أما بعد، فيا أيها الناس، اتقوا الله ربكم وأطيعوه، واشكروا له ولا تكفروه، وأثنوا عليه بما هو أهله وادعوه، فإنه ـ سبحانه ـ قد أمركم بإخلاص الدعاء، ووعدكم عليه بكريم العطاء وصرف البلاء، وأرشدكم إلى أن الدعاء من أعظم الأسباب التي ينال بها الخير ويتقى به المكروه في الدنيا والأخرى، فقال ـ جل ذكره ـ في تنزيله وذكره: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]. وقال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُـمْ ٱدْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دٰخِرِينَ [غافر:60]. وقال ـ سبحانه ـ: هُوَ ٱلْحَىُّ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَـٱدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ ٱلْحَـمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ [غافر:65]. عباد الله، اطلبوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة ربكم، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء، وسلوا الله العفو والعافية واليقين في الآخرة والأولى، وسلوه ـ تبارك وتعالى ـ أن يستر عوراتكم، وأن يؤمن روعاتكم، وأن يؤتيكم في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة؛ فإن ذلك من جوامع الدعاء، واستجابته من جزيل العطاء وسابغ النعماء، ومن دعا ربه فاستجاب له ورأى ما يسره فليقل: الحمد لله الذي بنعمته وعزته وجلاله تتم الصالحات. ومن أبطأ عنه مطلوبه ومراده أو رأى ما يكره فليقل: الحمد لله على كل حال [1]؛ فإن ذلكم هو هدي نبيكم محمد في تلك الأحوال. أيها المسلمون، أكثروا من الدعاء، فليس شيء أكرم على الله ـ عز وجل ـ من الدعاء، ومن لم يدع الله ـ عز وجل ـ غضب عليه، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي قال: ((إن الله حيي كريم إذا رفع العبد إليه يديه يستحي أن يردهما صفراً حتى يضع فيهما خيراً)) [2]. وفي صحيح الحاكم وغيره بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله قال: ((ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بإحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها)) [3]. أيها المسلمون، من يكثر قرع الباب يوشك أن يفتح له، ومن يكثر الدعاء يوشك أن يستجاب له، ومن سره أن يستجيب الله له حال الشدة والضيق فليكثر من الدعاء حال الرخاء، وليعزم المسألة، وليعظم الرغبة، وليلح في الدعاء ؛ ففي المتفق عليه عن أبي هريرة عن النبي قال: ((يستجيب الله لأحدكم ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل))، قالوا: وما الاستعجال يا رسول الله؟ قال: ((يقول: قد دعوتك يا رب، قد دعوتك يا رب فلا أراك تستجيب لي، فيتحسر عند ذلك فيدع الدعاء)) [4]. وفيهما عنه أيضا قال: قال رسول الله : ((لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارزقني إن شئت. ليعزم مسألته ؛ فإنه يفعل ما يشاء لا مكره له)) [5]، وفي صحيح مسلم عنه أيضا أن رسول الله قال: ((إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت، ولكن ليعزم وليعظم الرغبة؛ فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه)) [6]. فينبغي للداعي أن يجتهد في الدعاء، وأن يكون على رجاء الإجابة ولا يقنط من الرحمة فإنه يدعو كريما، وقد روي عن الإمام ابن عيينة ـ رحمه الله ـ قال: لا يمنعن أحدكم الدعاء ما يعلم من نفسه ـ يعني التقصير ـ فإن الله قد أجاب شر خلقه وهو إبليس حين قال: قَالَ أَنظِرْنِى إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الحجر:36]. أيها المؤمنون، ليكن فزع أحدكم في الدقيق والجليل من حاجاته ورغباته إلى الله، ولا يلتفت في شيء منها بقلبه إلى أحد سواه؛ فإن الله ـ تعالى ـ قال: وَٱسْأَلُواْ ٱللَّهَ مِن فَضْلِهِ [النساء:32]. وقال: فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً [الجن:18]. وفي الترمذي بسند حسن عن ابن مسعود قال: قال رسول الله : ((من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل)) [7]، وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن ثوبان قال: قال رسول الله : ((من تكفل لي أن لا يسأل الناس شيئا وأتكفل له الجنة؟)) فقلت: أنا. فكان لا يسأل الناس شيئا [8]. وفي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشجعي قال: كنا عند رسول الله تسعة ـ أو ثمانية أو سبعة ـ فقال: ((ألا تبايعون رسول الله ؟)) وكنا حديثي عهد ببيعة، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: ((ألا تبايعون رسول الله؟)) فبسطنا أيدينا وقلنا : قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟ قال: ((على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، والصلوات الخمس، وتطيعوا ـ وأسر كلمة خفيفة ـ ولا تسألوا الناس شيئاً، فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحداً يناوله إياه)) [9]. عباد الله، اجتهدوا في الدعاء، وأكثروا من الثناء، وعظموا الرجاء، وتحلوا بآداب الدعاء، فإن خزائن الله ملأى، ويديه سحاء الليل والنهار لا تغيضها نفقة. أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم ينقص مما عنده إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، وفي الحديث القدسي الصحيح يقول الله ـ تعالى ـ: ((يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل واحد منهم مسألته، ما نقص ذلك مما عندي شيئاً)) [10]. في التنزيل: ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين [الأعراف:55-56]. نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وجعلنا من خاصة أوليائه وأحبابه، الذين يحل عليهم رضوانه ويمنحهم جزيل ثوابه، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمؤمنين فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرج ابن ماجه عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما يحب قال : ((الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات))، وإذا رأى ما يكره قال: ((الحمد لله على كل حال)) وهو حديث حسن. [2] أخرجه أحمـد (5/438)ـ وأبو داود ح (1488) والترمـذي ح (3556) وقـال: حسـن غريب، وابن ماجــه ح (3865). [3] مستدرك الحاكم (1/493) وقال : صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي. وأخرجه الترمذي بنحوه ح (3381). [4] صحيح البخاري بنحوه ح (6340) ، صحيح مسلم ح (2735) واللفظ له. [5] صحيح البخاري ح (6339) ، صحيح مسلم ح (2679). [7] سنن الترمذي ح (2326) ، وقال : حسن غريب ، وهو صحيح إلا أن قوله : ((برزق . . )) انظر السلسلة الصحيحة للألباني (2787). [8] سنن أبي داود ح (1643) ، وصحح المنذري إسناده في "الترغيب" ح (1200). [10] أخرجه مسلم ح (2577). |