لا أشك في عدل الله سبحانه تعالى, وتنزهه عن الظلم, فهو يبتليهم لحكمة, ويعافيهم لحكمة, والله سبحانه إذا أحب عبدًا ابتلاه, وطهّره من الذنوب؛ حتى يلقى الله خاليًا منها, وهذا فضل عظيم من الله, لكني قرأت أن لله عز وجل عبادًا لا يبتليهم, بل يحييهم في عافية, ويدفع عنهم الأمراض والابتلاءات, ويدخلهم الجنة في عافية, فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لله ضنائن من خلقه, يأبه بهم عن البلاء، يحييهم في عافية، ويدخلهم الجنة في عافية" فمن هم هؤلاء الذين يدفع عنهم البلاء؟ وكيف أكون منهم؟ وما الحكمة من معافاتهم وابتلاء غيرهم؟ وإذا كان المبتلى يصبر وله الجنة, فكيف يتساوى من ارتاح في الدنيا ولم يبتلَ فيها ويدخل الجنة بمن ابتلي وتعب فيها ويدخل الجنة؟ لا أعترض على حكم الله سبحانه, بل أرجو منكم التوضيح؛ حتى لا تبقى لديّ شبهة - جزاكم الله خيرًا -.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الحديث المذكور ضعيف, فقد ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة, وما دام ضعيفًا فلا تتعب نفسك في البحث عن الضنائن, وكيف تكون منهم؟
ولكن يشرع أن تستعيذ بالله من الابتلاء بالشر, وتكثر سؤال العافية عملًا بهدي النبي صلى الله عليه وسلم, ففي الحديث: اسألوا الله العفو والعافية, فإن أحدا لم يعط بعد اليقين خيرًا من العافية. رواه الترمذي, وأحمد, وصححه الألباني.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يسأل الله دائمًا العافية، فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني, ودنياي, وأهلي, ومالي، اللهم استر عورتي، اللهم احفظني من بين يدي, ومن خلفي, وعن يميني, وعن شمالي, ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي. قال: يعني الخسف... الحديث رواه أحمد, وأبو داود, وغيرهما, وصححه الألباني.
وكان يقول : اللهم عافني في بدني، اللهم عافني في سمعي، اللهم عافني في بصري، لا إله إلا أنت، اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، وأعوذ بك من عذاب القبر، لا إله إلا أنت. ثلاث مرات صباحًا ومساء. رواه أبو داود, وأحمد، والنسائي في عمل اليوم والليلة, وإسناده حسن.
وقال عليه الصلاة والسلام: تعوذوا بالله من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء. رواه البخاري.
وفي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من جهد البلاء, ودرك الشقاء, وسوء القضاء, وشماتة الأعداء.
وفي صحيح مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلا من المسلمين قد خفت فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل كنت تدعو الله بشيء, أو تسأله إياه, قال: نعم, كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله, لا تطيقه, أو لا تستطيعه، أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة, وفي الآخرة حسنة, وقنا عذاب النار, قال: فدعا الله له, فشفاه.
وروى الترمذي عن العباس بن عبد المطلب قال: قلت: يا رسول الله, علمني شيئًا أسأله الله عز وجل، قال: سل الله العافية, فمكثت أياماً ثم جئت, فقلت: يا رسول الله, علمني شيئًا أسأله الله، فقال لي: يا عباس, يا عم رسول الله, سل الله العافية في الدنيا والآخرة. صححه الترمذي والألباني أيضًا.
قال في تحفة الأحوذي شرح الترمذي: في أمره صلى الله عليه وسلم للعباس بالدعاء بالعافية, بعد تكرير العباس سؤاله بأن يعلمه شيئاً يسأل الله به، دليل جلي بأن الدعاء بالعافية لا يساويه شيء من الأدعية، ولا يقوم مقامه شيء من الكلام الذي يدعى به ذو الجلال والإكرام. انتهى.
