أما بعد: اتقوا الله تعالى، واعلموا معاشر الإخوة، وفقني الله وإياكم، وأيقظ قلبي وقلوبكم من الغفلة، ورزقني وإياكم الاستعداد للنقلة، من الدار الفانية إلى الدار الباقية. إن من أضر الأشياء على الإنسان، طول الأمل، وذلك بأن يستشعر الإنسان طول البقاء في الدنيا، حتى يغلب ذلك على قلبه، وينسى أنه مهدد بالموت في كل لحظة، فكل ما هو آت يا عباد الله، فهو قريب، فتأهبوا لساعة الوداع من الدنيا، والخروج منها. أؤمل أن أحيا وفي كل ساعة تمر بي الموتى تهز نعوشها وهل أنا إلا مثلهم غير أن لي بقايا ليال في الزمان أعيشها قال بعض السلف: من طال أمله، ساء عمله، وذلك أن طول الأمل، يحمل الإنسان على الحرص على الدنيا، والتشمير لها، لعمارتها، وطلبها حتى يقطع وقته، ليله ونهاره، في التفكير في جمعها وإصلاحها، والسعي لها مرة بقلبه، ومرة بالعمل، فيصير قلبه وجسمه، مستغرقين في طلبها. وحينئذ ينسى نفسه والسعي لها، بما يعود عليها بالصلاح، وكان ينبغي له المبادرة والاجتهاد، والتشمير في طلب الآخرة، التي هي دار الإقامة والبقاء، وأما الدنيا فهي دار الزوال والانتقال. أتبنـي بنـاء الخالدين وإنما مقامك فيها لو عرفت قليل لقد كان في ظل الأراك كفاية لمن كان يوماً يقتفيه رحيل عباد الله، ذكر العلماء أن طول الأمل له سببان: أحدهما الجهل، والآخر حب الدنيا. أما حب الدنيا، فهو أنه إذا أنس بها، وبشهواتها وعلائقها، ثقل على قلبه مفارقتها، فامتنع قلبه من التفكير في الموت، وصار مشغولاً بالأماني الباطلة، التي توافق مراده، وإذا جاء خاطر الموت في بعض الأحوال واستعد وتهيأ، سوّف ووعد نفسه وقال: ما مضى إلاّ القليل، إلى أن تكبر، ثم تتوب، وتقبل على الطاعة، فلا يزال يمنّي ويسوّف من الشباب إلى الكهولة، إلى الشيخوخة، أو إلى رجوع من سفر، أو إلى فراغ من تدبير بعض شئونه، فلا يزال يمنّي نفسه بما يوافق هواها، ولا يزال يغالط نفسه في الحقائق، ويتوهم البقاء في الدنيا، إلى أن يتقرر ذلك عنده، ويظن أن الحياة قد صفت له، وينسى قول الله عز وجل: حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ ٱلاْرْضُ زُخْرُفَهَا وَٱزَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلاْمْسِ [يونس:24]. تصفو الحياة لجاهل أو غافل عما مضـى منها وما يتوقع ولمن يغالط في الحقائق نفسه ويسوقها طلب المحال فتطمع وأما السبب الثاني: فهو الجهل، حيث يستبعد الموت مع الصحة والشباب، فالإنسان قد أَلِف موت غيره، ولم يرَ موت نفسه أصلاً فلذلك يستبعد، إلا أن العاقل يعرف أن الأجل محدود، فقد فُرغ منه، والإنسان يسير إليه كل لحظة كما قيل: نسير إلى الآجال في كل لحظة وأيامنا تطوى وهُنَّ مراحل ولهذا، فإن من المداخل للشيطان، إلى قلب ابن آدم، والتي إذا لم ينتبه لها الإنسان أهلكته، طول الأمل، فإن الشيطان لا يزال بالإنسان، في اتباع الهوى، والنفس الأمارة بالسوء، حتى يوقعه في سوء الخاتمة، نسأل الله السلامة والعافية، وبذلك يكون الشيطان قد حقق مراده. ألا أيها اللاهي وقد شـاب رأسه ألماّ يَزَعْكَ الشيب والشيـب وازع أتصبو وقد ناهزت خمسين حجة كأنــك غـرّ أو كأنـك يافع حـذار من الأيـام لا تـأمننّها فتخدعـك الأيـام وهي خوادع أتأمن خيـلا لا تـزال مغيـرة لها في كل يوم فـي أنـاس وقائع وتـأمل طول العمر عند نفـاده وبالرأس وســم للمنيـة لامـع ترحّل من الدنيـا بزاد من التقى فإنك مجزي بمـا أنـت صـانـع فاتقوا الله أيها المسلمون، فإنه لا علاج لحب الدنيا، وطول البقاء فيها إلا بالإيمان بالله واليوم الآخر، ووالله أيها الإخوة، لو نظر الإنسان إلى الدنيا بعين البصيرة، لرأى حقارتها ورأى أن الدنيا ليست بأهل أن يلتفت إليها، عن الحارث بن مالك الأنصاري رضي الله عنه، أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: ((كيف أصبحت يا حارث؟)) قال: أصبحتُ مؤمناً حقاً، قال: ((انظر ما تقول، فإن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك))، فقال: عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، وكأني أنظر إلى أهل الجنة، يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار، يتضاغون فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا حارث عرفت فالزم)). وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما الدنيا في الآخرة، إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع)) رواه مسلم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)). وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك) رواه البخاري. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما حق امرئ مسلم له شيء، يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده)) متفق عليه. وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى كافرا منها شربة ماء)) رواه الترمذي. وفي الترمذي من حديث المستورد بن شداد، قال: كنت مع الركب الذين وقفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، على السخلة الميتة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أترون هذه هانت على أهلها حتى ألقوها؟)) قالوا: ومن هوانها ألقوها يا رسول الله، قال: ((فالدنيا أهون على الله من هذه على أهلها)). وفي جامع الترمذي أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً ومتعلماً)). أيها المسلمون، ليس من العجب انهماك الكفار في حب الدنيا، وطول البقاء فيها، لأن الدنيا هي جنتهم، وإنما العجب، من المسلمين وأن يكون حب الدنيا، وطول البقاء فيها، هي شغلهم الشاغل، ليلاً ونهاراً، وهم يعرفون قدر الدنيا من كتاب ربهم، وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، أليس كتاب الله هو الذي فيه: مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِى ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ [الشورى:20]. أليس في كتاب الله عز وجل: مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَـٰجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَـٰهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ ٱلاْخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَـئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا [الإسراء:18، 19]. أيها المسلمون، ليلتان اثنتان يجعلهما كل مسلم في ذاكرته، ليلة في بيته، مع أهله وأطفاله، منعماً سعيداً، في عيش رغيد، وفي صحة وعافية، ويضاحك أولاده ويضاحكونه، يلاعبهم ويلاعبونه والليلة التي تليها، وبينما الإنسان يجري في ثياب صحته منتفعاً بنعمة العافية، فرحاً بقوته وشبابه، لا يخطر له الضعف على قلب، ولا الموت على بال، إذ هجم عليه المرض، وجاءه الضعف بعد القوة، وحل الهمُّ من نفسه محل الفرح، والكدر مكان الصفاء، ولم يعد يؤنسه جليس، ولا يريحه حديث، وقد سئم ما كان يرغبه في أيام صحته، على بقاء في لبه، وصحة في عقله، يفكر في عمر أفناه، وشباب أضاعه، ويتذكر أموالاً جمعها، ودوراً بناها، وقصوراً شيدها، وضياعاً جدّ وكدّ في حيازتها، ويتألم لدنيا يفارقها، ويترك ذرية ضعافاً يخشى عليهم الضياع من بعده، مع اشتغال نفسه بمرضه وآلامه، وتعلق قلبه بما يعجل شفاءه، ولكن ما الحيلة إذا استفحل الداء، ولم يجدِ الدواء، وحار الطبيب، ويئس الحبيب. وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19]. عند ذلك تغير لونه، وغارت عيناه ومال عنقه وأنفه، وذهب حسنه وجماله، وخرس لسانه، وصار بين أهله وأصدقائه ينظر ولا يفعل، ويسمع ولا ينطق، يقلب بصره فيمن حوله، من أهله وأولاده، وأحبابه وجيرانه، ينظرون ما يقاسيه من كرب وشدة، ولكنهم عن إنقاذه عاجزون، وعلى منعه لا