أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى. عباد الله، في الصحيح عنه أنه قال: ((اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة)) [1]. أيها المسلم، الظلم خلق ذميم، الظلم عمل سيئ، الظلم مرتع وخيم، الظلم عاقبته عاقبةٌ سيئة، في الدنيا والآخرة، فهو سبب لزوال النعمة، سبب لانتقاص الأعمار، سبب لحلول العقوبات والمثلات، وفي الآخرة ظلمات بعضها فوق بعض، فليتق المسلم ربه، وليلزم العدل في كل أحواله، فالعدل به قامت الأرض والسموات، والظلم ظلمات يوم القيامة، وقد حرّم الله الظلم في كتابه، وحرمه رسوله في سنته. والظلم في الكتاب والسنة على أقسام ثلاثة: فأعظمها وأكبرها وأشدها عذاباً ونكالاً الشرك بالله، فهو أعظم الظلم وأشده وأشره، إذ الظلم حقيقته وضع الشيء في غير موضعه، وأي ظلمٍ أعظم من ظلم من عبد غير الله، وتعلق قلبه بغير الله، محبةً وخوفاً ورجاءً؟!! أي ظلم أعظم ممن عبد من لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً؟!! أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ [الأعراف:191، 192]، أي ظلم أعظم من ظلم من دعا من لا يستجيب له إلى يوم القيامة، من دعا من لا يسمع دعاءه، ولو سمعه ما استجاب له؟! وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوٰتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النحل:20، 21]، أي ظلم أعظم من ظلم من تعلّق قلبه بغير الله، فطاف بقبور الأموات، وذبح لهم النذور، وقرب لهم القرابين، وهتف بأسمائهم في الشدائد، وزعم أنهم ينفعون ويضرون، ويقربونه إلى الله زلفى؟! قال تعالى عن لقمان عليه السلام أنه قال لابنه: يٰبُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِٱللَّهِ إِنَّ ٱلشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، قال تعالى: ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـٰنَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ ٱلأمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82]. أيها المسلمون، فالمشرك ظالم، أتى بظلم لا يمكن أن يغفره الله له، إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيهِ ٱلْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ٱلنَّارُ وَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]. ومن أنواع الظلم الكذب على الله، بأن يدعي أنه يوحى إليه، وقد ختم الله الوحي بموت النبي ، قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْء وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ ٱللَّهُ [الأنعام:93]. أيها المسلم، إن من العدل أن تحب محمداً ، وأن تعمل بسنته، وأن تكون ناصراً لها، مؤيداً لها، داعياً إلى العمل بها، مرغباً في ذلك، فمن الظلم تجاهل سنة محمد ، من الظلم تجاهل السنة وعدم العمل بها، فإن ذلك ظلم وعدوان، وقد أخبر عن أقوام يأتون، يقول قائلهم: بيننا وبينكم كتاب الله، ما وجدنا فيه من حلال أحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، قال : ((ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)) [2]. أيها المسلمون، ومن أنواع الظلم ظلم العباد بعضهم لبعض، وقد بين الله في كتابه أنواعاً من الظلم في العباد بعضهم لبعض، فمن ذلكم أن الله جل وعلا بين في كتابه أن من ظلم المرأة أن يظلمها زوجها، ويتعدى عليها بالضرب والإهانة والتحريج لأجل أن تفتدي منه، بأن تردّ له ما دفع إليها من مهر، وإن لم يكن منها قصور ولا خطأ، ولكن لم يجعل الله في قلبه محبة لها، فيسعى في الإضرار بها، وتشويه سمعتها، وتلفيق التهم بها، وعيبها وعيب أهلها، ليتقوا شر لسانه، فيدفعوا له ما دفع لها، قال تعالى: وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا ءاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ [البقرة:229]. فمضارة الرجل للمرأة لأجل أن تتخلص منه من غير قصور منها، ومن غير ضعف في الواجب، بل هي