الطريق إلى بصيرة إيمانية
أتحدث ههنا عن رؤية ثاقبة يرى بها المؤمن أحوال الدنيا وحوادثها , ويستبصر بها حقائق الأمور , فيكرمه الله ويريه الحق حقا والباطل باطلا , ويقومه على صراطه المستقيم و فترى الناس حائرين بينما هو ثابت لا يلتفت ولا يلوي على شىء بينما هو سائر في الطريق الصائب المستقيم نحو إرضاء مولاه سبحانه والفوز بجنته .
تلك الرؤية الثاقبة هي البصيرة الإيمانية التي يكرم الله سبحانه بها أهل الإيمان به المخلصين له , فهي نور في القلب يقذفه الله للمؤمنين المخلصين له _سبحانه_، المتجردين عن التشبث بمتاع الدنيا الزائل...
كيف تعمل البصيرة في قلب المؤمن؟
إن عمل البصيرة الإيمانية في قلب المؤمن كعمل كشاف ضوء منير في وسط ظلمة حالكة، فهي التي تكشف الأشياء على حقيقتها فيراها المؤمن كما هي، ولا يراها كما زينت في الدنيا ولا كما زينها الشيطان للغاوين ولا كما زينها هوى النفس في الأنفس الضعيفة.. - يقول الله _سبحانه_: " أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله.." (الزمر: 22) - ويقول _سبحانه_: " أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها.." ( الأنعام: 122 ).
يقول الإمام ابن القيم: " أصل كل خير للعبد – بل لكل حي ناطق – كمال حياته ونوره، فالحياة والنور مادة كل خير.. فبالحياة تكون قوته وسمعه وبصره وحياؤه وعفته.. كذلك إذا قوي نوره وإشراقه انكشفت له صور المعلومات وحقائقها على ما هي عليه فاستبان حسن الحسن بنوره وآثره بحياته وكذلك قبح القبيح " (إغاثة اللهفان 1/24).
فما يكاد نور القرآن ونور الإيمان يجتمعان حتى لكأن النور الهادئ الوضيء يفيض فيغمر حياة المرء كلها ويفيض على المشاعر والجوارح، وينسكب في الحنايا والجوانح، تعانق النور، وتشرفه العيون والبصائر، فيشف القلب الطيب الرقراق، ويتجرد من كثافته ويتحرر من قيد العبودية غير عبودية الله الكبير المتعال، فإذا القلب المؤمن المبصر غاية في القوة والثبات وغاية في الطاعة والإخبات وغاية في التضحية والبذل بكل المتاع الزائل..
كيف تتكون البصيرة الإيمانية؟
البصيرة الإيمانية فضل ونعمة ينعم بها الله _سبحانه_ على عباده الطيبين، وتتكون جوانبها وأطرها من آثار خمسة أساسية:
الأثر الأول: هو أثر كلمة التوحيد " لا إله إلا الله " وأثر العلم بها نفيا وإثباتا وتطبيق شروطها بالحقيقة والإخلاص لها والإقبال عليها وحبها فمن قام بذلك فقد خرج من ظلمة الغفلة إلى نور التوحيد، ودليل ذلك وعلامته طاعة التشريع في أمره ونبذ الشرك والمبتدعات بجميع الأشكال
الأثر الثاني: هو أثر ترك الذنب والندم عليه وكرهه والعهد على عدم العودة إليه ودليل ذلك المسارعة إلى توبة نصوح متجددة دائما..
الأثر الثالث: هو أثر تحقيق عبودية القلب والجوارح، فينظر المرء إلى كل جارحة من جوارحه ويقيمها على استقامة العبودية لله وحده.
الأثر الرابع: هو أثر العلم بالشريعة العظيمة وبالقرآن وسنة النبي _صلى الله عليه وسلم_ والفقه فيهما.
