ولي مع هذا الكلام وقفات سريعة:
1- أن ما وقع فيه حاطب موالاة محرمة لا شك في ذلك ولا ارتياب، فلو اقتصر أولئك على جعله دليلا على عدم التكفير بمطلق الموالاة للكفار لكان كلامًا متوجهًا، لكنهم جعلوا النص دليلا على عدم التكفير بكل صور الموالاة إلا في صورة واحدة ذكروها وأخرجوا المظاهرة -وهي صورة أخص من مطلق الموالاة- من أن تكون كفرًا.
2- أما كون حاطبٍ قد وقع في مظاهرة المشركين على المؤمنين فمحل بحث ونظر، فإنهم يقولون: نعم فعله مظاهرة؛ إذ قد أفشى سر النبي صلى الله عليه وسلم، وأطلع الكفار على أمر فيه مصلحة لهم ونكاية بالمسلمين طلبًا لمصلحة تعود عليه وأهله، ومع ذلك لم يكن كافرًا بصنيعه هذا؛ لأن الباعث له على هذا الفعل تحصيل مصلحة دنيوية، ولم يكن الباعث تولي الكفار في دينهم. وهذا التصوير لما وقع فيه حاطب تصوير لا يخلو من أخذ ورد، فمما ينبغي مراعاته وملاحظته في قصة حاطب رضي الله عنه ما يلي:
أ- أن حاطبًا قد ناصر النبي صلى الله عليه وسلم على أعدائه بنفسه وماله فيما سبق هذه الحادثة وهو ما زال على نصرته هذه، مظاهرًا للنبي صلى الله عليه وسلم على أعدائه طالبًا رضا ربه بالخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم لفتح مكة، فله من نصرة المؤمنين على الكافرين نصيب وافر، بل هو الأصل في نصرته وجهاده، بخلاف من كانت نصرته خالصة لأهل الكفر على أهل الإيمان، فكيف يُجعل حكمُ من أبدى خبرًا للكفار مع مناصرته لأهل الإسلام بنفسه وماله كحكم من ناصرهم بنفسه وماله ورأيه وما يملك!! يقول الإمام ابن القيم عليه رحمة لله: (تأمل قوة إيمان حاطب التي حملته على شهود بدر وبذله نفسه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيثاره الله ورسوله على قومه وعشيرته وقرابته وهم بين ظهراني العدو وفي بلدهم، ولم يثن ذلك عنان عزمه، ولا فل من حد إيمانه ومواجهته للقتال لمن أهله وعشيرته وأقاربه عندهم) [زاد المعاد 3/436].
ب- أن غاية ما بدر من حاطب من موالاةٍ محرمةٍ أنْ خابَرَ قريشًا بخبر مسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد رغِبَ أن يظل أمر خروجه سرًا، وإفشاؤه في هذه الحالة لا شك أنه ذنب ومعصية، لكنه -رضي الله عنه- لم يتجاوز ذلك الإخبار بقول أو فعلٍ زائد يكون فيه مظاهرة لهم على النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يقاس عليه من تجاوزه رضي الله عنه بأن جمز إلى معسكر الكفار واصطف معهم لقتال أهل الإسلام.
جـ- أن حاطبًا قد فعل فعلا ظن فيه مصلحة له وأنه لا ضير فيه على المسلمين، إذ إنه ما فعل ما فعل إلا وهو معتقد أن الله ناصر نبيه صلى الله عليه وسلم، مظهر لدينه، معل لكلمته، وهو ما صرح به رضي الله عنه حيث قال: (أما إني لم أفعله غشًّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم -وقال يونس غشا يا رسول الله- ولا نفاقًا؛ قد علمت أن الله مظهر رسوله ومتم له أمره، غير أني كنت عزيزًا بين ظهريهم، وكانت والدتي منهم، فأردت أن أتخذ هذا عندهم) [رواه الإمام أحمد في المسند 14360، قال الحافظ ابن كثير: (صحيح على شرط مسلم) البداية والنهاية 2/284، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الموارد 1867، وحسنه الشيخ مقبل الوادعي في الصحيح المسند 231]، ويقول ابن تيمية وقد ساق حديث حاطب رضي الله عنه ثم قال: (وفي لفظ -أي لحديث حاطب-: (وعلمت أن ذلك لا يضرك)، يعني لأن الله ينصر رسوله والذين آمنوا) [الفتاوى 35/67]، فشتان شتان بين رجل يظاهر الكفار على المؤمنين، ويقف بسيفه في صفهم، ويسعى لغلبتهم، ولا يبالي بأن يؤدي فعله هذا إلى ظهور الكفار على المؤمنين، وعلو الكفر على الإيمان، وآخر يفعل فعلا يعتقد أنه لا يُحقق ذلك الظهور، وإن كان هذا الفعل محل مؤاخذة، وذنبًا ومعصية، وهو من الموالاة المحرمة.
د- وبالوجه السابق يتبين أن حاطبًا ما قصد الفعل المكفر ولا واقعه -أعني مظاهرة المشركين على المؤمنين-، بل قصد فعلا لا يكون فيه ظهور للمشركين على المؤمنين، فالمناط غير المناط، والبحث غير البحث.
هـ- ومن بقي لديه تردد في هذه المسألة، فليتأمل فقط في أنه لا خلاف بين أهل العلم في حل دم من قاتل أهل الإسلام، مع ما اشتهر من قول أكثرهم بعدم قتل الجاسوس.
فإن قيل: فما بال عمر قد اتهمه بالكفر والنفاق إن لم يكن ما فعله كذلك؟
فيقال: إن عمر رضي الله عنه قال ما قال بناء على ظنه أن حاطبًا رضي الله عنه فد تلبس بالمناط المكفر ووقع في المظاهرة التي يكفر صاحبُها، فلما استجلى النبي صلى الله عليه وسلم الأمر ظهر أن حاطبًا ما أقدم على ما أقدم عليه إلا لاعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم منصور، وأن إفشاء سر النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عن غشٍّ أو نفاق أو شروعٍ في ظهور الكفر على الإسلام، بل كان فعله لأجل مصلحةٍ يجنيها توهَّم أنْ ليس فيها كبيرُ ضرر على النبي صلى الله عليه وسلم ولا على الإسلام والمسلمين، مع علمه بحرمة ما صنع من إفشاء لسر النبي صلى الله عليه وسلم، وأن فيه إظهارًا لنوع موالاة للكافرين. فكان حكم عمر بناءً على ما علمه من حكم المظاهرة، والنبي صلى الله عليه وسلم مقرٌ لعمر على هذا الحكم (حكم المظاهرة)، وحاطب يعرف صحة هذا الحكم، لكنه يرى أنه ما واقع المناط المكفر؛ لأنه فعل ما فعل مع علمه ويقينه أن الله ناصر نبيه صلى الله عليه وسلم. فكيف يسوَّى بين من هذا حاله، وبين حالِ من يعلم –ولا يبالي- أنه بفعله سيبيد خضراء المسلمين وينصر الكفر والشرك وينشره في الأرض، كما هو مقتضى قول من يطلق القول بأن المظاهرة العملية كلها ذنبٌ دون الكفر؟!