مؤدية للواجب، لكن لآمة هذا الإنسان، وقلة حيائه، وضعف إيمانه يحمله على المضارة بها، وإلحاق الأذى بها، وتلفيق التهم للمسلمين براءة منها، لأجل أن يستردّ ما دفع من مهر. ومن أنواع الظلم المعاملات الربوية، فقد بين تعالى أنها ظلم، لأنه أخذ مال بغير حق، قال تعالى: وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءوسُ أَمْوٰلِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ [البقرة:279]، لا تظلمون بأخذ الزيادة، ولا تظلمون بأخذ شيء منكم، وإنما كل يأخذ حقه، فالربا ظلم وعدوان، وأكل مال بغير حق. ومن أنواع الظلم ما بين الله في كتابه، حيث أخبر أن أموال اليتامى أمانة لدى الولي، وأنه إن تعدى على شيء منها كان ظالماً، ولهذا قال الله: وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ [الأنعام:152]، وقد بين تعالى أن أكل أموالهم بغير حق ظلم إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰلَ ٱلْيَتَـٰمَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [النساء:10]. وحذر تعالى المسلم من قتل نفسه، وأن الانتحار ظلم للإنسان، قال تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوٰناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً [النساء:29، 30]. وأخبر تعالى أن سرقة أموال المسلمين، والتعدي عليها بالسرقة ظلم، قال تعالى بعدما ذكر عقوبة السارق: فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المائدة:39]. وأخبر أن مماطلة الغني للحق الواجب عليه ظلم منه لصاحبه، إذ الواجب أن تؤدى الحقوق إلى أهلها بطيب نفس، أن تأخير أداء الحق من ثمن المبيع أو قرض أو غير ذلك أن هذا التأخير ظلم منك لصاحب الحق، إذ الواجب أن تعطيه حقه في وقته، يقول : ((مطل الغني ظلم، يحلّ عرضه وعقوبته)) [3]. ومن أنواع الظلم تفضيل بعض الأولاد على بعض، عدواناً وطغياناً، فنبينا لما أريد منه أن يشهد على هذا التفضيل قال: ((اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم)) [4]، وقال: ((لا تشهدني على جور، أشهد على هذا غيري)) [5]، فجعله خلاف العدل، وجعله جوراً، وامتنع من الشهادة عليه؛ لأنه من أنواع الظلم. ومن أنواع الظلم الميل مع بعض الزوجات دون بعض، فإن هذا خلاف العدل، إذ العدل بين الزوجات أمر مطلوب شرعاً، وتفضيل بعضهن على بعض في الأمور الظاهرة محرم شرعاً، وقد أخبر أن من له زوجتان فمال مع إحداهما عن الأخرى، جاء يوم القيامة وشقه ساقط [6]. إذاً فتفضيل بعض الزوجات على بعض ظلم للمفضل عليها، وعدوان من غير حق. ومن أنواع الظلم ظلم أحد الزوجين صاحبه بأي [شكل من أشكال] ظلم، لأن الله يقول: وَلَهُنَّ مِثْلُ ٱلَّذِى عَلَيْهِنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ [البقرة:228]، فإذا عطلت الزوجة حق زوجها كانت ظالمة له، أو عطل الزوج حق امرأته كان ظالماً لها. ومن أنواع الظلم ظلم العمال، وعدم إعطائهم حقوقهم في وقتها، والمماطلة في ذلك والتأخير، وفيما يروى: ((أعطوا العامل أجره قبل أن يجفّ عرقه)) [7]، فحقوقهم واجبة في وقتها، وحرام المماطلة بها، والتأخير، وظلمهم، واستغلالهم بغير حق. ألم تر إلى قصة النفر الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار، وانطبقت عليهم الصخرة، فدعوا الله بصالح أعمالهم، فكلما دعا واحد فرج الله عنهم جزءاً منها حتى كان آخرهم، قال: اللهم كان لي أجراء، استأجرتهم، فأعطيتهم حقوقهم إلا واحداً، ترك الذي له وذهب، فثمّرته حتى كان منه الإبل والبقر والغنم والزرع، فجاءني فقال: يا فلان أعطني حقي، فقلت له: كل ما ترى من إبل وبقر ورقيق وحرث هو لك، قال: أتستهزئ بي؟! قلت: لا، قال: فأخذه كله، ولم يدع لي منه شيئاً، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت وخرجوا يمشون [8]. ((إن الظلم ظلمات يوم القيامة))، فليتق المسلم ربه، ولا يظلم عباد الله. ومن أنواع الظلم ظلم الناس في دمائهم، وظلمهم في أموالهم، وظلمهم في