مفهوم العبادة ومقاصدها
الحمد لله الملك العظيم العلي الكبير، الغني اللطيف الخبير، المنفرد بالعز والبقاء والإرادة والتدبير، الحي العليم الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير، أحمده حمد عبد معترف بالعجز والتقصير، وأشكره على ما أعان عليه على قصد ويسر من عسير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا مشير ولا ظهير له ولا وزير، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله البشير النذير، السراج المنير، المبعوث إلى كافة الخلق من غني وفقير، ومأمور وأمير، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه صلاة يفوز قائلها من الله بمغفرة وأجر كبير، وينجو بها في الآخرة من عذاب السعير، وحسبنا الله ونعم الوكيل فنعم المولى ونعم النصير،1 أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى حق التقوى، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (102) سورة آل عمران.
أيها الناس: هذا الكون الذي نعيش فيه معبد رحب تتجاوب جنباته بالتسبيح لخالقه ومنشئه.
فالأرض والسماء وما فيهما وما بينهما كل ذلك مستسلم خاضع لله المبدع الموجد قال تعالى: {بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} (116) سورة البقرة، وقال: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (83) سورة آل عمران، وهم مع استسلامهم لربهم يسجدون له {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} (15) سورة الرعد، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} (18) سورة الحـج، ومع الاستسلام والسجود تسبيح و تقديس, قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ...} (41) سورة النــور.
والإنسان في هذا الكون عالم من هذه العوالم التي أوجدها الله سبحانه لتعبده و تتوجه إليه كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ*مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ*إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (58) سورة الذاريات.
فالعبادة هي غاية الوجود الإنساني بل الكون كله ما وجد إلا لذلك، فحري بنا أن نبذل وسعنا في التعرف على مفهوم هذه العبادة التي خلقنا من أجلها.
أيها المؤمنون: ونحن عندما نحاول الكشف عن حقيقة العبادة يجب علينا أن نتوجه إلى كتاب ربنا، وسنة نبينا كيف نتعرف من خلالهما على مفهوم العبادة، فما أنزل الله الكتب ولا أرسل الرسل إلا ليعرف الناس بالغاية التي خلقوا من أجلها والسبيل الذي يحققون به تلك الغاية.
والناظر في نصوص الكتاب والسنة يجد أن مدلول العبادة فيهما شامل لا يقتصر على الفرائض، فالحياة في منهج الله "وحدة" كل ما فيها لله، والإسلام لا يفصل بين طريق الدنيا وطريق الآخرة، لا فرق فيه بين الفرائض والسلوك، ويجعل كل حركة في حياة المسلم وثيقة الصلة بعقيدته كي يتوجه بها إلى ربه منفذاً أمره، و محققاً رسالته، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ*لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (163) سورة الأنعام.
وأصل العبادة: محبة الله، بل إفراده بالمحبة، وأن يكون الحب كله لله، فلا يحب معه سواه، وإنما يحب لأجله وفيه، كما يحب أنبياءه ورسله وملائكته وأولياءه، فمحبتنا لهم من تمام محبته، وليست محبة معه، كمحبة من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحبه، وإذا كانت المحبة له حقيقة عبوديته فهي إنما تتحقق باتباع أمره واجتناب نهيه.
والعبادة في مفهومها تعرف بأنها "اسم جامع لكل ما يحبه الله و يرضاه من الأقوال والأفعال الباطنة والظاهرة".
كما حقق ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله.2
وعلى ضوء ذلك: فلا يكون العبد موصوفاً بوصف العبودية إلا بأصلين عظيمين:
1- الإخلاص لله جل وعلا.
2- متابعة الرسول.
ومما سبق بيانه يتضح لنا جليّاً معنى العبادة الحقة التي أمرنا الله -عز وجل- أن نتعبد له بها، والتي تعني تمام المحبة مع تمام الخضوع والتذلل لله -عز وجل- الذي يعني طاعته –سبحانه- والانقياد لأمره، ومحبة ما يحب، وبغض ما يكره، واتباع رسوله -صلى الله عليه وسلم- فيما أمر ونهى وما سن وما شرع، من غير زيادة ولا نقصان؛ وإلا.. فما قيمة محبة وخضوع لا يثمران طاعة واتباعاً، وقبولاً والتزاماً؟3
وهذا ا المدلول الشامل للعبادة في الإسلام هو مضمون دعوة الرسل عليهم السلام جميعا وهو ثابت من ثوابت رسالاتهم عبر التاريخ فما من نبي إلا أمر قومه بالعبادة، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (25) سورة الأنبياء.
أيها الناس: إن من رحمة الله تعالى بعبادة أن نوع لهم هذه العبادات حتى يذهب عنهم التعب والملل وليعبد الخلق ربهم بما يستطيعون من العبادات، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الإيمان بضع وستون -وفي رواية النسائي (بضع وسبعون)- شعبة فأفضلها قول لا إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق).4
وعبادة الله تتطلب النية الصادقة والإخلاص في العمل والاستقامة.
وتتمثل أنواع العبادات فيما يلي:
- عبادات يؤديها المرء بجسده كالصلاة والوضوء والطهارة والصوم.
- عبادات يؤديها المرء بماله كالزكاة والصدقات.
- عبادات بدنية ومالية كالجهاد والحج.
- عبادات هي عبارة عن أعمال بشرية عادية كالزراعة والتجارة والأعمال الوظيفية، فيؤجر عليها العبد إذا قصد بها وجه الله تعالى.