واعلم ان الابتلاء لا يقتصر على الضراء فقط، بل قد يكون امتحان السراء أشد من الضراء، كما قال عبد الرحمن بن عوف: ابتلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالضراء فصبرنا، ثم ابتلينا بالسراء بعده فلم نصبر. رواه الترمذي وحسنه، وحسنه الألباني.
قال ابن الأثير في النهاية: يريد إنا اختُبِرنا بالفقر والشِّدة والعذاب فصبرنا عليه، فلمَّا جاءتنا السراء, وهي الدنيا والسِّعه, والراحة بطِرنا, ولم نصبر. اهـ
فالمؤمن ممتحن, سواء بالضراء أو السراء، وعليه في كل حال فرض لله تعالى، فحاله يدور بين الشكر والصبر، وفي كلٍ خير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: عجباً لأمر المؤمن, إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له. رواه مسلم.
فمن كان كذلك فهو مأجور محبوب لله على كل حال، حتى لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر. رواه أحمد, والترمذي, وحسنه، وابن ماجه، وصححه الألباني.
قال ابن بطال: هذا من تفضل الله على عباده أن جعل للطاعم إذا شكر ربه على ما أنعم به عليه ثواب الصائم الصابر, وقال الطيبي: ربما توهم متوهم أن ثواب الشكر يقصر عن ثواب الصبر, فأزيل توهمه، أو وجه الشبه اشتراكهما في حبس النفس, فالصابر يحبس نفسه على طاعة المنعم، والشاكر يحبس نفسه على محبته. اهـ.
فالواجب على المسلم أن يقوم بواجب العبودية في الحال التي هو عليها, سواء كان مبتلى أو لا، فإن فعل ما أمر به فهذا دليل على توفيق الله له, وأنه أراد به الخير، والعكس بالعكس، وهذا كلام نفيس لابن القيم ـ رحمه الله ـ نسوقه لفائدته، قال في أول الوابل الصيب: العبد دائم التقلب بين هذه الأطباق الثلاث:
الأول: نعم من الله تعالى تترادف عليه فقيدها الشكر، وهو مبني على ثلاثة أركان: الاعتراف بها باطنًا, والتحدث بها ظاهرًا, وتصريفها في مرضاة وليها ومسديها ومعطيها، فإذا فعل ذلك فقد شكرها, مع تقصيره في شكرها.
الثاني: محن من الله تعالى يبتليه بها, ففرضه فيها ـ الصبر ـ والتسلي، والصبر حبس النفس عن التسخط بالمقدور, وحبس اللسان عن الشكوى, وحبس الجوارح عن المعصية - كاللطم, وشق الثياب, ونتف الشعر, ونحوه - فمدار الصبر على هذه الأركان الثلاثة، فإذا قام به العبد كما ينبغي انقلبت المحنة في حقه منحة, واستحالت البلية عطية, وصار المكروه محبوبًا، فإن الله سبحانه وتعالى لم يبتله ليهلكه، وإنما ابتلاه ليمتحن صبره وعبوديته، فإن لله تعالى على العبد عبودية الضراء, وله عبودية عليه فيما يكره, كما له عبودية فيما يحب, وأكثر الخلق يعطون العبودية فيما يحبون, والشأن في إعطاء العبودية في المكاره, ففيه تفاوت مراتب العباد, وبحسبه كانت منازلهم عند الله تعالى، فالوضوء بالماء البارد في شدة الحر عبودية, ومباشرة زوجته الحسناء التي يحبها عبودية, ونفقته عليها وعلى عياله ونفسه عبودية، هذا والوضوء بالماء البارد في شدة البرد عبودية, وتركه المعصية التي اشتدت دواعي نفسه إليها من غير خوف من الناس عبودية، ونفقته في الضراء عبودية، ولكن فرق عظيم بين العبوديتين، فمن كان عبدا لله في الحالتين, قائما بحقه في المكروه والمحبوب, فذلك الذي تناوله قوله تعالى: أليس الله بكاف عبده. إلى آخر كلامه - رحمه الله -.
وقد بينا بعض الحكم من البلاء وفضل الصبر عليه في الفتاوى التالية أرقامها, فراجعها: 25165، 57255, 13270.
والله أعلم.