أعراضهم، فسفك الدماء بغير حق من كبائر الذنوب، وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [النساء:93]، ((ومن قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة)) [9]. ومن أنواع الظلم ظلم الناس في أموالهم، بالتعدي عليها بإفسادها، باقتطاع شيء من حقوقهم، ففي الحديث: ((من ظلم قيد شبر من أرض طوّقه يوم القيامة من سبع أرضين)) [10]. أيها المسلم، ومن أنواع الظلم ظلم الناس في أعراضهم، باغتيابهم، والسعي بينهم بالنميمة، وهمزهم وعيبهم، والسخرية بهم، والحط من قدرهم، ومحاولة إلصاق التهم بهم، وهم برآء من هذا كله، فكل هذا من أنواع الظلم، وفي الحديث: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام)) [11]. فليتق المسلم ربه، وليلزم العدل في أموره كلها، وفي الحديث القدسي: ((يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا)) [12] أي لا يظلم بعضكم بعضاً، ولا يعتد بعضكم على بعض، بل يحترم بعضكم بعضاً. هذه شريعة الله تقيم العدل، [وتحارب] الظلم، قال الله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيّنَـٰتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ [الحديد:25]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في البر [2578] من حديث جابر رضي الله عنهما. [2] أخرجه أحمد (28/410-411) [17174] ، وأبو داود في السنة [4604] من حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه ، وصححه ابن حبان [12] ، والحاكم (1/109) ، وأقره الذهبي ، وهو في صحيح أبي داود [3848]. [3] هذا النص مركب من حديثين : الأول قوله : ((مطل الغني ظلم)) أخرجه البخاري في الحوالات [2287] ، ومسلم في المساقاة [1564] ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . والثاني قوله : ((لي الواجد يحل عرضه وعقوبته)) علقه البخاري في الاستقراض ، باب لصاحب الحق مقال، ووصله أحمد (4/389)، وأبو داود في الأقضية [3628]، والنسائي في البيوع [4689 ، 4690]. وابن ماجه في الأحكام [2427] من حديث الشريد بن سويد رضي الله عنه، وصححه ابن حبان [5089]، والحاكم (4/102)، ووافقه الذهبي، وحسنه الحافظ في الفتح (5/62)، والألباني في الإرواء (1434). [4] أخرجه البخاري في الهبة [2587] ، ومسلم في الهبات [1623] من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه. [5] هذا اللفظ أحد روايات مسلم. [6] أخرجه أحمد (13/320) [7936] ، وأبو داود في النكاح [2133] ، والترمذي في النكاح [1141] ، والنسائي في عشرة النساء [3942] ، وابن ماجه في النكاح [1969] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وصححه ابن الجارود [722] ، وابن حبان [4207] ، والحاكم (2/186) ، ووافقه الذهبي ، وقال الحافظ في البلوغ [1085] : "إسناده صحيح". [7] أخرجه ابن ماجه في الأحكام [2443] من حديث ابن عمر بسند ضعيف جداً ، فيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وأخرجه الطبراني في الصغير (ص9) من حديث جابر ، وسنده أيضاً ضعيف ، فيه محمد بن زياد الكلبي وشيخه شرقي بن القطامي ضعيفان ، ولكن صحّ من حديث أبي هريرة عند الطحاوي في شرح المشكل [3014] ، والبيهقي في السنن (6/121) ، انظر: الإرواء [1498]. [8] قصة النفر الثلاثة أخرجها البخاري في البيوع [2215] ، ومسلم في كتاب الذكر [2743] من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. [9] أخرجه البخاري في الجزية [3166] ، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. [10] أخرجه البخاري في المظالم [2453] ، ومسلم في المساقاة [1612] من حديث عائشة رضي الله عنها. [11] أخرجه البخاري في الفتن [7078] ، ومسلم في القسامة [1679] من حديث أبي بكرة رضي الله عنه ، وأخرجه البخاري في الحج [1739] من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. [12] أخرجه مسلم في البر [2577] من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
|