ولتقريب الأمر في هذه الجزئية أقول: لو أن شخصًا رأى آخر يشرب عصيرًا من وعاء خمر، فقال رجل لولي الأمر: اجلده فإنه قد شرب الخمر، فسُئل الرجل عن ذلك، فقال: والله ما شربت الخمر ولا قاربتها وإنما هو عصير، فتُرك، فهل يكون في تركه تعطيلٌ للحد، أم أن المناط الموجب لإقامته لم يقع أصلا، وكذا لو أن رجلا رأى رجلا وامرأة في حال ريبة وشبهة، فقال لولي الأمر: اجلده أو ارجمه فإنه قد زنى، فسئل هذا عن فعله فقال: والله ما زنيت ولكنني قبلت وضممت، فعزر ولم يحد، أكان في ترك الحد إبطالٌ له، أم أن المناط لم يتحقق، فكذلك هنا، والمقصود أن مناط الكفر الذي هو المظاهرة لم يقع من حاطب، وهو الذي تبين بسؤال النبي صلى الله عليه وسلم، وشتان شتان بين فعل لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا من صاحبه كالمقاتلة، وبين ما يعرض له الاحتمالُ والاشتباه كالمخابرة والجس، والله أعلم.
3- وبتقدير أن حاطبًا وقع في المظاهرة المكفرة، وهو قول لبعض أهل العلم مستدلين بـ:
أ- أن عمر حكم على حاطب بالكفر والنفاق لأنه رأى في فعله مظاهرة للمشركين ومناصرة لهم، فعُلم أن المستقر عنده كفر من ظاهر المشركين على المسلمين، يقول الإمام البيهقي في سننه 10/208: (ولم يُنكِر على عمرَ رضي الله عنه تسميته بذلك إذ كان ما فعل علامَةً ظاهرةً على النِّفاقِ، وإِنما يكفرُ من كفَّرَ مسلمًا بغير تأويل).
ب- أن النبي صلى الله عليه وسلم ما ردّ على عمر قوله، وإنما سكت، فكان ذلك إقرارًا له على أن حكم المظاهرة كذلك، لكنه استفسر من حاطب وسأله عن صنيعه هذا ليعلم حقيقة الأمر وجليته، والباعث لحاطب على ما أقدم عليه، وهل ثمة ما يمنع من تنزيل حكم الكفر والردة عليه، فلما تبين الأمر خطأ عمرًا في التنزيل والحكم على المعين لا في حكم الفعل، وفرق بين من أخطأ في وصف فعل بأنه كفر، ومن أخطأ في تنزيل الوصف على معين.
جـ- أن حاطبًا دفع عن نفسه حكم الكفر والردة، ولو كان الفعل ليس كفرًا بمجرده لم يلزمه أن يدفع الأمر عن نفسه بما ذكر، أرأيت لو أن مسلمًا ركب كبيرة من الكبائر مثلا فقيل له: ما حملك على ما صنعت، أيصلح أن يكون جوابه: والله ما فعلتها كفرًا ولا رضا بالكفر، أم أن مثل هذا الجواب لا يرد أصلا ولا يقال لكون الفعل غير مكفر. وهذا الوجه من الاستدلال -إنصافًا- فيه ما فيه فإن الباعث لحاطب على تبرئة نفسه من الكفر أنه اتهم به، وظهر منه ما يوهم ذلك.
قالوا: ويمكن أن يقال في فهم الحديث بناءً على هذا: إن حاطبًا رضي الله عنه وإن وقع في الكفر فإنه مَنَعَ من تنزيل حكم التكفير عليه مانعٌ من موانع التكفير؛ ذلك أن الحكم بالكفر على المعين باب له أحكامُه المغايرة لأحكام التكفير المطلق والحكم على الأفعال، فلابد في تكفير المعين من توافر شروط وانتفاء موانع، وهو الواقع في مسألتنا هذه، إذ إن من موانع التكفير مانعَ التأول، وهو ما وقع من حاطب رضي الله عنه؛ فإنه إنما أقدم على صنيعه هذا متأولا أن الله ناصر نبيه صلى الله عليه وسلم ومظهر أمره، وأنه لا ضرر مما فعل وقال، فالتسوية بين حال حاطب وحال من يعلم أو يغلب على ظنه أنه سيُهلك المسلمين وسيحقق النصر للكافرين قياسٌ غير صحيح، يقول الحافظ ابن حجر: (وعذر حاطب ما ذكره، فإنه صنع ذلك متأولا ألاّ ضرر فيه) [فتح الباري 8/634].
ويقول أبو العباس القرطبي: (لكن حاطبًا لم ينافق في قلبه، ولا ارتد عن دينه، وإنما تأول فيما فعل من ذلك: أن إطلاع قريش على بعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخوف قريشًا، ويُحكى أنه كان في الكتاب تفخيم أمر جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم لا طاقة لهم به، يُخوفهم بذلك ليخرجوا عن مكة، ويفروا منها، وحَسَّنَ له هذا التأويلَ تعلقُ خاطره بأهله وولده، إذ هم قطعة من كبده، ولقد أبلغ من قال: قلَّما يفلحُ من كان له عيالٌ، لكن لطف الله به، ونجاه لما علم من صحة إيمانه، وصدقه، وغفر له بسابقة بدر، وسبقه) [المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 6/440].
ويقول ابن الجوزي: (قال القاضي أبو يعلى: في هذه القصة دلالة على أن الخوف على المال والولد لا يبيح التقية في إظهار الكفر، كما يبيح في الخوف على النفس، ويبين ذلك أن الله تعالى فرض الهجرة، ولم يعذرهم في التخلف لأجل أموالهم وأولادهم، وإنما ظن حاطب أن ذلك يجوز له ليدفع به عن ولده، كما يجوز له أن يدفع عن نفسه بمثل ذلك عند التقية، وإنما قال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق لأنه ظن أنه فعل ذلك عن غير تأويل) [زاد المسير 8/234].
ويقول ابن الجوزي أيضًا معلقًا على حديث حاطب رضي الله عنه: (فتقرب إلى القوم ليحفظوه في أهله بأن أطلعهم على بعض أسرار رسول الله صلى الله عليه وسلم في كيدهم وقصد قتالهم، وعلم أن ذلك لا يضر رسول الله لنصر الله عز وجل إياه، وهذا الذي فعله أمر يحتمل التأويل، ولذلك استعمل رسول الله حسن الظن، وقال في بعض الألفاظ: (إنه قد صدقكم)، وقد دل هذا الحديث على أن حكم المتأول في استباحة المحظور خلاف حكم المتعمد لاستحلاله من غير تأويل، ودل على أن من أتى محظورًا أو ادعى في ذلك ما يحتمل التأويل كان القول قوله في ذلك وإن كان غالب الظن بخلافه) [كشف المشكل 1/141].
