الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد..
نعم أخي المسلم... انتبه أنت في مكة...
احذر.. أنت في بلد الله الحرام..
تيقظ.. أنت بجوار الكعبة المشرفة.. في البلد التي خاطبها رسول الله
خطاب الحبيب لحبيبه قائلاً:
{ ما أطيبك من بلد وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك } [رواه الترمذي وصححه الألباني].
انظر بعينك بهجة الحسناء ** ما بعد هذا منظر للرائي
فهي التي سلبت فؤادها محبها ** بجمال بهجتها ونور بهاءِ
جعل المهين كل عام حجها ** فرضا وهذا صح في الأنباءِ
بشراك يا عيني انظري وتدللي *** وتلذذي منها بطيب لقاءِ
شنف بذرك مطافها ومقامها *** أذني فهذا اليوم يوم هناء
قال الله تعالى:
وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ۚ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الحج:25].
قال ابن كثير: ( قال بعض أهل العربية: الباء ها هنا زائدة كقوله:
تَنبُتُ بِالدُّهْنِ [سورة المؤمنون:20]، أي تنبت الدهن. وكذا قوله:
وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ ، تقديره: إلحاداً.
والأجود: أنه ضمن الفعل ها هنا معنى ( يهم ) ولهذا عداه بالباء فقال:
وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ [سورة الحج:25]؛ أي يهم فيه بأمر فظيع من المعاصي الكبار. وقوله:
بِظُلْمٍ أي عامداً قاصداً أنه ظلم ليس بمتأول.
وعن ابن عباس:
بِظُلْمٍ ، أي: بِشرك.
وقال مجاهد: ( أن يعبد فيه غير الله )، وكذا قال قتادة وغير واحد.
وقال العوفي عن ابن عباس: (
بِظُلْمٍ ، هو أن تستحل من الحرم ما حرم الله عليك من إساءة أو قتل فتظلم من لا يظلمك، وتقتل من لا يقتلك، فإذا فعل ذلك فقد وجب عليه العذاب الأليم ).
قال مجاهد:
بِظُلْمٍ يعمل فيه عملا سيئاً وهذا من خصوصية الحرم؛ أنه يعاقب البدي فيه بالشر، إذا كان عازماً عليه وإن لم يوقعه.
وعن ابن مسعود
قال: ( لولا أن رجلاً أراد فيه بإلحاد بظلم، وهو بعَدَن أبين، لأذاقه الله من العذاب الأليم ).
وعن مجاهد قال: ( إلحاد فيه: لا والله، بلى والله!! ).
وقال سعيد بن جبير: ( شتم الخادم ظلم فما فوقه! ) [تفسير ابن كثير:3/286].
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ( ما من بلد يؤاخذ العبد بالهمة قبل العمل إلا مكة، وتلا هذه الآية ).
وكان بعض العلماء يرى أن السيئات تتضاعف في مكة كما تتضاعف الحسنات.
ومن هنا فإن ابن عباس
اختار المقام بالطائف على المقام بمكة تعظيماً لحرمتها، وقال: ( لئن أذنبت بخمسين ذنباً بركنه - موضع قريب من الطائف - أحب إلي من أن أذنب ذنباً واحداً بمكة! ).
وكان
إذا أراد أن يؤدب خادمه وهو في مكة خرج به إلى الحل وأدبه!!
هؤلاء هم أهل الخشية والاستقامة والزهد والورع والتقوى والإحسان يخشون ارتكاب المحظورات والذنوب والخطايا بمكة وإن صغرت، معرفة منهم بحرمة هذا البلد، وتعظيماً لشأنه، الذي هو تعظيم لله عز وجل.
قال النبي
:
{ إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة؛ لا يعضد شوكه }، وفي رواية:
{ لا تعضد بها شجرة }، أي لا تقطع،
{ ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلي خلاها } [رواه البخاري] أي لا يؤخذ كلؤها ويقطع.
وقال النووي: ( هذه الأحاديث ظاهرة في تحريم القتال بمكة، واتفقوا على تحريم قطع أشجارها التي لا يستنبتها الآدميون في العادة، وعلى تحريم قطع خلاها ) [شرح صحيح مسلم:9/129].
