مع بداية العصر الحديث ازداد ولع النساء وبعض الرجال بعمليات التجميل، وأصبح يُنفق عليها الأموال الباهظة؛ إذ بلغ حجم ما تنفقه المرأة على الماكياج وعمليات التجميل والتخسيس (160) مليار دولار سنوياً, وكل ذلك من أجل الحصول على وجه جميل وجسد رشيق فاتن، خاصة وأن أحدث دراسة أجراها العالم الأمريكي (ديفيد بوش) على عشرة آلاف شخص ينتمون لحوالي (37) ثقافة مختلفة جاءت جاذبية المرأة على قمة ما يطلب الرجال توافره من أجل الزواج.
ومما زاد من حدة انتشار هذه الجراحات -التي كانت مقصورة من قبل على الشهيرات ونجمات السينما- أنها صارت الآن متاحة للجميع بدرجة أكثر أماناً وأقل تكلفة من ذي قبل, حتى إن (آلان ماتاراسو) أحد أشهر جراحي التجميل في أمريكا قال: إن عملية تكبير الثدي التي كانت تتكلف أكثر من (12) ألف دولار منذ عشر سنوات لا تتجاوز تكاليفها الآن (600) دولار فقط . ويقدّر الخبراء الأمريكيون أن صناعة التجميل الخاصة بالعناية بالجلد فقط تبلغ استثماراتها ما يزيد على (24) مليار دولار, أما الماكياج فتبلغ قيمة استثماراته (18) ملياراً, والعناية بالشعر (38) ملياراً, والعطور (15) ملياراً, ومن الأسواق الواعدة في صناعة التجميل -التي أهملتها الشركات التقليدية- سوق جراحات التجميل الذي تبلغ قيمة استثماراته بالفعل (20) مليار دولار سنوياً، ولا تزال تنمو بمعدل سنوي كبير.
وقد زاد الإقبال على تلك الجراحات داخل أمريكا بنسبة 220% منذ عام 1997 م، أما الجراحات التقليدية كتكبير الثدي وتعديل شكل الشفاه والأنف فتتم من خلال حقن (بوتوكس) لتجميد عضلات الوجه التي تسبب التجاعيد, وقد زادت تلك الجراحات بنسبة 2400% منذ عام 1997 م، كما زادت حالات عمليات التجميل في العالم العربي خلال العام الماضي من (380) ألف عملية إلى (650) ألف عملية تجميل. ويرى المحللون أن السبب المباشر لتفشّي هذه الظاهرة هو أغنيات (الفيديو كليب) العارية.. والتي تعتبر أن جسد المطربة، وكم العُري المعروض منه من أهم عوامل نجاحها، حتى صار لسان حالها يقول: (قليل من الغناء, كثير من العُري) فلقد جاءت أغاني (الفيديو كليب) كأحد خصائص الثقافة الاستهلاكية؛ إذ تركز على أجساد الفتيات لما للحركات الإيحائية التي تتم من خلال الجسد من تأثير مباشر على حواس المشاهد وشهواته, فضلاً على أن معظم مشاهد الكليب تم تصويرها ما بين حمام السباحة وغرفة النوم والبار.
وساعد الإقبال المتزايد على مشاهدتها على إنشاء قنوات فضائية غنائية فقط، بل أصبحت تتكاثر كالأمراض السرطانية الخبيثة التي تنمو بشكل متزايد وفي أسرع وقت، فالربح مضمون والتكلفة منخفضة، والأغاني مهداة مجاناً لهذه القنوات، وأصبحنا نرى الراقصات مطربات, يتسابقن في التنافس على ارتداء الملابس الساخنة والقيام بحركات كلها إغراء, وكأن جسد الراقصة بداية المتعة ونهايتها أيضاً.. حتى أشارت بعض البحوث الميدانية إلى أن هناك فئات كالأطفال والمراهقين والشباب يجلسون طوال اليوم، وأغلب الليل مشدودين ويقارنون بين جسد تلك وجسد الأخرى، فالكلمات لا تهم واللحن لا داعي له طالما هناك أجساد تتلوى قادرة على جذب مزيد من الرسائل النصية أو المصوّرة.. فانتشرت مراكز تجميل الجسد وظهرت موضات النيولوك، وعري أكثر تنجح أسرع، وتحت شعار (الجمهور يسمع بعينيه قبل أذنيه) زاد تركيز المصوّر على مناطق تجذب المراهقين الصغار والكبار معاً في جسد المرأة، سواء وهي تغني في التلفاز أو تتعرى على المسرح في حفلات الهواء الطلق، بعد أن أصبح جسد المطربة، وكمّ العري أهم عامل في نجاحها.