- عبادات عقلية وفكرية كالتأمل في مخلوقات الله الذي يؤدي إلى تقوية الإيمان وتعميقه، واليقين في عظمة الله وقدرته. كما قال الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ*الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (191) سورة آل عمران.5
كما أن العبادة في الإسلام تشمل الفرائض والنوافل، والنوافل هي ما زاد على الفريضة، وهي الاستزادة من التقرب إلى الله والوصول إلى محبته وإرضائه، لكن يجب ألاَّ تكون على حساب الواجبات حتى تنال القبول عند الله والأجر الكبير.
يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: (ما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه، وما زال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني أعطيته، ولئن استعاذني لأعيذنه).6
كتب الله لنا ولكم من بركات هذه الساعة، وأمننا وإياكم من هول يوم القيامة، أقول ما تسمعون، واستغفروا ربكم وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ولي الحمد والثناء، وأهل الكرم والنعماء حمدَ مستمتعٍ بدوام نعمه، ومستوزعٍ للشكر على جليل قسمه، ومؤد فرض محامده وآلائه، ومستمدٍ من فوائد كرمه ونعمائه، وصلى الله على سيدنا محمد نبيه المكين ورسوله الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته الكرام الميامين، أما بعد:
أيها الناس: لقد انحرف كثير من الناس عن مفهوم العبادة حيث نظروا إلى العبادة على أنها أداء للشعائر التعبدية من: صلاة، وصيام، وحج، وذبح، وقراءة قرآن... فحسب، وأن ما سوى ذلك من معاملات، وأخلاقيات، ومباحات.. وغيرها، كل ذلك لا يدخل في العبادة.
نعم إن هذا المفهوم هو السائد عند بعض المسلمين، سواء أقالوه بلسان مقالهم أم بلسان حالهم وأعمالهم، ولا أدل على ذلك من أننا قد نجد ذاك العبد المصلي، الصائم، القارئ للقرآن، بعد فراغه من هذه الشعائر التعبدية لا يتورع أن يغشّ، أو يرابي، أو يظلم، أو يملأ بيته من آلات اللهو ووسائل الإفساد ما الله به عليم، وكذلك قد نرى المرأة المصلية الصائمة لا تتورع عن التصرف في نفسها بما يخالف الشرع، من سفور، أو زينة محرمة، أو اختلاط.. أو غيره.
وإذا نصح مثل هؤلاء الناس، قالوا: إنهم من المصلين العابدين، وقد انتهى وقت العبادة! وهكذا تنحرف الغايات، وتنشأ اللوثات، وتفسد النيات، وذلك كمن يفصل أمر تعليمه وتعليم أولاده عن غاية العبادة لله -عز وجل-، ويربط ذلك بالشهادة والمال والوظيفة، بل يستخدم أي وسيلة توصله إلى ذلك.
إن العبادة بهذا المفهوم المنحرف تجعل المسلم في انفصال وانفصام بين حياته في مسجده وخارج مسجده؛ لأنه لو كان مفهوم العبادة التي يريدها الله -عز وجل- كما فهمها هذا الصنف من الناس لكانت عبثاً، ولبقيت أكثر الأوقات غير معمور بعبادة الله -عز وجل-، وهذا لا يرضاه الباري -جل وعلا-؛ ذلك لأن أوقات الصلوات لا تتعدى ساعتين أو ثلاث في اليوم والليلة، فماذا يكون شأن الساعات الباقية؟ هل تنفق في غير عبادة؟! كلا.. فإن الله –سبحانه- لا يرضى لعباده هذه الحال.
إذن: فالواجب على كل مسلم أن يعلم أنه ما خلق إلا للعبادة، وأن وقته يجب أن يكون في عبادة؛ سواء ما كان منه في الشعائر التعبدية، أو ما كان منه في المعاملات، أو ما كان منه في المباحات، كل ذلك يجب أن يمارسه العبد وشعور العبادة لله -عز وجل- يصاحبه، فيراقب ربه في كل أعماله، وينوي بها التقرب إليه -عز وجل- والاستعانة بها على طاعته.
إن هذا الشعور وهذه النية تجعل العبد في كل أعماله حتى في مباحاته ولذاته عبداً لله، مسلماً وجهه لربه -عز وجل-،7 {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ*لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (163) سورة الأنعام.
جعلنا الله وإياكم من عباده الصالحين، كما نسأله –تعالى- أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا، والحمد لله أولاً وآخراً وباطناً وظاهراً.. وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيراً إلى يوم الدين.
1 المستطرف للأبشيهي (1/9).
2 مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية: (1/149).
3 المفهوم الصحيح للعبادة ومظاهر انحرافه وضعفه، كتبه: عبد العزيز بن ناصر الجليل. مجلة البيان – العدد: (104) ص20 - ربيع الآخر 1417هـ.
4 رواه مسلم برقم (35) واللفظ له، ورواه النسائي برقم (5004) وصححه الألباني.
5 من مقال بعنوان:"مفهوم العبادة ومقاصدها في الإسلام" كتبه/ عمر إدريس الرماش، مجلة البيان- العدد: 157 ص (136).
6 رواه البخاري (6137).
7 وقد تحدث محمد قطب حول هذا الموضوع حديثاً مستفيضاً وفق فيه، عند حديثه عن مفهوم العبادة، انظر كتابه "مفاهيم ينبغي أن تصحح".