الاهتمامُ والعنايةُ بركيزةِ الوعظِ والتذكير، كركيزةٍ تربويةٍ مؤثرةٍ مفيدة، فصرت تسمعُ من يقللُ من أهمية كتابٍ أو خطبةٍ أو محاضرةٍ، أو درسُ يركزُ على هذا الجانبِ. فيقالُ: هذا كتابُ وعظي، ومحاضرةُ وعظية، ومقالٌ عاطفي، وكبرت من كلمة: إن صحَ أن الوعظَ أصبـحَ فضلـة فالمـوتُ أرحمُ للنفوسِ وأنفعُ فلولا رياحُ الوعظِ ما خاض زورق ولا عبرت بالمبحرين البواخرُ عندها عُطلت طاقاتُنا الإيمانية وكيفَ يعيشُ في البستان غرس إذا ما عُطلت عنه السواقيَ هبت رياحُ المعصيةِ فأطفأت شموعَ الخشيةِ من قلوبِنا.وطال علينا الأمدُ فعلا القلوبَ قسوةً، كما قست قلوبُ أهلِ الكتاب فهيَ كالحجارةِ أو أشدُ قسوة. أسأنا فهم الدينِ الذي هو سرُ تميزنا وبقائنا فشُغِلنا بالشكلِ عن الجوهر، وبالقالبِ عن القلب، وبالمبنى عن المعنى، وبذكرياتُ مجيدةُ وتواريخَ تليدةُ نحتفلُ غالباً مبتدعين غير متبعين. وأحياناً نهتمُ بطبعِ الكتب الشرعيةِ مفتخرين، ثم نتمردُ على مضمونِها هازئين. حالُنا كالذي يقبلُ يدَ والدهِ ولا يسمعُ نصحه، إن هذا لهو البلاء المبين. وإننا نخشى أن نصبحَ في زمرةِ من قال اللهُ فيهم: ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا [الأعراف:51]. وأسوءُ ما تمرُ به أمةُ وأتعسُ ما تمرُ به أمة أن يصبحَ اللهوُ فيها ديناً، والدينُ فيها لهواً، ثم لا تسمعُ نصحاً: بُح المنادي والمسامعُ تشتكي صمماً وأصبحتَ الضمائرُ تشترى تـاهـت سـفائنُهــا بحـراً ولا هيَ فـي الشـواطئ تظهرُ لهذا كله كان لابد من الوقوفِ على بعضِ مشاهدِ الحسرةِ في الآخرة، لعل النفوسَ تستيقظُ وتخشعُ وتذلُ فتبادر إلى الحسنى، فما هناك من أمر هو أشد دفعاً للنفوس إلى فعل الخير من أمر الآخرة، والوقوف بين يدي من له الأولى والآخرة، فكل ضعف من أسبابه الغفلة عن الآخرة، في ذكر اليوم الآخر سعادة وطمأنينة وسد منيع دون الهم والحزن وعدم السكينة، وعلى ما يحزن طالب الآخرة؟ على أمر حقير يفنى عما قريب؟ كلا، فالآخرة خير وأبقى. المؤمن باليوم الآخر لا تأثر فيه المصائب لأنه موقن أن المصائب إن لم تزل عنه زال عنها بالموت لا محالة، فلا تذهب نفسه على الدنيا حسرات. ذكر اليوم الآخر يطهر القلوب من الحسد والفرقة والاختلاف. ذكره يهدد الظلمة ليرعووا، ويعزي المظلومين ليسكنوا، فكل سيأخذ حقه لا محالة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء، فلا ظلم ولا هضم: والوزن بالقسط فلا ظلم ولا يأخذ عبد بسوى ما عملا ذكر اليوم الآخر يمسح على قلوب المستضعفين والمضطهدين والمظلومين مسحة يقين تسكن معه قلوبهم، ثم تثبت شماء وهي تتطلع لما أعده الله للصابرين من نعيم يُنسى معه كل ضر وبلاء وسوء وعناء. وتتطلع لما أعده للظالمين من بؤس يُنسى معه كل هناء. فهيا معي يا عباد الله إلى مشاهد من الحسرة - أسأل الله أن لا تكونوا من أهل الحسرة- لعل ذلك أن تصلح معه القلوب، وتتجه إلى علام الغيوب وتنقاد الجوارح إلى العمل الصالح. إنه يوم الحسرة: ومما أدراك ما يومُ الحسرة، يوم أنذرَ به وخوفَ، وتوعدَ بهِ وهدد، قال الله عز وجل: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ ٱلْحَسْرَةِ إِذْ قُضِىَ ٱلأمْرُ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ [مريم:39]. إنذارُ وإخبار في تخويفٍ وترهيبٍ بيومِ الحسرةِ حين يقضى الأمر، يوم يجمعُ الأولون والأخرون في موقفٍ واحد، يسألون عن أعمالهم. فمن آمنَ و اتبع سعِدَ سعادةً لا يشقى بعدها أبداً. ومن تمردَ وعصى شقي شقاءً لا يسعدُ بعده أبداً، وخسرَ نفسَهُ وأهلَهُ وتحسرَ وندِمَ ندامةً تتقطعُ منها القلوبُ وتتصدعُ منه الأفئدةُ أسفاً. وأيُ حسرةٍ أعظمُ من فواتِ رضاء الله وجنته واستحقاقِ سخطهِ وناره على وجهٍ لا يمكنُ معه الرجوعُ ليُستأنف العملُ، ولا سبيلَ له إلى تغييرِ حالهِ ولا أمل. وقد كان الحالُ في الدنيا أنهم كانوا في غفلةٍ عن هذا الأمرِ العظيم، فلم يخطر بقلوبِهم إلا على سبيلِ الغفلةِ، حتى واجهوا مصيرَهم فيا للندمِ والحسرة، حيثُ لا ينفعُ ندمُ ولا حسرة. وأنذرهُم يومَ الحسرة، يوم يجاءُ بالموت كما في صحيح البخاري كأنه كبشُ أملح فيوقفُ بين الجنةِ والنار فيقال: ((يا أهلَ الجنةِ هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرونَ ويقولون: نعم، هذا الموت. ثم يقالُ: يا أهل النارِ هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرونَ ويقولون: نعم، هذا الموت. قال، فيأمرُ به فيذبحُ، ثم يقال: يا أهلَ الجنةِ خلودُ فلا موت، ويا أهلَ النارِ خلودُ فلا موت)). وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ ٱلْحَسْرَةِ إِذْ قُضِىَ ٱلأمْرُ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ [مريم:39]. آه من تأوه حين إذ لا ينفع، ومن عيونٍ صارت كالعيون مما تدمع. إنها حسرةُ بل حسرات، أنباءٌ مهولات، نداماتٌ وتأسفاتٌ ورد ذكرها في غير ما آية من الآيات، تصدرُ عن معرضين عن الآيات ولاهين ولاهيات عن يومُ الحسرة والحسرات. نذكر بعض منها في هذه الخطبة من رسالة (قل هو نبأ عظيم) بتصرف يسير. إنها تذكرةٌ وعظات، علنا أن نحاسبَ أنفسِنا ما دمنا في مهلةٍ من أعمارٍ وأوقات وقبلَ أن نندمَ حيث لا ينفعُ ندمُ ولا حسرات. فمن هذه الحسرات - أجاركم الله من الحسرات: الحسرةُ على أعمالٍ صالحةٍ شابتها الشوائبُ وكدرتها مُبطلاتُ الأعمالِ من رياءٍ وعُجبٍ ومنةٍ، فضاعت وصارت هباءً منثوراً، في وقتٍ الإنسانُ فيهِ أشدُ ما يكونُ إلى حسنةٍ واحدةٍ. وَبَدَا لَهُمْ مّنَ ٱللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَـسَبُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ [الزمر:47-48]. فكيفَ تقيكَ من بـردٍ خيـامٌ إذا كـانت ممزقـةَ الرواقِ الفضل عند الله ليس بصورة الأعمال بل بحقائق الإيمـان القصـد وجـه اللــه بالأ قوال والطاعات والشكـران بذاك ينجو العبد من حسراته ويصـير حقـاً عابد الرحمن الحسرةُ على التفريطِ في طاعةِ الله وتصرمِ العمرِ القصيرِ في اللهثِ وراء الدنيا حلالِها وحرامِها، والاغترارِ بزيفِها مع نسيانِ الآخرةِ وأهوالِها: أَن تَقُولَ نَفْسٌ يٰحَسْرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ ٱللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّـٰخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ ٱللَّهَ هَدَانِى لَكُـنتُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى ٱلْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِى كَـرَّةً فَأَكُونَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ بَلَىٰ قَدْ جَاءتْكَ ءايَـٰتِى فَكَذَّبْتَ بِهَا وَٱسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ ٱلْكَـٰفِرِينَ [الزمر:56-59]. يا ضيعتَ العمرِ لا الماضي انتفعتُ به ولا حصلتُ على علمٍ من الباقي بـلا علمتُ وقـد أيقنـتُ وا أسـفـاً أنـي لكـلِ الذي قدمتُـه لاقي الحسرةُ على التفريطِ في النفسِ والأهل أن تقيَهم من عذاب جهنم، يوم تفقدَهم وتخسرَهم مع نفسُك بعد ما فتنتَ بهم، ذلك هو الخزيُ والخسار والحسرةُ والنار، حالك: بعضي على بعضي يجّردُ سيفه والسهم مني نحو صدري يرسلُ النـارُ توقد في خيـام عشيرتي وأنا الذي يـا للمصـيبة أُشـعلُ قُلْ إِنَّ ٱلْخَـٰسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ [الزمر:15]. الحسرةُ على أعملٍ صالحة كان الأمل بعد اللهِ عليها، ولكنها ذهبت في ذلك اليومِ العصيب إلى من تعديتَ حدودَ اللهِ فيهم، فظلمتَهم في مالٍ أو دمٍ أو عرض، فكنتَ مفلساً حقاً وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً [طه:111]. فيأخذُ هذا من حسناتِك وهذا من حسناتك، ثم تفنى الحسنات فيطرحُ عليك من سيئاتِ من ظلمتَهم ثم تطرحُ في النار، أجارك الله - من سامعٍ - من النار وجنبك سخطِ الجبار بفعلِ ما يرضي الواحدَ القهار. حسرةُ جُلساءِ أهلِ السوء: يومَ انساقوا معهم يقودونَهم إلى الرذيلةِ، ويصدونَهم عن الفضيلةِ، إنها لحسرةُ عظيمةٌ في يومِ الحسرة يعبرون عنها بعضِّ الأيدي يومَ لا ينفعُ عضُ الأيدي كما قال ربي: وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّـٰلِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يٰلَيْتَنِى ٱتَّخَذْتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلاً يٰوَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ ٱلذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِى وَكَانَ ٱلشَّيْطَـٰنُ لِلإِنْسَـٰنِ خَذُولاً [الفرقان:27-29]. حسرةُ الأتباعُ المقلدين لكلِ ناعق يوم يتبرأ منهم من تبعوه بالباطل فلا ينفعهم ندم ولا حسرة وَلَوْ يَرَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ ٱلْعَذَابَ أَنَّ ٱلْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ٱلاْسْبَابُ وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءواْ مِنَّا كَذٰلِكَ يُرِيهِمُ ٱللَّهُ أَعْمَـٰلَهُمْ حَسَرٰتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَـٰرِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ [البقرة:165-167]. حسرة الظالمين المفسدين في الأرض الذينَ يصدون عن سبيلِ الله ويبغونها عوجاً، حين يحملون أوزارَهم وأوزار الذين يضلونهم بغيرِ علم، وحين يسمعون عندها قول الله: مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِٱلآخِرَةِ كَـٰفِرُونَ [الأعراف:44-45]. ومن أعظم المشاهد حسرة في يوم القيامة يوم يكفر الظالمون بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضاً محتدين ومتبرئين فذلك قول الله: قَالَ ٱدْخُلُواْ فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مّن ٱلْجِنّ وَٱلإِنْسِ فِى ٱلنَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ٱدَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأولَـٰهُمْ رَبَّنَا هَـؤُلاء أَضَلُّونَا فَـئَاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مّنَ ٱلنَّارِ قَالَ لِكُلّ ضِعْفٌ وَلَـٰكِن لاَّ تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولَـٰهُمْ لأُِخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ [الأعراف:38-39]. فيا حسرة الظلمة وأعوانهم حين يعلمون فداحة جريمتهم في تنفيذ رغبات الظالمين، لكن حيث لا ينفعهم علم العالمين، وعندها لسادتهم يقولون لكن حيث لا ينفعهم علم العالمين، وعندها لسادتهم يقولون: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مّنَ ٱلنَّارِ [غافر:47]. فإذا بالسادة أذلة قد عنت وجوههم للحي القيوم لا يملكون لأنفسهم شيئاً ولا يستطيعون يقولون: إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ ٱللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ ٱلْعِبَادِ [غافر:48]. إن لله غضبة لو وعاها من بغى ما عاد يمط اللسان كم من ظالم يردد: وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَـٰيَـٰكُمْ وَمَا هُمْ بِحَـٰمِلِينَ مِنْ خَطَـٰيَـٰهُمْ مّن شَىْء إِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْـئَلُنَّ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ [العنكبوت:12-13]. فالعقلاء بمقولتهم لا يغترون، وإن فعلوا فإنهم يومئذ في العذاب والحسرة مشتركون. تصور معي أخي ذلك الجو من الحسرة والخزي والندامة المخيمة على المستضعفين والمستكبرين، أتباع ضعفاء يتهمون زعماءهم بالحيلولة بينهم وبين الإيمان. ومستكبرون يقولون لأتباعهم: أنتم المجرمون، دعوناكم فكنتم مجيبين. لو رأيتهم إذ وقفوا عند ربهم من غير إرادة ولا اختيار، مذنبون ترهقهم ذلة في انتظار الجزاء لرأيت أمراً مهولاً، يتراجعون، يرجع بعضهم إلى بعض القول. يلوم بعضهم بعضاً، ويؤنب بعضهم بعضاً، ويلقي بعضهم تبعة ما هم فيه على بعض. يقول أتباع الضلال الذين اُستضعفوا لقادة الضلال الذين استكبروا: لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ [سبأ:31]. يقولونها جاهرين بها صادعين في وقت لم يكونوا في الدنيا بقادرين على هذه المواجهة، كان يمنعهم الذل والضعف والاستسلام، وبيع الحرية التي وهبها الله لهم والكرامة التي منحهم الله إياها. أما اليوم يوم الحسرة فقد سقطت القيم الزائفة وواجهوا العذاب، فهم يقولونها غير خائفين: لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ [سبأ:31]. حلتم بيننا وبين الإيمان، زينتم لنا الكفران فتبعناكم، فأنتم المجرمون وبالعذاب أنتم جديرون وله مستحقون. ويضيق الذين استكبروا بهم ذرعاً، إذ هم في البلاء سواء، ويريد هؤلاء الضعفاء أن يحملوهم تبعة الإغواء الذي صار بهم إلى هذا البلاء، عندئذ يردون عليهم ويجيبونهم في ذلة مصحوبة بفظاظة وفحشاء: أَنَحْنُ صَدَدنَـٰكُمْ عَنِ ٱلْهُدَىٰ [سبأ:32]. الله أكبر كانوا في الدنيا لا يقيمون لهم وزناً، ولا يأخذون منهم رأياً، ولا يعتبرون لهم وجوداً، ولا يقبلون منهم مخالفة، بل حتى مناقشة. أما اليوم، يوم الحسرة فهم يسألونهم في استنكار الأذلاء: أَنَحْنُ صَدَدنَـٰكُمْ عَنِ ٱلْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَاءكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ [سبأ:32]. زينا لكم الإجرام؟ نعم، لكنا لم نكرهكم عليه، فما لكم علينا من سلطان. آما أنه لو كان الأمر في الدنيا لقبع المستضعفون لا ينبسون ببنت شفة. لكنهم في الآخرة حيث سقطت الهالات الكاذبة، والقيم الزائفة، وتفتحت العيون المغلقة، وظهرت الحقائق المستورة، فلم يسكت المستضعفون ولا هم يخنعون، بل يجابهون من كانوا لهم يذلون ويقولون: بَلْ مَكْرُ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِٱللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً [سبأ:33]. مكركم لم يفتر ليلاً ولا نهاراً للصد عن الهدى، تزينون لنا الضلال وتدعوننا إلى الفساد، وتقولون: إنه الحق. ثم تقدحون في الحق وتزعمون أنه باطل، فما زال مكركم بنا حتى أغويتمونا وفتنتمونا. يا عباد الله: إن صور المكر تتنوع وتختلف من عصر لآخر. ففي وقت نزول القرآن كانت تتخذ أشكالاً من الأشعار في منتديات الجاهلية توجه فيها التهم الباطلة لرسول الله ومن معه أو بصد الراغبين عن سماع الحق وتفويته عليهم أو بإثارة نعرة الآباء والأجداد والتهويل من خطر تركها. هذا جل ما عند الجاهلية الأولى من مكر الليل والنهار، ووالله إنه لعظيم. لكن ماذا يساوي ذلك المكر الأول عند مكر الليل والنهار في زماننا الحاضر في أكثر ديار المسلمين، والذي ينطبق تماماً بلفظه ومعناه على المكر الموجود الآن الذي يعمل على مدى الأربع والعشرين ساعة: فما يكاد المذياع يفتر من مكره حتى يأتي دور التلفاز،وما يكاد التلفاز يفتر من مكره حتى يأتي دور الفيديو، ثم يأتي دور البث المباشر، ثم المجلة الهابطة، فالقصة الخليعة، وهكذا دواليك دواليكَ، مكر بالليل والنهار. هل يعذر المسلم في فتح فكره وبيته لمكر الليل والنهار؟؟؟ كلا والله لا يعذر، لأن المفسدين المتسلطين لن يعذروه بين يدي الله يوم القيامة بقولهم: أَنَحْنُ صَدَدنَـٰكُمْ عَنِ ٱلْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَاءكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ [سبأ:32]. ويرد هؤلاء المستضعفون: بَلْ مَكْرُ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ [سبأ:33]. ثم يدرك الجميع أن هذا الحوار البائس لا ينفع هؤلاء ولا هؤلاء إلا براءة بعضهم من بعض،علم كل منهم أنه ظالم لنفسه، مستحق للعذاب فندم حين لا ينفع الندم. ويتمنى سراً أن لو كان على الحق والإيمان: وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱْلَعَذَابَ وَجَعَلْنَا ٱلاْغْلَـٰلَ فِى أَعْنَاقِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سبأ:33]. قطاة غرّهـا شـرَك فباتت تجاذبـه وقـد علق الجنـاحُ فلا في الليل نالت ما تمنت ولا في الصبح كان لها براحُ قضي الأمر وانتهى الجدل وسكت الحوار. وهنا يأتي حادي الغواة، وهاتف الغواية يخطب خطبته الشيطانية القاصمة يصبها على أوليائه: وَقَالَ ٱلشَّيْطَـٰنُ لَمَّا قُضِىَ ٱلأمْرُ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ ٱلْحَقّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ [إبراهيم:42]. طعنة أليمة نافذة لا يملكون أن يردوها عليه، وقد قضي الأمر وفات الأوان: وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَـٰنٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِى [إبراهيم:22]. ثم يأنبهم على أن أطاعوه: فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ [إبراهيم:22]. نفض يده منهم وهو الذي وعدهم ومنّاهم ووسوس لهم. وأما الساعة فلن يلبيهم إن صرخوا، ولن ينجدوه إن صرخ إِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم:22]. فيا للحسرة والندم، الحسرةُ على أعمالٍ محدثةٍ وعباداتٍ لم يأذن الله بها ولم يتبعُ فيها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ويحسبُ أهلها أنهم يحسنون صنعاً قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِٱلاْخْسَرِينَ أَعْمَـٰلاً ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103-104]. لكنها تضيعُ في وقتِ الحاجةِ الماسة إليها فهم الأخسرون أعمالاً، وساءوا أعمالاً، أعمالَهم كرمادٍ اشتدت به الريحُ في يومٍ عاصف أو كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظمآنُ ماءً، حتى إذا جاءهُ لم يجده شيئاً ووجد اللهَ عنده فوفاه حسابهُ. وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَـٰلُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْانُ مَاء حَتَّىٰ إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ [النور:39]. يا أيها اللاهي الذي افترش الهوى وبكل معنى للضـلال تدثرا إن كنت ذا عقـل ففكـر برهـة ما خاب ذو عقل إذا ما فكرا الحسرةُ على أموالٍ جمعت من وجوه الحرام: رباً ورشِوةٍ وغشٍ غصب وسرقةٍ واحتيالٍ وغيرِها. فيا لله أي حسرةٍ أكبر على امرئ يؤتيَه اللهُ مالاً في الدنيا، فيعملُ فيه بمعصيةِ الله، فيرثَه غيرَه فيعملُ فيه بطاعةِ الله، فيكونُ وزره عليه وأجرُه لغيره. أي حسرة أكبر على امرئ أن يرى عبداً كان الله ملّكه إياه في الدنيا يرى في نفسه أنه خير من هذا العبد، فإذا هذا العبد عند الله أفضل منه يوم القيامة. أي حسرة أكبر على امرئ أن يرى عبداً مكفوف البصر في الدنيا قد فتح الله له عن بصره يوم القيامة وقد عميَ هو، إن تلك الحسرة لعظيمة عظيمة. أي حسرة أكبر على امرئ علم علماً ثم ضيعه ولم يعمل به فشقيَ به، وعمل به من تعلمه منه فنجى به. أي حسرة أعظم من حسرات المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم. يوم تبلى السرائر وينكشف المخفي في الضمائر، ويعرضون لا يخفى منهم على الله خافية، ثم يكون المأوى الدرك الأسفل من النار ثم لا يجدون لهم نصيراً. أما الحسرةُ الكبرى فهي عندما يرى أهلَ النار أهلَ الجنةِ وقد فازوا برضوانِ الله والنعيم المقيم وهم يقولون: قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ [الأعراف:44]. وحسرة أعظم يومَ ينادي أهلُ النار أهل الجنةِ: أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ ٱلْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ قَالُواْ إِنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ [الأعراف:50]. وحسرة أجل:حين ينادي أهلُ النارِ مالكاً خازن النار: لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّـٰكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَـٰكُم بِٱلْحَقّ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقّ كَـٰرِهُونَ [الزخرف:77-78]. ومنتهى الحسرة ِوقصاراها حين ينادون ربَهم عز وجل وتبارك وتقدس: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَـٰلِمُونَ [المؤمنون:107]. فيُجبَهم بعد مـدة: ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ [المؤمنون:108]. فلا ينبسون ببنت شفة وإنما هو الشهيق والزفير. طال الزفيرُ فلم يُرحم تضرُعهم هيهاتَ لا رقة تغني ولا جزعُ فيا حسرة المقصرين.ويا خجلة العاصين.لذات تمرٌ وتبعاتٌ تبقى. تريدون نيل الشهواتِ والحصولَ في الآخرةِ على الدرجات. جمع الأضدادِ غير ممكنٌ يا تراب. هواك نجد وهواه الشامُ وذا وذاَ يا خي لا يلتامُ دع الذي يفنى لما هو باقي واحذر زلل قدمِك، وخف حلول ندمك واغتنِم شبابك قبل هرمِك، واقبل نصحي ولا تخاطر بدمك، ثم تتحسرُ حين لا ينفعُ ندمك. إذا ما نهـاك امـرأٌ ناصـحُ عن الفاحشاتِ انزجر وانتهِ إن دنياً يا أخي مـن بعدهـا ظلمةُ القبرِ وصوتُ النائـحِ لا تساوي حبةً مـن خـردلٍ أو تساوي ريشةً من جانـحِ لا تسل عن قيمةَ الربح وسل عن أساليبَ الفريق الرابـحِ جعلنا الله وإياكم من الرابحين السعداء، يومَ يخسرُ المبطلون الأشقياء، ويتحسرَ المتحسرون التعساء، إن ربي وليُ النعماء وكاشفَ الضرِ والبلاء. عباد الله وبعد هذا البيانِ من كتاب الرحمنِ عن صورِ الخزي والحسرةِ والخسران. هل آن لنا أن نعدَ لهذا الموقفِ العظيمِ عدته ونعملَ جاهدين على الخلاصِ من صفاتِ أهلِ هذه المواقفِ المخزيةِ. آن لنا أن نُخلص العبادةَ لله وحده ونجردَ المتابعةِ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ آن لنا أن نحذرَ من كلِ ناعقٍ ملبسٍ خائنٍ يمكرُ في الليلِ والنهار قبل أن تقولَ نفس: يا حسرتاه، ولا مناة حين مناص. آن الأوان لضعفةِ الأتباع أن يتبرؤوا من متبوعيهم الظالمين المفسدين فلا يكونوا أداة لهم في ظُلم،ٍ في دماء أو أموالٍ أو أعراض طمعاً في جاه أو حطام. آن الأوان للإنابةِ والبراءةِ من الظالمين قبل أن يتبرؤوا من تابعيهم بين يدي الله يومَ ينقلبون عليهم فيلعن بعضَهم بعضاً حيث لا ينفع لعن ولا ندم. آن الأوان للمرأة المسكينة في زماننا اليوم أن تتنبه لهذه المواقف، فتتبرأ في دنياها اليوم من كل ناعق لها باسم الحرية والتمدن ومتابعة الأزياء والموضات. وحتى لا تحيق عليها الحسرة الكبرى حينما يتبرأ منها شياطين الإنس والجن الذين أضلوها ثم لا يغنون عنها من عذاب الله من شيء إلا الخصام والتلاعن المذكور في كتاب الله: وَقَالُواْ رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا ٱلسَّبِيلاْ رَبَّنَا ءاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ ٱلْعَذَابِ وَٱلْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً [الأحزاب:67-68]. آن الأوان لأتباع الطوائف الضالة المبتدعة أن يفيقوا ويدركوا خطر هذه المتابعة التي ستنقلبُ حسرة كبرى وعداوة ولعنة بينهم وبين متبوعيهم يوم القيامة: ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُمْ مّن نَّـٰصِرِينَ [العنكبوت:25]. آن الأوان لمن أعطوا قيادهم لجلساءِ السوءِ والمفسدينَ في الأرض، ومن هم دعاةُ على أبوابِ جهنمَ يسوقونهم إلى الرذيلةِ ويفتحون قلوبَهم