4- لو اقتصر أولئك الفضلاء على الاستدلال بهذا الحديث على حكم الجاسوس المسلم، وأنه لا يكفر لدلالة النص على عدم التكفير لكان في البحث والمناقشة سعةٌ، وللخلاف مجالٌ، وللرأي وجهٌ جديرٌ بالتأمل والتحرير، ولكن محل الإشكال أنهم يريدون تعميم دلالة النص -بحسب ما فهموا- على كل صور المظاهرة ليجعلوا حكمهم في الجاسوس حكمًا لكل صورة من صور المظاهرة ولو كانت بالمقاتلة مع الكفار وحمل السلاح على المؤمنين وبذل النفس في قتال أهل الإسلام، وهو لا شك أعظم وأبلغ في المظاهرة من الجس، والعجيب حقًا أنهم يبالغون ويهولون في استدلالهم بهذا النص فيقولون: إن ما وقع فيه حاطب من إفشاء سر النبي صلى الله عليه وسلم هو أشنع ما يمكن أن يكون من مظاهرة، لكونها مظاهرة على النبي صلى الله عليه وسلم!! وهذا الكلام -مع شناعته- بعيدٌ عن التحقيق العلمي، وهو كلام خطير وله لوازم خطيرة.
وتوضيح ذلك أن القائلين بهذا متى ما سئلوا عن حكم من ظاهر الكفار على المسلمين بالمقاتلة معهم، فسيقولون: هو مسلم مرتكب لكبيرة من الكبائر ولا يكفر حتى يكون الباعث له على هذا الفعل محبة دين الكفار ورضاه بكفرهم، فإن سألناهم عن كيفية الاطلاع على هذا المناط المكفر، فسيقولون: بتصريحه، فإن لم يصرح فهو مسلم حتى يصرح، ومتى سئلوا عن دليلهم على هذا، فسيقولون: لأنه الأصل في مناقضة أصل الولاء والبراء، إذ إنه لا ينقض إلا بوقوع محبة دين الكفار في القلب، والمظاهرة بمجردها عمل لا يؤثر إلا في فرع الولاء والبراء وكماله، وهذا الأصل مؤكد بدلالة حديث حاطب رضي الله عنه؛ فإن المظاهرة قد وقعت منه ولم يُكفره النبي صلى الله عليه وسلم، فيقال: ما وقع من حاطب لم يكن مجرد مظاهرة لأهل الكفر على أهل الإيمان، بل كان مظاهرة للمشركين على النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، فسيقولون: هو كذلك، وهو دليل زائد، إذ ما وقع فيه حاطب أشنع ما يمكن أن يتصور من مظاهرة للمشركين لأنه متعلق بمقام النبي الأمين صلى الله عليه وسلم، فكل مظاهرة تقع من بعده فهي دون المظاهرة عليه قطعًا، فيقال: فيلزم أن من ظاهر على النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون بمظاهرته هذه كافرًا، فيلزمهم أن يقولوا: هو لازم لنا بل هو ما نقول، فيقال: فيلزم أن من قاتله صلى الله عليه وسلم مع الكفار رغبة في الدنيا مع إظهاره للإسلام لا يكون كافرًا.
لأن الجس عليه ومقاتلته كلها مظاهرة، والمظاهرة لا يكفر صاحبها -عندكم- إلا إن كانت لرغبة في دين الكفار ومحبة للكفر، فبالله عليكم لو أن رجلا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به وصدقه ونطق بالشهادتين والتزم أداء الفرائض لكنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني معك في دينك هذا مؤمن بك مصدق لما تقول، لكني رجل من قومي أقاتل من قاتلوا، وأحارب من حاربوا، فإن توجهوا تلقاءك وقاتلوك قاتلتك ومن معك! أيحكم له النبي صلى الله عليه وسلم بالإسلام؟ أم أنها الأخرى بيقين. فلو قُدر أن الرجل نفسه خرج فعلا للمقاتلة مع قومه، أكان ما أظهره من الإيمان مانعًا من تكفيره؟ أم هو كافر ولا بد.
ولو وقف هذا مقابل النبي صلى الله عليه وسلم مقاتلا له أيكون مع ذلك مسلمًا غير خارج من دائرة المسلمين!! وأجزم أن أولئك الفضلاء يحكمون بكفر من أراد النبي صلى الله عليه وسلم بسوء أو حاول قتله ولو كان لمحض دنيا لا لتكذيب به أو جحود لنبوته ودعوته، فما بالهم لا يكفرون من يظاهر عليه صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه ويقاتله صلى الله عليه وسلم، وما لهم يصححون إسلام من ييسر قتل النبي صلى الله عليه وسلم ويسهله ويدنيه صلى الله عليه وسلم من الموت خطوة بقتال من حوله من أصحابه وأعوانه، وما لهم يحكمون بإسلام من يباشر قتل حراسه ومن يصونه ويحميه، أرأيتم لو أن هذا (المسلم) -بزعمهم- المظاهر للكفار عليه صلى الله عليه وسلم قد وقف على النبي في ساح المعركة وبجواره صحابي يحوطه ويحميه فانحرف عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد أذاه وأهوى بسيفه على ذاك الصحابي فقتله، ثم تنحى عن المشهد ليأتي بعد ذلك مشركٌ ليكمل المهمة بقتل النبي صلى الله عليه وسلم أيكون بصنيعه السوء هذا مسلمًا! وهل هذا منه إلا تيسيرٌ لقتله صلى الله عليه وسلم وإعانةٌ عليه وخذلانٌ له، أم أن هذه ليست مظاهرة عليه!! فما المظاهرة إذن!!
فأين يُذهب بكم!! وكيف استجزتم أن تقولوا مثل هذا القول الشنيع: المظاهرة على النبي صلى الله عليه وسلم ليست بكفر!! ووسعتم الأمر حتى أدخلتم في ذلك مقاتلته!! فإن عدتم -وهو أولى بكم إن شاء الله- وقلتم: فحكم مقاتلة النبي صلى الله عليه وسلم ليست كحكم الجس عليه، فيقال: فدعوا الاستدلال بحديث حاطب في الحكم على من ظاهر الكفار على المسلمين بقتالٍ، واجعلوا المسألة في الجاسوس دون ما فوقها، وليكن ثمة اختلاف في حكم الجاسوس لا ضير، لكن الضير كله في جعل هذا الخلاف خلافًا في حكم المقاتلة، أو الحكم لهذا المقاتل بحكم الإسلام، أو جعل هذا الحكم من محالّ الإجماع، أو القول بأن التكفير في هذه الحال قول محدث وقول الغلاة، دع عنك القول بأن المظاهرة على النبي صلى الله عليه وسلم ليست كفرًا!! وإن كان عندك أدنى شك في حكم من حارب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه الكفر بلا ارتياب، فاقرأ نقل القاضي عياض الإجماع على حكم هذه المسألة.