ودلت الأحاديث على تحريم صيدها أو تنفيره وإزعاجه من مكانه، وعلى تحريم لقطتها فلا يتملكها ملتقطها أبداً، بل إذا أخذها فعليه أن يعرفها أبداً.
أخي الحبيب:
اعلم أن معصية الله تعالى فاحشة حيث وجدت، أما في بلد الله تعالى وفي فناء بيته ومحل اختصاصه، فإنها أقبح وأفحش، فإن المعصية تتضاعف عقوبتها بالعلم؛ إذ ليس عقاب من يعلم كعقاب من لا يعلم كما تتضاعف عقوبة المعصية بسبب شرف المكان وعظم حرمته كمكة والمدينة، وكذلك بسبب شرف الزمان كالقتال في الأشهر الحرم.
قال أبو علي الدقاق: ( ترك الأدب يوجب الطرد، فمن أساء الأدب على البِساط رُدَّ إلى الباب، ومن أساء الأدب على الباب، رُدَّ إلى سياسةِ الدواب ).
قصة وعبرة:
قال عمر بن شبه: كنت بمكة بين الصفا والمروة، فرأيت رجلاً راكباً على بغلة، وبين يديه غلمان يطوفون ويعنفون الناس. قال: ثم بعد حين دخلت بغداد فكنت على الجسر فإذا رجل حاف حاسر طويل الشعر. قال: فجعلت أنظر إليه وأتأمل فيه، فقال: ( مالك تنظر إليّ؟ )، فقلت: ( شبهتك برجل رأيته بمكة راكباً على بغلة، وبين يديه غلمان يطوفون ويعنفون الناس ). فقال: ( أنا ذلك الرجل ). فقلت: ( ما فعل الله بك؟ ). قال: ( إني ترفعت في موضع يتواضع فيه الناس، فوضعني الله تعالى في موضع يترفع الناس فيه ). [انظر إثارة الترغيب للخوارزمي].
صور يجب أن تختفي:
إن بعض الناس لا يرعى لمكة حرمة، ولا يرى للبيت مزية وشرفاً، فتراهم يخبطون فيها خبط عشواء، ويرتكبون المعاصي والأخطاء ولا يعلمون ما جاء من فضلهما من صحيح الأنباء..
- كيف يحمل أناس السلام بمكة، والنبي
يقول:
{ لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح } [رواه مسلم].
- كيف يتعامل بعض الناس بالربا وهو بجوار البيت العتيق؟!
- كيف يغش التجار عباد الله من الحجاج والعمار، ويستغلونهم والنبي
يقول:
{ ومن غشنا فليس منا } [رواه مسلم].
- كيف يجرؤ بعض ضعاف النفوس على بيع ما حرم الله من الدخان والشيشة وآلات الطرب والملاهي وهم بمكة!!
- كيف يجرؤ بعض ضعاف النفوس على تركيب أطباق الفساد والعهر والرذيلة فوق أسطح منازلهم بمكة؟!
- كيف يجرؤ بعض الشباب على معاكسات النساء وهم بمكة، بل والله منهم من لا يأتي إلى الحرم إلا لأجل هذا المقصد الخبيث!!
- كيف تجرؤ بعض الفتيات التائهات والنساء الغافلات على التبرج والتهتك وتمايل في مكة، بل في صحن المسجد الحرام وساحاته!
- كيف تجرؤن على مزاحمة الرجال والاختلاط بهم والتعرض للفساق منهم في الطرقات والأسواق وغيرها؟!
إن الأخطاء والمخالفات كثيرة لا يمكن إحصاؤها في هذا المقام، ولكنها إشارة إلى ما عداها، والحر تكفيه الإشارة، وهذا والله منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامة، ومؤذن بليل بلاء قد أدلهم ظلامه، فلنتدارك الأمر بتوبة نصوح ولنترك المعاصي في أي مكان وزمان، ولنعظم شأن مكة والبيت الحرام، لنفوز برضى رب الأنام..
قال تعالى:
فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَـٰذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ [سورة قريش:4،3].
هذا ما أردت قوله والله أعلم وأحكم، وصلى الله على نبينا محمد.