للمكر والألاعيب والصدِ عن الفضيلة. آن لهم أن ينتهوا ويقطعوا صلَتَهم بهم وطاعتَهم لهم ما داموا في زمنٍ من مهلةٍ وإمكان، وإن لم يقطعوها في الدنيا، فهيَ لا شكَ منقطعة يومَ القيامةِ وستنقلبُ عداوةً وخصاماً وحسرةً، ٱلاْخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]. آن الأوان للمجاهرين عموماً بالمعاصي والمجاهرين خصوصاً برفع أطباق القنوات فوق البيوت غير معظمين لشعائر الله والحرمات، من أشرعوا بيوتَهم للضلالِ والمكرِ واللهوِ والعفنِ والترهات بحجة الأخبار والمباريات. يستقبل الأفكار في علب الهوى والشـر فيهـا لوّع المستقبلُ علب يغلفهـا العـدو وختمـه فيها الصليب ونجمة والمنجل آن لهم أن يعلونها توبةً عاجلةً نصوحاً قبل الممات وقبل يومَ الحسرات بلا مبررات واهيات، فالحقائق ساطعات غير مستورات، وإن تعامتها نفوس أهل الشهوات. قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم وكل أمة محمد صلى الله عليه وسلم- كما أخبر - معافى إلا المجاهرين، وما من راع يسترعيه الله رعيةً، يموت يومَ يموت وهو غاشٍ لهم إلا حرم اللهُ عليه الجنة. وكلُكم راعٍ ومسؤول. وما كل راع براع. ما كل ذي لبد بليث كاسـر وإن ارتدى ثوب الأسود وزمجرا يستخدم الشيطان كل وسيلة لكنـه يبقـى الأذل الأصـغـرا وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوٰتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً [النساء:27]. آن الأوان لمضيع وقته أمام ما تبثه هذه القنوات من محرمات أن يتوب ويؤوب. آن الأوان لمن عقلُه أصبح في أذنيه ولبه بات في عينيه من أثر البهتان فيه وانطلى الزورُ عليه أن يتوبَ قبل أن يقفَ أمام الله فتشهدُ الأعضاء والجوارح وتبدو السوءاتُ والفضائح فيختمُ على فمه وتتكلم يده ويشهدُ سمعه وبصره وجلده بما كان يكسب ثم لا يكونُ إلا الحسرات، فما تغني الحسرات؟ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَـٰرُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَـٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مّمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ ٱلَّذِى ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مّنَ ٱلُخَـٰسِرِينَ فَإِن يَصْبِرُواْ فَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مّنَ ٱلْمُعْتَبِينَ [فصلت:22-24]. يا ابن سبعين وعشرٍ وثمانٍ كامـلات غرضاً للموتِ مشغـولاً ببث القنـوات ويكَ لا تعلمُ ما تُلقى به بعد الممـات من صغارٍ موبقـات وكبـارٍ مهلكـات يا ابن من قد مات من آبائهِ والأمهات هل ترى من خالدٍ من بين أهلِ الشهوات إن من يبتاعُ بالدينِ خسيسِ الشهوات لغبـي الرأيِ محفـوفُ بطولِ الحسرات عباد الله: في يومِ القيامة يبحثُ كلِ إنسان عن أي وسيلة مهما كانت ضعيفة واهية لعلَها تصلُحُ لنجاته من غضبِ الله، ولذلك تكثُر المناقشاتُ والمحاورات بين الآباء والأبناء والأزواج والزوجات والكبار المتسلطين والصغار التابعين،بين الأغنياء الجبارين والفقراء المنافقين. كل يحاول إلقاء التبعة على غيره، لكن حيث لا تنفع المحاورات ولا الخصومات ولا التنصل من التبعات، ثم لا يكون إلا الحسرات. إلى الله يا قومي فما خاب راجع إلى ربه يوم وما خاب صابرُ |