أما بعد، أيها الناس، اتقوا الله، واعملوا صالحاً يحبه ربكم ويرضاه، وخذوا من دنياكم الحذر، وآمنوا بكل ما يجري به القدر، ولا تستبدلوا ما هداكم الله له من الطاعة بالمعصية فتحل بكم الغير، ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:53]. أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ ٱلْبَوَارِ % جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ ٱلْقَرَارُ [إبراهيم:28-29]. أيها المسلمون، إن دنياكم هذه مليئة بالمصائب والرزايا والمحن والبلايا، إلى جانب ما فيها من كريم المنح وجليل العطايا، وأنواع ما يجود الله به من تنفيس الكروب وتيسير العسير وصرف المنايا؛ فهي دار شدة ورخاء، وسراء وضراء، ومرح وترح، وضحك وبكاء، تتجدد فيها الحادثات، وتتنوع فيها الابتلاءات، ويبتلى أهلها بالمتضادات؛ ليعتبر بها المعتبرون، ويغتنمها الموفقون، وليغتر بها المغترون، ويهلك بها الهالكون: وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]. لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما ءاتاكم والله لا يحب كل مختال فخور [الحديد:23]. لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتَـٰكُمْ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [محمد:31]. فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَـٰذِبِينَ [العنكبوت:3]. ولذا فكم ترون في الدنيا من أصناف الشاكين وأنواع الباكين، فهذا يشكوا علة وسقماً، وذاك يشكو حاجة وفقراً، وثالث يبكي على فراق حبيب أو وفاة قريب، أو فوات نصيب من دنياه، غير مؤمن بما قدره الله وقضاه. أيها المسلمون، إن شكوى الله على الخلق والبكاء على الغائب من أمارات وموجبات ضعف الإيمان، ومن مظاهر اليأس من روح الملك الديان، ومن دواعي القنوط من رحمة الله الرحيم الرحمن، وتلكم من خصال شر البرية الذين يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية؛ ولهذا تجدون بعض هؤلاء إذا نزلت بأحدهم النازلة أو حلت به الكارثة ضاقت عليه المسالك، وترقب أفجع المهالك، فضاق صدره، ونفد صبره، واضطربت نفسه، وساء ظنه، وكثرت همومه، وتوالت غمومه، فصد عن الحق، وتعلق بمن لا يملك نفعه ولا ضره من الخلق؛ يأساً من روح الله وقنوطاً من رحمته، وذلك هو الخسران المبين في الدارين؛ فإن التعلق بالمخلوقين والإعراض عن رب العالمين شرك بنص الكتاب المبين: وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ [يونس:106-107]. أيها المؤمنون، أما من آمن بالله وعرف حقيقة دنياه، وسلم لربه فيما قدره وقضاه، فإنه يصبر على الضراء ويشكر على السراء، ويطيع ربه في حالتي الشدة والرخاء، ويذكره في جميع الآناء؛ لعلمه أن الله ـ تعالى ـ مع عبده ما ذكره، وأنه عند ظنه به، وأنه يبتلي العبد بالخير وضده؛ ليختبر صبره ويستخلص إيمانه، ويظهر توكله على ربه وحسن ظنه به، وليجزل مثوبته ويعلي درجته، ويظهر للناس في الدنيا والآخرة أن هذا العبد أهل لكرامته، وصالح لمجاورته في جنته. وفي صحيح مسلم ـ رحمه الله ـ عن النبي قال: ((عجباً لأمر المؤمن؛ إن أمره كله له خير، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)) [1]. وفي الصحيحين عن أبي هريرة وأبي سعيد ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي قال: ((ما يصيب المؤمن نصب ـ أي: تعب ـ ولا وصب ـ أي: مرض ـ ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه)) [2]. وفيهما أيضا عنه قال: ((ما من مسلم يصيبه أذى؛ شوكة فما فوقها، إلا كفر الله بها من سيئاته، وحط عنه ذنوبه كما تحط الشجرة ورقها)) [3]. وفي الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((ما يزال البلاء بالمؤمن في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله ـ تعالى ـ وما عليه خطيئة)) [4]، وفيه أيضا عن أنس قال: قال رسول الله : ((إذا أراد الله بعبده خيرا عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة)) [5]. وقال النبي : ((إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله ـ تعالى ـ إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط)) [6]، وفيه أيضا عنه قال: ((أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على حسب دينه)) [7]. وفي المسند وغيره عن رسول الله قال: ((إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة فلم يبلغها بعمل، ابتلاه الله في جسده أو ماله أو ولده، ثم صبر على ذلك حتى يبلغ المنزلة التي سبقت له من الله ـ عز وجل ـ)) [8]. عباد الله، كم من محنة في طيها منح ورحمات، وكم من مكروه يحل بالعبد ينال به رفيع الدرجات وجليل الكرامات، وصدق الله العظيم إذ يقول: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:83]. ويقول: إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّـٰبِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]. فاتقوا الله ـ رحمكم الله ـ، واصبروا وأمِّلوا يثبتكم الله، واكلفوا من العمل ما تطيقون تحمدوا عقباه، ولا تطغينكم الصحة والثراء والعثرة والرخاء، ولا تضعفنكم الأحداث والشدائد والمصيبات والبليات؛ فإن فرج الله آت ورحمته قريب من المحسنين، وما عند الله لا ينال إلا بطاعة، مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ [فاطر:2]. بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الهدى والبيان. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمؤمنين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه يحب التوابين وهو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم ح (2999). [2] صحيح البخاري ح (5318) ، صحيح مسلم ح (2573). [3] صحيح البخاري ح (5324) ، صحيح مسلم ح (2572). [4] صحيح ، سنن الترمذي ح (2399) وقال : حديث حسن صحيح. [5] صحيح ، المصدر السابق ح (2396). [6] حسن ، المصدر السابق ح (2396) وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه. [7] صحيح ، المصدر السابق ح (2398). [8] صحيح ، أخرجه أحمد (5/272) وأبو داود (3090). |