يقول عليه رحمة الله في كتابه الشفاء (2/1069): (من أضافَ إلى نبينا صلى الله عليه وسلم تعمُّد الكذبِ فيما بلَّغه وأخبر به، أو شك في صدقهِ، أو سَبَّهُ، أو قال: إنه لم يبلِّغْ، أو استخفَّ به، أو بأحدٍ من الأنبياء، أو أزرى عليهم، أو آذاهم، أو قتلَ نبيًا، أو حاربه، فهو كافرٌ بإجماعٍ)، والمسألة لمن تأملها وتدبرها أظهر من أن يحتاج إلى أن يُستدل لها بدليل خاص أو يُنقل فيها إجماع، فإن حربه، ومقاتلته، و(المظاهرة عليه) صلى الله عليه وسلم، مضاد لأصل الإيمان والمتضمن تصديقه ومحبته والانقياد والتسليم والإذعان والتوقير والتعظيم الواجب له.
وإذا استحضرت أن الشافعي في النقل السابق إنما يتكلم عن حكم الجاسوس -كما تقدم- تبين لك أن ما فهمه هذا الفاضل وغيره بأن ما وقع من حاطب أشنع ما يُتصور من مظاهرةٍ غيرُ صحيح، وأن تحميل كلامه غير ما صرح به في حكم الجاسوس ظلمٌ، ذلك أن الشافعي يقول: (ولا أعلم أحدًا أتى في مثل هذا أعظم في الظاهر من هذا؛ لأن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مباين في عظمته لجميع الآدميين بعده، فإذا كان من خابر المشركين بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غرتهم، فصدقه على ما عاب عليه من ذلك، غيرَ مستعملٍ الأغلبَ مما يقع في النفوس، فيكون لذلك مقبولا، كان مَن بعدَه في أقل من حاله، وأولى أن يقبل منه مثل ما قبل منه)، فغاية الأمر حكم فيمن (خابر) لا فيمن (قاتل) فلا يصح أن يجعل ما وقع فيه حاطب أشنع صور المظاهرة على الإطلاق.
وبهذا تعلم أن ما نسبه هذا الفاضل وغيره إلى ابن جرير في بيان مدلول حديث حاطب غير صحيح حين قال: (ولهذا ذكر الإمام ابن جرير في فقه قصة حاطب رضي الله عنه وما حصل منه من مظاهرة المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن فيها الدلالة على أن من دل الكفار على عورات المسلمين ولم يتكرر منه، كالذي حصل من حاطب رضي الله عنه، فإنه لا يقتل، وإنما يقتل عنده من تكرر منه ذلك، دفعًا لشره.
وهذا لا يقال فيما يكون به الكفر، وإنما يكون فيما هو معصية)، فهل فقه ابن جريرٍ حقًا من حديث حاطب أن المظاهرة على النبي صلى الله عليه وسلم ليست كفرًا؟ أم أن هذا ما توهمه الناقل فأوهم أن ابن جرير يقوله؟ يقول ابن جرير رحمه الله: (إذا ظهر للإمام رجل من أهل الستر أنه قد كاتب عدوًا من المشركين، ينذرهم مما أسرّه المسلمون فيهم من عزم، ولم يكن معروفًا بالغش للإسلام وأهله، وكان ذلك من فعله هفوة وزلة، من غير أن يكون لها أخوات، يجوز العفو عنه، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحاطب، من عفوه على جرمه، بعدما اطلع عليه من فعله) [شرح ابن بطال لصحيح البخاري 5/162] فكلام ابن جرير في الجاسوس لا غير، بل تأمل في دقة عباراته وكلماته حين ذكر في كلامه عين ما وقع من حاطب رضي الله عنه من غير زيادة أو تجاوز، فقال: (إذا ظهر للإمام رجل من أهل الستر أنه قد كاتب عدوًا من المشركين، ينذرهم مما أسرّه المسلمون فيهم من عزم، ولم يكن معروفًا بالغش للإسلام وأهله، وكان ذلك من فعله هفوة وزلة، من غير أن يكون لها أخوات، يجوز العفو عنه).
فما تحدث في كلامه هذا في حكم جميع صور المظاهرة بل ما تكلم في جميع صور التجسس، دع عنك أنه رحمه الله ما تكلم في حكم المظاهرة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما قد يوهمه صنيع ذاك الفاضل، بل قال فاضل آخر مؤكدًا أن حكم الجاسوس هو حكم كل مظاهر: (وأما كلام أئمة الإسلام في الجاسوس المسلم فقد دل دلالة قاطعة على أن المظاهرة العملية وحدها عندهم ليست كفرًا، ودل عدم وجود مخالف معتبر لهم في ذلك أن التكفير بمجرد الإعانة الظاهرة قول محدث يخالف ما جرى عليه أئمة الإسلام كما هو حكمهم في الجاسوس المسلم!!!)، فتأمل كيف يُحمِّل أولئك كلامَ الأئمة جميعًا في حكم الجاسوس فوق ما يحتمل بإعطاء حكم المظاهرة الأعلى حكم الأدنى، وإبطال حكم الأصل بفرع، والقياس مع وجود الفارق، وضرب المحكم بالمتشابه.
ولتأكيد بطلان هذا المسلك في فهم كلام أهل العلم، وأنه ثمة فرقٌ بين قبح المقاتلة وقبح التجسس، أُذكّر بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورا} [النساء: 97-99]، حيث صح في سبب نزول هذه الآيات: (أن ناسًا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سوادَ المشركين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يأتي السهمُ فيرمى به فيصيب أحدَهم فيقتله أو يضرب فيقتل، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} الآية) [رواه البخاري 4596] كما أخبر به عبدالله بن عباس رضي الله عنه، وأورد بعض أهل التفسير مثل هذا عن عكرمة في قوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [النحل: 28-29]، ومعلوم أن صورة سبب النزول قطعية الدخول في عموم ما نصت عليه الآية، وأن حكم النص متناول لها على جهة القطع، فإذا كان الله قد توعد بجعل جهنم مأوى من خرج مع المشركين لمجرد تكثير سوادهم مع دعوى الاستضعاف، فكيف حال من باشر القتال معهم ضد أهل الإيمان باختياره من غير إكراه ولا استضعاف رغبة في تحصيل متاع دنيوي!!