يقدرون، فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـٰكِن لاَّ تُبْصِرُونَ [المعارج:83-85]. ثم لا يزال يعالج سكرات الموت، ويشتد به النـزع، وقد تتابع نفسه، واختل نبضه وتعطل سمعه وبصره، حتى إذا جاء الأجل، وفاضت روحه إلى السماء، صار جثة هامدة وجيفة بين أهله وعشيرته، قد استوحشوا من جانبه، وتباعدوا من قربه، ومات اسمه الذي كانوا يعرفون، كما مات شخصه الذي كانوا به يأنسون، فلا حول ولا قوة إلا بالله. أيها المسلمون، إن أكبر واعظ هو الموت، الذي قدّره الله على من شاء من مخلوق مهما امتد أجله وطال عمره، إلا وهو نازل به، وخاضع لسلطانه كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ٱلْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [العنكبوت:57]. ولو جعل الله الخلود لأحد من خلقه لكان ذلك لأنبيائه المطهرين، ورسله المقربين، وكان أولاهم بذلك صفوة أصفيائه كيف لا، وقد نعاه إلى نفسه بقوله: إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ [الزمر:30]. أيها المسلمون، ((أكثروا من ذكر هادم اللذات))، بهذا أوصى نبيكم محمد . كلام مختصر وجيز، قد جمع التذكرة وأبلغ في الموعظة؛ فمن ذكر الموت حق ذكره حاسب نفسه في عمله وأمانيه، ولكن النفوس الراكدة والقلوب الغافلة كما يقول القرطبي رحمه الله تحتاج إلى تطويل الوعاظ وتزويق الألفاظ. وأيم الله ليوشكن الباقي منا أن يبلى، والحي منا أن يموت، وأن تدال الأرض منا كما أدلنا منها، فتأكل لحومنا وتشرب دماءنا، كما مشينا على ظهرها وأكلنا من ثمرها وشربنا من مائها ثم تكون كما قال الله: وَنُفِخَ فِى ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَمَن فِى ٱلأرْضِ إِلاَّ مَن شَاء ٱللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ [الزمر:68]. لقد وقف نبيكم محمد على شفير قبر فبكى حتى بلّ الثرى ثم قال: ((يا إخواني لمثل هذا فأعدوا))، وسأله عليه الصلاة والسلام رجلٌ فقال: من أكيس الناس يا رسول الله؟ فقال: ((أكثرهم ذكراً للموت وأشدهم استعداداً له، أولئك هم الأكياس، ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة)). ((الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت)). يقول الحسن رحمه الله: "إن الموت قد فضح الدنيا فلم يدع لذي لبٍّ بها فرحاً". ويقول يونس بن عبيد: "ما ترك ذكر الموت لنا قرة عين في أهل ولا مال". من أكثر ذكر الموت أكرمه الله بثلاث: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، ونشاط العبادة. ومن نسي الموت ابتلي بثلاث: تسويف التوبة، وترك الرضى بالكفاف، والتكاسل في العبادة. استبدَل الأمواتُ بظهر الأرض بطناً، وبالسعة ضيقاً، وبالأهل غربة، وبالنور ظلمة، جاؤوها حفاة عراة فرادى. اللحود مساكنهم، والتراب أكفانهم، والرفات جيرانهم، لا يجيبون داعياً، ولا يسمعون منادياً. كانوا أطول أعماراً وأكثر آثاراً، فما أغناهم ذلك من شيء لما جاء أمر ربك، فأصبحت بيوتهم قبوراً، وما جمعوا بوراً، وصارت أموالهم للوارثين، وأزواجهم لقوم آخرين. حلَّ بهم ريب المنون، وجاءهم ما كانوا يوعدون: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـٰكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115]. ألا فاتقوا الله ـ رحمكم الله ـ واحفظوا الله ما استحفظكم وكونوا أمناء على ما استودعكم، فإنكم عند ربكم موقوفون، وعلى أعمالكم مجزيون وعلى تفريطكم نادمون. قال الله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ٱلْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـٰعُ ٱلْغُرُورِ [آل عمران:185]. فاتقوا الله عباد الله، أخلصوا في أعمالكم، وليكن شعار أحدكم دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم: ((اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا)). بارك الله .. |