الأثر الخامس: هو أثر التضحية بالطاقة والمجهود والمال والمحبوب لأجل نشر الفضيلة وعلو راية الحق والعدل والديانة. وباختلاف قوة تلك الآثار الخمسة في قلب المؤمن تختلف قوة بصيرته ومن ثم تختلف رؤيته للحقائق ومعرفته للحق والباطل.
قال ابن القيم – رحمه الله – " قال الله _تعالى_: " إن في ذلك لآيات للمتوسمين " قال مجاهد يعني للمتفرسين وفي الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قول النبي _صلى الله عليه وسلم_: " اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله "، والتوسم التفرس ولهذا خص الله بالآيات والانتفاع بها هؤلاء...وبعث الله الرسل مذكرين ومنبهين ومكملين لما عند الناس من استعداد لقبول الحق بنور الوحي والإيمان فيضاف إلى ذلك نور الفراسة فيصير نوراً على نور فتقوى البصيرة " ( مدارج السالكين 1/110 )
البصيرة وإيجابية السلوك:
لقد كان من دعاء النبي _صلى الله عليه وسلم_ " اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه " ويعنى هذا الدعاء طلب البصيرة بذاك المعنى الذي نذكره هنا، وسؤال الله _تعالى_ أن يمن على صاحب تلك البصيرة تطبيق ما يراه صواباً وحقاً والسعي إليه كما يعنى سؤال اجتناب ما يراه باطلاً ومجاوزته أو البعد عنه.
والحياة يكتنفها في كل موقف من المواقف الإنسانية ظلال كثيفة من غيوم تمنع الرؤية الحقيقية لما ينبغي أن يكون عليه المرء من الإنجاز أو التأثير أو حتى التطبيق الصائب لما تعلمه.. فترى المرء وقد اختلطت عنده المقاييس واهتزت عنده الثوابت لأجل حطام زائل أو لأجل أمل براق لا يلبث أن يفاجئه بالرحيل أو الزوال..
فكم نرى من عالم قد رضي بالدون من الفعال وبالجبن بدلا من الشجاعة وبقول الزور بدلاً من قول الحقيقة وبممالأة الملوك والسلاطين بدلاً من الصدع بالحق في كل موقف لأجل بريق يرتجيه أو خوف يفزعه.. وما ذاك إلا لانعدام البصيرة أو ضعفها..
وكم رأينا من داعية قد كبر عمره واقترب من لقاء ربه وهو رغم ذلك مكبل بقيود الأرض الزائلة، وكم رأينا من مسلم قد أثقلته عبودية الأشياء فلم يعد يرى غير الصور من دون الذوات..
ومن أشهر النواقص والشينات التي ابتلى بها كثير من الدعاة إلى الله قصر نظرهم في الإصلاح على أنفسهم، أو على ما يظنونه من دعوة الناس إلى الأمور الخاصة بذوات الأفراد بحسب، غافلين عما يهم الأمة بأجمعها وعما يحصل به التغيير الكامل للأمم ورقي الشعوب الإسلامية جمعاء..
فالبصيرة عند الدعاة إلى الله تجعلهم لا يرون لأعمالهم قيمة بغير السعي إلى إصلاح الأمم وتعميم الأرض كلها بالخير والفضيلة والعدل والإيمان مهما كلفهم ذلك من إنكار ذواتهم أو بذل كل ما يملكون حتى ذات أنفسهم...
ومن نظر للحياة بمنظار البصيرة الإيمانية السليمة رأى أنه لا قيمة حقيقية إلا للعبودية التامة لله _سبحانه_، قال ابن تيمية – رحمه الله–: " من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية "..
ومن هنا كانت الحياة بأجمعها لا قيمة لها بغير الإنجاز الحقيقي على مستوى التأثير للتغيير إلى الخير والعدل والفضيلة التي يدعو إليها هذا الدين القويم.. فلا قيمة لساعة لهو أو لغو، ولا فائدة للحظات الغفلة، إنما يقود الركب أصحاب البصائر الإيمانية النافذة أولئك أكثر الناس أثراً في الناس وأولئك الذين سيذكرهم التاريخ مهما نكرهم الناس...