فإن قيل -وقد قيل-: فالجاسوس أعظم جرمًا بتجسسه من المقاتل، والمضرة التي يُدخلها على أهل الإسلام أكبر وأعظم ممن حمل سلاحًا وقاتل بنفسه، فإذا كانت المظاهرة بالجس ليست كفرًا فما دونها -أعني المقاتلة- من باب أولى؟
فيقال: أما ضرر مقاتلة المؤمنين مع المشركين على إيمان العبد فأعظم من مجرد كلمة يلقيها للكفار، ففي المقاتلة من التغرير بالنفس وتقحم المهالك ما لا يقع ممن جس وخابر، والذي لا شك فيه أن المرء قد يضعف إيمانه إلى مستوى يستسهل معه أن يجس على المسلمين فيلقي كلمة أو يشير لهم بإشارة تنفعهم، لكن أي إيمان في القلب يبقى إذا ترك صفوف المسلمين وانحاز لصفوف أهل الكفر؟! وأين هذا من ذاك؟! ولك أن تتصور مسلمًا يطمع في دريهماتٍ لِخَبَرٍ يُدلي به، لكن كم من المال يمكن أن يكون دافعًا لإخراج هذا المسلم في جيش الكفار لحرب الإسلام والمسلمين؟ لا شك أنه سيكون أكثر وأوفر وأعظم، ذلك أن هذا إن لم يضن بدينه فسيضن بنفسه أن يعرضها لما يهلكها، فإن فعل وعرضها لذلك فإنما هو لطغيان حب الدنيا على فؤاده ونفسه، فصارت أحب إليه من دينه، وأي إيمان يبقى لرجل -وإن أبداه- وهو بفعله حرب لله ورسوله وعباده المؤمنين!! واعتبر في هذا بما جرى من حاطب رضي الله عنه وأرضاه من إفشاء سر النبي صلى الله عليه وسلم.
فإنك وإن تعقلت أنه مع فضله وإيمانه قد زل هذه الزلة، فإنك لا تتصور منه -مع ذلك- أن يُقدم على مقاتلة النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان ذلك لحفظ أهله وصيانتهم، وأن إيمانه مانع له من هذه المقاتلة وإن وقعت منه تلك الزلة والعثرة رضي الله عنه وأرضاه والتي غفرها الله له، فإذا فهمت هذا، وتعقلت حقيقة التلازم بين الظاهر والباطن، فإنك ولا بد قائل أن إيمان من قاتل مع الكفار -إن بقي له إيمان- دون إيمان من دلهم على عورةٍ للمسلمين، وهذا المعنى الذي جرى التنبيهُ عليه في قبح المقاتلة موازنة بقبح الجس نبه عليه أحد أولئك الفضلاء إذ قال في ضمن كلامه: (وكان جواب الإمام الشافعي بأن ما ذكر مما هو من مظاهرة المشركين، وما هو أبلغ منه في المظاهرة، وهو التقدم في نكاية المسلمين، بأن يقاتل المسلمين مع المشركين ليس من الكفر البين).
بل قال آخر بهذا المعنى مع كون مقصوده تعظيم خطورة التجسس والتنبيه على ما يدخله الجاسوس من الشر على أهل الإسلام حيث قال: (والتجسس مظاهرة وأي مظاهرة!! وإعانة للكفار لا يُشكك في كونه إعانة لهم إلا مكابر لا يستحي من المكابرة!! بل إن التجسس في العادة أشد نكاية بالمسلمين من أظهر أنواع المظاهرة والإعانة، فهو أشد ضررًا غالبًا من أن يقاتل الرجل بنفسه مع الكفار قتالا صريحًا ضد المسلمين)، فدعوا التهويل في مسألة الجاسوس محاولين تهوين حكم المقاتلة، والتزموا الفرق بين الصورتين، وإذا كنتم قد استدللتم بحديث حاطب في حكم الجاسوس وغيره، فاستدلوا بآية النساء في حكم المقاتل، واعتبروا كذلك بما يلزمكم من حديث حاطب متى ما استدللتم به في حكم المقاتلة، ولئن اختلف العلماء في حكم الجاسوس، فإني جازم أنهم لا يختلفون في حكم المقاتل، وإلا فابغوني تصريحًا يدل على خلافه، وهاتوا نقلا يصرح قائله أن من قاتل أهل الإسلام لإعلاء شأن الكفار رغبة في الدنيا لا يكفر وأنه لا يعطى حكم الكافرين.
وإياك والاغترار باستدلال بعضهم بحديث سهل –أو سهيل- بن بيضاء على عدم تكفير من قاتل المسلمين مع الكفار؛ إذ لا دلالة في الحديث البتة، ولفظ الحديث: أنه لما كان يوم بدر، وجيء بالأسارى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تقولون في هؤلاء الأسارى؟ فذكر في الحديث قصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ينفلتن أحد منهم إلا بفداء، أو ضرب عنق). فقال عبدالله بن مسعود: فقلت: يا رسول الله، إلا سهيل بن بيضاء، فإني سمعته يذكر الإسلام. قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع علي حجارة من السماء مني في ذلك اليوم، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إلا سهيل بن البيضاء). قال: ونزل القرآن بقول عمر: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ..} [الأنفال: 67] إلى آخر الآيات [رواه الإمام أحمد في المسند 3625، والترمذي في سننه 3084، ونبه غير واحد من أهل العلم على أن القصة إنما هي في سهل بن بيضاء لا سهيل وأن من نسبها إلى سهيل فقد أخطأ ووهم، فإن سهيلا رضي الله عنه تقدم إسلامه]، فالحديث:
1- مختلف في تصحيحه؛ لأنه من رواية أبي عبيدة عامر بن عبدالله بن مسعود عن أبيه وهو لم يسمع من أبيه، فمن أهل العلم من يقبل هذه الرواية لاختصاص عامر بحديث أبيه وعلمه به ما لم يأت بحديث منكر، ومنهم من لا يقبلها لعدم السماع.
2- ثم يقال إن سهلا كان مستخفيًا بإيمانه -كما أشار إليه هذا الفاضل المستدل بالحديث على عدم التكفير بالمظاهرة-، وهو لم يخرج بطواعية منه واختيار كما يوهمه صنيع هذا المستدل، وإنما خرج مكرهًا، والبحث ليس فيمن خرج للقتال مكرهًا، إنما البحث فيمن خرج باختياره وقَصْدِهِ طمعًا في دنيا من غير تأويل سائغ أيصح أن يكون مسلمًا؟! وهذه ما لا يمكن أن يقام عليها الدليل! يقول ابن سعد رحمه الله موضحًا حقيقة حال سهل رضي الله عنه وما وقع منه: (أسلم بمكة، وكتم إسلامه، فأخرجته قريش معها في نفير بدر، فشهد بدرًا مع المشركين، فأسر يومئذ، فشهد له عبدالله بن مسعود أنه رآه يصلي بمكة فخلي عنه) [طبقات ابن سعد 4/213]، فهذا ما وقع من سهل رضي الله عنه، فهل يصح أن يُظن فيه أنه إنما خرج مع أهل مكة لعرض من الدنيا؟! وهل يصح أن يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما خلى سبيله لثبوت دعوى إسلام سابق؟! وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين بصنيعه هذا أن من خرج مقاتلا له من المسلمين لا يكون بمجرد قتاله كافرًا؟! لتصحح بعد ذلك تلك الدعوى -مقاتلة أهل الإسلام مع أهل الكفر لا تكون كفرًا ما لم يكن ذلك القتال عن محبة لدين الكفار وتمن لنصرته؟!