وامتد تأثيرها إلى تقليد الأزياء التي ترتديها، وارتداء ملابس عليها كتابات لها دلالة جنسية عند الذين صنعوها، مما زاد من الإقبال عليها، وإشعال الرغبات الجنسية لدى الأطفال والمراهقين الذين نموا قبل مراحل نموهم العادية -كما تحددها كتب علم نفس النمو-، ولمزيد من تخدير وتغييب هؤلاء أصبحت مسابقات ملكات الجمال لا تُقام مرة واحدة، وإنما تم تخصيص قناة لها تبث مشاهد فتيات شبه عاريات أو بملابس أكثر إثارة من العري نفسه..
تشاهدهن في نومهن ويقظتهن، وداخل غرف نومهن طالما أن ذلك سيدفعك للتصويت، وتحقيق الربح المادي الخيالي من وراء رغبات مكبوتة.
ولقد بلغ جنون كثير من الفتيات والنساء بالجمال بسبب هذا التأثير المفرط حداً لا يوصف, والصحف والمطبوعات العربية تعجّ يومياً بدعايات وإعلانات برّاقة عن الخدمات التي تقدمها مراكز التجميل من عمليات شفط الدهون، وشدّ الأجزاء المترهلة والتكبير والتصغير وإزالة غير المرغوب فيه, وقائمة طويلة عريضة من الخدمات الأخرى التي يسيل لها لعاب كثير من النساء الباحثات عن القوام الرشيق والراغبات في مزاحمة المطربات ومذيعات الفضائيات على عرش الجمال..
كل ذلك دون أن يحسبن حساباً لمدى خطورة إجراء مثل هذه العمليات وما قد يتبعها من مضاعفات جانبية خطيرة يحرص كثير ممن يطلقون على أنفسهم (خبراء) و (خبيرات) التجميل على إخفائها عن مسامع زبائنهم، واضعين نصب أعينهم الأموال الطائلة التي سوف يجنونها من إجراء تلك العمليات السحرية.
إننا نهيب بكل امرأة أن تحَكِّم عقلها قبل التفكير في إجراء أي عملية تجميل، وتضع نصب عينيها حقيقة أن 99% من فنانات ومطربات هذه الأيام هن زبائن دائمات لتلك المراكز والعيادات، وأن (النيولوك) الذي تظهر به فنانتها المحبوبة والذي تحاول جاهدة تقليده يعود فضله إلى عمليات (الصبغ والسمكرة) التي تجري على يد أمهر خبراء التجميل في أرقى العيادات و المراكز الأوروبية.
لا أعتقد أن أحداً بات يجهل ما حدث للمطربة اللبنانية -معشوقة الشباب الأولى والنموذج المثالي لفتيات الأحلام بالنسبة لهم-، فقبل فترة نُشر خبر عن سقوطها على المسرح أثناء تأديتها لحفلة من حفلاتها بعد إصابتها بإغماءة مفاجئة علل الأطباء سببها إلى إسرافها في استخدام حقن (السيليكون) التي تُستخدم عادة في عمليات التجميل (لتلغيم) الأجزاء المراد تكبيرها في الجسم، وحسب ما ورد في الخبر فلقد قامت بحقن جميع أجزاء جمسها بهذه المادة الخطيرة لكي تبرز من جسدها ما نراه من (بروزات وانبعاجات) مثيرة للغرائز والأحاسيس جعلت ملايين الشباب في شتى أنحاء العالم العربي يهيمون بها حباً وتيهاً، وهم لا يدرون أنها ليست سوى كتل سيليكون متحركة.
أما (مايكل جاكسون) المطرب الأمريكي المشهور فهو مثال آخر للمعجزات التي يمكن أن تحدثها عمليات التجميل التي تُعتبر في هذه الحالة (تشويهاً) بالتأكيد، فعشرات العمليات المختلفة طالت كل بوصة في جسد ذلك المطرب لم تخلف وراءها سوى (مسخ) يتأرجح بين عالم البشر والقرود.
