أما بعد: فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أولاكم من النعم، ودفع عنكم من النقم، فكم رزقكم من الطيبات، وعافاكم من المصائب والبليات، ومن ذلك ما أنزل لكم ربكم من أنواع اللباس؛ لكي تستتروا به وتتجملوا به بين الناس، كما قال سبحانه مذكراً لكم لعلكم تشكرون: يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشاً ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون [سورة الأعراف:26]. فقد امتن سبحانه على عباده بأن أوجد لهم لباساً يسترون به عوراتهم، ويجملون به ظاهرهم لباساً أحسن منه وهو لباس التقوى، الذي يجمل ظاهرهم وباطنهم في الدنيا والأخرى، ولباس التقوى هو الإيمان، الذي يجعل المرء يتقي ربه فيلازم طاعته، ويبتعد عن معصيته، ويستعين بنعمه على تحقيق مرضاته، ويحذر أن تكون ذريعة إلى تعدي حدوده، وانتهاك حرماته، وتقوى الله سبب لسعة الرزق، ويسر الأمر، وتكفير السيئة، وعظم الأجر: ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدراًً [سورة الطلاق:2-3]. وقال تعالى: ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً ذلك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظِم له أجراًً [سورة الطلاق:4-5]. فاتقوا الله في جميع أموركم، واعملوا له شكرا، واتقوه في ملابسكم، لا تكسبوا بها وزرا. أيها المسلمون: إن هذا اللباس بجميع أصنافه وأشكاله من الزينة التي أخرجها الله وأباحها لعباده، ولقد أنكر سبحانه على من حرم شيئا منها دون برهان، أو تجاوز منها ما جاء به الشرع في شأنها من بيان، كما قال سبحانه في ذكره المصون: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين ءامنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون [سورة الأعراف:32]. فأضاف سبحانه الزينة إليه امتناناً علينا بنعمته، وتنبيهاً لنا أن نتقيد فيها بأحكام شريعته، فلا نتحكم فيها بتحليل أو تحريم، أو نستعملها فيما يخالف الشرع الحكيم: تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون [سورة البقرة:229]. أيها المسلمون: إن الأصل في اللباس الإباحة؛ فإنه داخل في عموم قوله: هو الذي خلق لكم ما في الأرض [سورة البقرة:29]. فكله حل لنا إلا ما قام الدليل من الشرع على تحريمه، ولهذا كان المحرم من اللباس قليلا بالنسبة للحلال، عطاء من ذي الفضل والجلال، وعطاؤه سبحانه أوسع من منعه، وهو تعالى لا يمنع عباده من شيء إلا لحكمة بالغة، ومصلحة جامعة، فإنه ذو الرحمة الواسعة، وهناك ضوابط توضح المحرم من اللباس، ينبغي أن يعلمها جميع الناس، وأن يسألوا أهل العلم عما أشكل عليهم أمره حتى يزول الإلتباس. أحدها: ما فيه تشبه بالكفار، كالزي الخاص بهم، أو ما فيه لهم إشارة أو شعار، فإن تحريم التشبه بالكفار في اللباس من الأصول المهمة، التي توافرت بشأنها الأدلة، واشتهر عند سائر الأمة، فكل لباس يختص بالكفار لا يلبسه غيرهم، فلا يجوز للمسلم رجلا كان أو امرأة لبسه، سواء كان لباساً شاملاً للجسم كله أو لعضو منه، لقوله : ((من تشبه بقوم فهو منهم)). فإن التشبه بهم يقتضي شعور المتشبه بأنهم أعلى منه، فيعجب بصنعيهم ويفتن بمشاكلتهم، حتى يجره ذلك إلى اتباعهم في العقائد والأعمال والعوائد والأحوال. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في قوله : ((من تشبه بقوم فهو منهم)). أقل أحوال هذا الحديث التحريم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر التشبه بهم. الثاني: ما يظهر العورة لضيقه أو شفافيته أو قصره؛ فإن الله سبحانه امتن علينا باللباس الذي من فوائده ستر العورة وأخذ الزينة، إذ يقول: يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم أي ليستر عوراتكم: وريشاً [سورة الأعراف:26]. أي زينة. فإذا كان اللباس لا يستر العورة فإنه لا يتحقق به التمتع بالمنة ولا التجمل بالزينة، فيجب على الرجال والنساء كل بحسبه ستر عوراتهم، والستر لا يقصد به تغطية البشرة فقط، بل يتعداه إلى تغطية الأعضاء المحكوم شرعاً بأنها عورة لا بد من سترها عن أنظار الناس، سواء منها ما يختص بالصلاة بحيث يكون اللباس واسعاً – نسبياً – سميكاً سابغاً، فلا ينحسر عن العورة، ولا يصفها لضيقه أو صفاقته أو شفافيته، قال تعالى: يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد [سورة الأعراف:31]. فالزينة هي اللباس، والمراد بالمسجد الصلاة، فأمر سبحانه العباد أن يلبسوا أحسن ثيابهم وأجملها في الصلاة؛ للوقوف بين يديه، ومناجاته والتذلل له. والتجمل في اللباس مطلوب من المسلم بما أباح الله له من غير إسراف ولا تبذير ولا تكبر ولا مخيلة. الثالث: التشبه من الرجال بالنساء أو العكس؛ فكل لباس يختص بأحد الجنسين سوءاً كان شاملاً لجميع الجسم كالقميص ونحوه، أو مختصاً بعضوا منه كالسراويل وغطاء الرأس، أو الأطراف كالحذاء والجوارب، في لونه أو هيئته؛ فإنه لا يجوز للجنس الآخر لبسه؛ لما ورد من النصوص الصحيحة الصريحة في وعيد المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال، ففي البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((لعن رسول الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال)). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((لعن رسول الله الرجل يلبس لبس المراة، والمراة تلبس لبس الرجل)). فما جرى العرف- الذي لا يخالف الشرع -عليه بأنه من لباس النساء في نوعه أو لونه أو هيئة تفصيله وخياطته، فلا يجوز للرجال لبسه، وهكذا ما تعورف عليه بأنه من لباس الرجال الخاص بهم فلا يجوز للنساء لبسه، ولو على سبيل الهزل أو التمثيل في المناسبات؛ حتى لا يتعرض المسلم للعن، وهو الطرد والابعاد عن رحمة الله، قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: (لقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم جنة عرضها السماوات والأرض). فمن راعى الضوابط السابقة، فكان لباسه شرعياً لا مخالفة فيه بوجه من الوجوه، فلا حرج عليه أن يختار ثوبه ونحوه مما يحلو له رجلاً كان أو امرأة بشرط تجنب الشهرة، وليس ثم مانع أن يكون من الأمة من هم أكثر ورعاً يتحرون الأفضل والأكثر ستراً؛ فإن الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما مشتبهات لا يعملها كثير من الناس، من وقع فيه وقع في الحرام على الدوام. فاتقوا الله أيها المؤمنون، واستعينوا بنعم الله على طاعته، ولا تجعلوها سلماً لمعصيته في ارتكاب مخالفته؛ بل اشكروا نعمه، واحذروا نقمته، واخلصوا عبادته، وأقيموا فرائضه، واحفظوا حدوده: واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون [سورة البقرة:281]. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب [سورة الحشر:7]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا جميعا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم. |