واستحضر هنا ما رُوي في شأن العباس بن عبدالمطلب حين أسر ببدر فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني كنت مسلمًا قبل ذلك، وإنما استكرهوني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (الله أعلم بشأنك؛ إن يك ما تدعي حقًّا، فالله يجزيك بذلك، وأما ظاهر أمرك فقد كان علينا فافدِ نفسك) [رواه الإمام أحمد في المسند 3300 بسند فيه راو مبهم وبقية رجال ثقات، وله أسانيد أخر لا تخلو من مقال] فالحكم في مثل هذه الحال مع دعوى الإكراه وعدم البينة إنما هو للظاهر، والله يتولى السرائر.
وفي ضوء هذه المعاني ينبغي أن يفهم كلام أهل العلم فيمن ادعى إسلامًا ممن يأسره المسلمون من جيش الكفار، فلا يصح أن يقال إنهم بصنيعهم هذا لا يقولون بكفر من خرج مقاتلا لأهل الإسلام طوعًا باختياره لعرض من الدنيا قليل، بل مقصودهم بكلامهم هذا الحكم في مثل هذه الصورة الواقعة في حديث سهل والتي هي محل الاستدلال، وإلا فهل يصح أن يطلق القول بأن مجرد ثبوت إسلام من قاتل أهل الإسلام مع الكفار يستوجب إخلاء سبيله وعصمة دمه وماله ولو كان مباشرًا للقتال حقيقة برغبة منه واختيار لتحصيل شيء من الدنيا!!
أم أن إخلاء سبيله وعصمة دمه وماله إنما هو لقيام معنى آخر في هذا الأسير استوجب مثل هذه الأحكام؛ كصحة دعوى الإكراه مع ثبوت الإسلام! يؤكد هذا أن هذا المقاتل لأهل الإسلام باختياره وطوعه أسوأ حالا ممن قطع سبيل الناس وأفسد عليهم أموالهم بالنهب والسلب، ومعلوم أن الشريعة أباحت دم هذا القاطع للطريق وجعلت لمثله حدًّا هو حد الحرابة فيباح قتله وصلبه وقطع يده ورجله من خلاف ونفيه من الأرض على تفاصيل يعرفها الناظر في كتب الفقهاء، فكيف يقال فيمن قاتل أهل الإسلام وادعى إسلامًا أنه يخلى سبيله بمجرد تصحيح هذه الدعوى وثبوتها.
3- ثم يقال للمستدل بحديث سهل هذا على عدم تكفير من التحق بجيش الكفار مقاتلا أهلَ الإسلام: ألست تُسلم بأن هذه المقاتلة -وفق مذهبك- فعلٌ يحتمل أن يكون كفرًا، وأن الشأن فيه -عندك-كالشأن في حديث حاطب رضي الله عنه، وأن ما كان كذلك فالواجب فيه -عندك- استفصال من تلبس بهذا الفعل لمعرفة الباعث على الفعل، فلِمَ أعرض النبي صلى الله عليه وسلم عن الاستفصال الواجب؟ وما باله صلى الله عليه وسلم استفصل في مقامٍ الشبهةُ فيه أضعف -لكون الفعل تجسسًا ولكونه صادرًا من بدري- وترك الاستفصال في مقام قوة الشبهة؟
4- ثم كيف يستقيم هذا الاستدلال بحديث سهل هذا على عدم تكفير من حاربه، مع الإجماع الواقع على أنها كفر، كما سبق ذكره عن القاضي عياض عليه رحمة الله.
فظهر أن لا دلالة في الحديث على ما أرادوه، وتَنَبَّهْ أن القوم يُصرون على تأكيد ذلك المعنى الشنيع من الحكم بإسلام من قاتل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه!! فيستدلون له بحديث حاطب كما تقدم أخذًا من حكم الجاسوس وتوسيعًا لدلالته ليشمل كل مظاهر، ولو كانت المظاهرة عليه صلى الله عليه وسلم! بل ويستدلون هنا لخصوص حكم المقاتلة بل مقاتلته صلى الله عليه وسلم!! مع ما لقولهم هذا من لوازم شنيعة لا ينفكون عنها.
وكذلك لا ينبغي الاغترار باستدلالهم في مسألتنا هذه بحديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال: كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل، فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني عقيل، وأصابوا معه العضباء. فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الوثاق. قال: يا محمد! فأتاه، فقال: (ما شأنك؟) فقال: بم أخذتني؟ وبم أخذت سابقة الحاج؟ فقال -إعظامًا لذلك-: (أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف)، ثم انصرف عنه فناداه، فقال: يا محمد! يا محمد! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيمًا رقيقًا، فرجع إليه فقال: (ما شأنك؟) قال: إني مسلم، قال: (لو قلتها وأنت تملك أمرك، أفلحت كل الفلاح)، ثم انصرف.
فناداه. فقال: يا محمد! يا محمد! فأتاه فقال: (ما شأنك؟)، قال: إني جائع فأطعمني، وظمآن فاسقني. قال: (هذه حاجتك) ففُدِي بالرجلين. [رواه الإمام مسلم 1641]، فهذا النص كما ترى ليس فيه ذكر شيء من أمر المقاتلة، بل غاية ما فيه أن هذا الرجل أُسر لكونه كافرًا في دار حرب، فلو قُدر أنه كان مسلمًا قبل أسره لم يجز أسره لمجرد كونه بدار الحرب وهذا بين، فلا صلة للحديث بمسألتنا ولا له علاقة في حكم المظاهر. ولنا أن نتساءل بعد هذا كله: إذا كان الخروج مع الكفار لقتال أهل الإسلام ليس كفرًا بذاته بل هو ذنب ومعصية لا تبلغ بصاحبها حد الكفر، فما بال النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرص على معرفة من خرج مع الكفار من المسلمين، خصوصًا من قتل منهم في أرض المعركة ليقوم بواجب تغسيلهم وتكفينهم والصلاة عليهم، ولا يخفى أن بعضًا ممن استخفى بإسلامه وقع منه ذلك الخروج المذموم كما تقدم، وقد ذكر أهل السير والتواريخ بعضًا من أسمائهم، وإذا كان ابن مسعود قد عرف واحدًا من أولئك بعد الأسر -كما يراه ذلك الفاضل- فما الذي يمنع أن يُعرف غيره بعد القتل، ولم لم يفتش النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر ويأمر المؤمنين: من عرف مسلمًا بين أولئك القتلى فليخبر به فإن له حقًا.