أما عن الرؤية الشرعيّة لمثل هذه العمليات فلقد جاء في الموسوعة الطبية: الجراحة التجميلية (Esthetic Surgery) هي فنٌّ من فنون الجراحة يرمي إلى تصحيحَ التشوهات والعيوب والآفات الظاهرة، مثل التَّشَوُّهات الولادية أو الخَلْقِيَّة (Congenital Malformations)، مثل تعديل الحَنَـك المشـقوق أو الشـفة المشقوقـة أو ما يُعرف عند العامَّة بشفة الأرنب، أو تعديل عيوب صيوان الأذن، أو انحراف الأنف أو تصغيره إن كان ضخماً، ونحوه. وقد تجرى عمليات التجميل لقلع السِّنِّ الزائدة، أو قطع الإصبع الزائدة، أو تصحيح التشوهات الناجمة عن الحوادث المختلفة كالحروق والجروح. والجراحة التجميليّة جائزة إجمالاً ولكن بشروط، وهي:
- الجراحات التجميليّة التي تستهدف علاجَ المرض الخَلْقي أو المرض الحادث بعد الولادة بقصد إعادة شكل أو وظيفة العضو السَّويَّة المعهودة له جائزةٌ شرعاً، ومثلها أيضاً إصلاح العيب أو الدَّمامة التي تسبب للشخص أذًى عضوياً أو نفسياً.
- الجراحة التجميلية التي تستهدف تغيير شكل أو وظيفة العضو السَّويَّة المعهودة حرامٌ لا يجوز إجراؤها، وذلك لنهي النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا الفعل حيث قال: «لَعَنَ اللهُ الواشماتِ والمُتوَشِماتِ والمُتَنَمِّصَاتِ، والمُتَفَلِّجَاتِ للحُسْنِ المُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللهِ» رواه مسلم. ومن ذلك مثلاً العمليات التي تجرى لتغيير الجنس (Sex Reversal) من رجل إلى امرأة أو بالعكس، التي شاعت في بعض البلدان غير الإسلامية في العقود الأخيرة، وهي حرام بيِّن لا شكَّ فيه.
- الجراحات التجميلية التي تجرى لمجرد اتباع الهوى، أو تحصيل المزيد من الحسن حرام، لا يجوز إجراؤها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم «المتفلجات للحُسن»، ومن ذلك مثلاً عمليات شَدِّ الجِلد وما شابهه من العمليات التي تستهدف إزالة آثار الشيخوخة وإعادة مظهر الشباب (فهذا النوع من الجراحة لا يشتمل على دوافع ضروريّة ولا حاجيَّة، لهذا لا يجوز فعله)؛ لأنه تغييرٌ للخلقة، وعبثٌ بها، واتباعٌ للهوى والشهوة والشيطان الذي تمرَّد على ربه فقال {وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء:119].
ولربَّما احتجَّ الذين يلجؤون لمثل هذه العمليات بأنها تزيدهم ثقةً بالنَّفْسِ، وتزيدهم قدرةً على الإنتاج والعطاء، وهي حجة واهية، فالثابت من المشاهدة أن (عمليات التجميل لا تغيـِّر من شخصيَّةِ الإنسان تغييراً ملحوظاً، وأن العجز عن بلوغ هدف معين في الحياة لا يتوقف كثيراً على مظهر الشخص؛ فالمشكلة في ذلك أعمق كثيراً مما يبدو من ظواهر هذه الأمور، وعلى هذا فعمليات التجميل الاختيارية غيرُ محقَّقَةِ النتائج، ومن الخير تَرْكُ الإغراقِ في إجرائها أو المبالغة في التنبؤ بنتائجها) ولعلَّ خير وسيلة لعلاج مثل هذه الأوهام والوساوس هي (غرس الإيمان في القلوب، وغرس الرضا عن الله تعالى فيما قَسَمَهُ من الجمال والصورة)، والمظاهر ليست هي الوسيلة لبلوغ الأهداف النبيلة، وإنما يُدرك ذلك بتوفيق الله تعالى، ثم بالتزام شَرْعِهِ، والتَّخَلُّق بالآداب ومكارم الأخلاق.
المصدر: الإسلام اليوم