(بعض أقوال أهل العلم في حكم مقاتلة المسلم مع الكفار ضد أهل الإسلام)
ولا أخلي هذا المقام من ذكر شيء من كلام أهل العلم في حكم مقاتلة المسلم مع الكفار ضد أهل الإسلام على الخصوص، ممثلا ببعضه، ومستغنيًا ببعضه عن بعض، فليس القصد استيعاب كلامهم وإنما التمثيل فقط، منبهًا على عدم ذكري لشيء من النقول في حكم مظاهرة المشركين على المؤمنين، وذلك أنها كثير وفيرة، والوقوف عليها ميسور مذلل لمن له أدنى عناية ببحث هذه المسألة:
- جاء في الفروع (10/185):
(ونقل عنه الميموني -أي عن الإمام أحمد- أمر هذا الكافر بابك لعنه الله ليس كغيره، سبي النساء المؤمنات فوقعوا عليهن فحملن، فالولد تبع لأمه كذا حكم الإسلام، ثم خرج إلينا يحاربنا وهو مقيم في دار الشرك، أي شيء حكمه؟ إذا كان هكذا فحكمه حكم الارتداد).
- يقول الإمام ابن حزم رحمه الله:
(فصح بهذا أن من لحق بدار الكفر والحرب مختارًا محاربًا لمن يليه من المسلمين, فهو بهذا الفعل مرتد له أحكام المرتد كلها: من وجوب القتل عليه متى قدر عليه, ومن إباحة ماله, وانفساخ نكاحه, وغير ذلك؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبرأ من مسلم) [المحلى 12/126].
- يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
(فهذا وغيره مما يبين أن هذه العصابة التي بالشام ومصر في هذا الوقت هم كتيبة الإسلام، وعزهم عز الإسلام، وذلهم ذل الإسلام، فلو استولى عليهم التتار لم يبق للإسلام عز ولا كلمة عالية ولا طائفة ظاهرة عالية يخافها أهلُ الأرض تقاتل عنه، فمن قفز عنهم إلى التتار كان أحق بالقتال من كثير من التتار؛ فإن التتار فيهم المكره وغير المكره، وقد استقرت السنة بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلي) [الفتاوى 28/ 534].
- ويقول رحمه الله:
(كل من قفز إليهم -يعني التتار- من أمراء العسكر وغير الأمراء فحكمه حكمهم، وفيهم من الردة عن شرائع الإسلام بقدر ما ارتد عنه من شرائع الإسلام، وإذا كان السلف قد سموا مانعي الزكاة مرتدين -مع كونهم يصومون ويصلون ولم يكونوا يقاتلون جماعة المسلمين- فكيف بمن صار مع أعداء الله ورسوله قاتلا للمسلمين؟ مع أنه والعياذ بالله لو استولى هؤلاء المحاربون لله ورسوله المحادون لله ورسوله المعادون لله ورسوله على أرض الشام ومصر في مثل هذا الوقت لأفضى ذلك إلى زوال دين الإسلام ودروس شرائعه) [الفتاوى 28/530].
- ويقول رحمه الله:
(من جمز إلى معسكر التتر ولحق بهم، ارتد، وحل دمه وماله) [الدرر السنية 9/209، نقله عنه الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ محيلا له على اختيارات الشيخ].
- ويقول الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله:
(واعلموا أن الأدلة على تكفير المسلم الصالح: إذا أشرك بالله، أو صار مع المشركين على الموحدين -ولو لم يشرك- أكثر من أن تحصر، من كلام الله، وكلام رسوله، وكلام أهل العلم كلهم) [الدرر السنية 10 / 8].
- ويقول الشيخمحمد بن عبداللطيف آل الشيخ رحمه الله:
(وقال صلى الله عليه وسلم: (من جامع المشرك أو سكن معه فإنه مثله)؛ فلا يقال: إنه بمجرد المجامعة والمساكنة يكون كافرًا، بل المراد أن من عجز عن الخروج من بين ظهراني المشركين وأخرجوه معهم كرهًا فحكمه حكمهم في القتل وأخذ المال، لا في الكفر، وأما إن خرج معهم لقتال المسلمين طوعًا واختيارًا، أو أعانهم ببدنه وماله، فلا شك أن حكمه حكمهم في الكفر) [الدرر السنية 8/ 456].
- سئل أحمد بن زكري الفقيه الأصولي البياني عليه رحمة الله [ت:899هـ] عن قبائل من العرب امتزجت أمورهم مع النصارى وصارت بينهم محبة، حتى إن المسلمين إذا أرادوا الغزو أخبر هؤلاء القبائل النصارى، فلا يجدهم المسلمون إلا متحذرين متهيبين، والفرض أن المسلمين لا يتوصلون إلى الجهاد إلا من بلاد هؤلاء القبائل وربما قاتلوا المسلمين مع النصارى، ما حكم الله في دمائهم وأموالهم؟ وهل ينفون عن البلاد؟ وكيف إن أبوا النفي إلا بالقتال؟
فأجاب رحمه الله بقوله:
(ما وصف به القوم المذكورون يوجب قتالهم كالكفار الذين يتولونهم، ومن يتول الكفار فهو منهم؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، وأما: إن لم يميلوا إلى الكفار، ولا تعصبوا بهم، ولا كانوا يخبرونهم بأمور المسلمين، ولا أظهروا شيئًا من ذلك، وإنما وجد منهم الامتناع من النفير فإنهم يقاتلون قتال الباغية). [أجوبة التسولي على مسائل الأمير عبدالقادر الجزائري 210].
- وسئلت لجنة الفتوى في الأزهر عن مساعدة اليهود وإعانتهم في تحقيق مآربهم في فلسطين، فأجابت اللجنة برئاسة الشيخ عبدالمجيد سليم في 14 شعبان 1366 إجابة طويلة، ومما قالوا:
(فالرجل الذي يحسب نفسه من جماعة المسلمين إذا أعان أعداءهم في شيء من هذه الآثام المنكرة وساعد عليها مباشرة أو بواسطة لا يعد من أهل الإيمان، ولا ينتظم في سلكهم، بل هو بصنيعه حرب عليهم، منخلع من دينهم، وهو بفعله الآثم أشد عداوة من المتظاهرين بالعداوة للإسلام والمسلمين).
إلى أن قالوا:
(ولا يشك مسلم أيضًا أن من يفعل شيئًا من ذلك فليس من الله ولا رسوله ولا المسلمين في شيء، والإسلام والمسلمون براء منه، وهو بفعله قد دل على أن قلبه لم يمسه شيء من الإيمان ولا محبة الأوطان، والذي يستبيح شيئًا من هذا بعد أن استبان له حكم الله فيه يكون مرتدًا عن دين الإسلام، فيفرق بينه وبين زوجه، ويحرم عليها الاتصال به، ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، وعلى المسلمين أن يقاطعوه، فلا يسلموا عليه، ولا يعودوه إذا مرض، ولا يشيعوا جنازته إذا مات حتى يفيء إلى أمر الله، ويتوب توبة يظهر أثرها في نفسه وأحواله وأقواله وأفعاله). [فتاوى خطيرة في وجوب الجهاد الديني المقدس 17].
- وسئل بعض علماء مصر عام 1376 عن حكم من يعين دولة أجنبية ضد دولة مسلمة، فأفتى المسئولون بأنه مرتد، وممن أجاب عن هذا الاستفتاء: محمد أبو زهرة، وعبدالعزيز عامر، ومصطفى زيد، ومحمد البنا. [مجلة لواء الإسلام - العدد العاشر – السنة العاشرة – جمادى الآخر 1376 – ص 619].
فهذا شيء يسير من كلام أهل العلم في حكم من قاتل أهل الإيمان مع المشركين، وكلامهم كثير وافر، وكلامهم فيمن ظاهر المشركين على المؤمنين أكثر وأوفر، ويمكن الوقوف عليه في مظانه لمن كان يريده، وظني أن حكم الجاسوس مما يحتاج إلى تأمل ومدارسة وتحرير، ولست في مقام تحرير المسألة الآن ولست قاصدًا لذلك، إنما المقصود تأكيد أنه مع تقدير عدم تكفير الجاسوس وأن ثمة خلافًا معتبرًا فيه للاختلاف في فهم حديث حاطب، ولما يحتف بالجس من اشتباه واحتمال، فإنه لا يصح أن ينسحب هذا الحكم على كل صور المظاهرة فتُعطى أعلى وأجلى وأوضح صورها -أعني المقاتلة- حكم التجسس، ويُنقض حكم المحكم بالمتشابه، وأن القياس متى ما وقع كان قياسًا مع الفارق، والله أعلم.
(الولاء والبراء أصل وفرع، وكيف يُنقضان)
أختم هذه الورقة بالتنبيه على شبهة ذكرها بعضهم تدل على أصل المشكلة عندهم في تصور المسألة، ومكمن الداء، ومحل الخلل، وهي والجواب عنها مما يلم شعث ما تقدم جميعًا، ويكون كالمختصر لما ذكر جميعًا، إذ قالوا بأن الولاء والبراء أصل وفرع وأن ما يبطل الثاني لا يلزم ضرورة أن يبطل الأول، وأن ثمة فرقًا معتبرًا بين ما يناقض أصل الولاء والبراء وما يناقض كماله، وأن الولاء والبراء كالإيمان فحكم الولاء والبراء المطلق مختلف عن حكم مطلق الولاء والبراء، فالكفر إنما يكون بخلو النفس من مطلق الولاء والبراء، لا بخلوها من الولاء والبراء المطلق، وهو لا يكون إلا في حال محبة الكفر وتمني انتصاره.
فيقال: لا مشاحة في جعل الولاء والبراء أصلا وفرعًا، ولا مؤاخذة في التفريق في هذا الباب بين ما ينافي أصل الولاء والبراء وما ينافي كماله، وأن الأمر كما ذُكر من أنه لا يلزم من مطلق معاداة المؤمن للمؤمن انتفاء أصل الموالاة بينهما، كما لا يلزم من مطلق موالاة المؤمن للكافر انتفاء أصل البراءة منه، لكن محل المؤاخذة حصر الصورة المنافية لأصل الولاء والبراء في هذه الحالة دون ما سواها، حالة كون عداوة المؤمن للمؤمن لأجل إيمانه، أو محبة المؤمن للكافر لأجل كفره، ثم تُحمل دلالة النصوص الشرعية الدالة على التكفير بتولي الكافرين على هذه الصورة لا غير، وإني لأعجب كيف يستقيم أن تحمل هذه النصوص الشرعية -وهي كثيرة جدًا- على هذا المعنى البدهي من دين الإسلام.
ولم كان ذلكم التحذير الشديد، وإبداء المسألة وإعادتها، وتكثير الأدلة وتنويعها؟! ألمجرد أن يخبرنا الله تبارك وتعالى أن محبة دين الكفار وبغض دين الإسلام كفر؟! وأن من أحب الكفر وأبغض الإسلام كافر؟! إن حمل نصوص الولاء والبراء على مثل هذا المعنى فقط وحصر دلالتها فيه نزول بمدلولها والمقصود منها، بل وتفريغ لمحتواها ومضمونها، إذ هذا الاعتقاد وهذا الصنيع كفر واضح لا ينازع فيه مسلم، ثم هو كفر مستقل قائم بذاته سواء وقع المحذور من موالاة أو معاداة محرمة في الخارج أم لم يقع، ولذا فإن حصر دلالة قول الله تعالى مثلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51] على هذا المعنى المتقدم يفسد معناها، ويفرغ محتواها، ويحيلها مجرد آية جاءت ببدهية من بدهيات الشريعة لا تحتاج إلى هذا التأكيد، دون أن تكون الآية مؤسسة لمعنى جديد يحتاجه المسلم ويقع فيه اللبس والإشكال.
وهل يستقيم حقيقةً -وعلى الإنصاف- أن يُقتصر في تفسير هذه الآية الكريمة فيقال: إن الله تبارك وتعالى قد أمر المؤمنين بأن لا يتخذوا اليهود والنصارى أولياء (فيتولونهم على دينهم ويحبون كفرهم)، ذلك أن بعضهم أولياء (في الدين لـ)بعض ومن يتولهم (في دينهم الفاسد فيحب كفرهم ويتمنى انتصاره) منكم فإنه منهم (في كفرهم) إن الله لا يهدي القوم الظالمين!! ومن تأمل في الآية التي تلي هذه الآية الكريمة وسياق الآيات علم أن التولي المذموم المذكور فيها واقع من أقوام كان غرضهم من تولي الكافرين تحقيق مصلحة دنيوية، لا أنهم كانوا محبين لكفر أولئك الكافرين وراغبين فيه، يقول الله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة: 52]، فالتولي لهم والمسارعة فيهم بالنصرة والتأييد إنما وقع دفعًا لتلك الدائرة المرتقبة التي كانوا يخافونها، لا أنه كان توليًا على الدين ومحبة للكفر، ثم تأمل مثالا ثانيًا وذلك في تعليق أحد الفضلاء على هذا النص الإلهي الفخم، وكيف فرَّغه –بتعليقه- من معناه الجليل المهيب، بحمله على هذا المناط المكفر عنده، يقول الله تبارك وتعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22]، قال ذلك الفاضل: (ولهذا التلازم بين أصل (الإيمان) و(الولاء والبراء)، جاء في كتاب الله تعالى خبر بنفي وجود مؤمن يحب الكافرين لكفرهم، فهذا لا يُمكن أن يكون موجودًا أصلا، لأنه لا يجتمع حب النقيضين في قلب واحد).
وقال: (نعم .. إن (الولاء والبراء) ليس أمرًا تكليفيًا منفصلا عن الأمر بأصل الإيمان؛ لأن الأمر بالدخول في الإسلام يقتضي حدوث معتقد (الولاء والبراء) في قلب المسلم من ساعة دخوله في الاسلام .