أما بعد: عباد الله: أنزل الله هذا الكتاب هدى ورحمة للمؤمنين. وفصله لنا أحسن تفصيل وبينه أحسن بيان، وجعله جل وعلا ميزان حق، وحكم عدل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يأمرنا فيه بما فيه صلاحنا، وينهانا عما فيه ضررنا وفسادنا. بلا اختلاف ولا تعارض ولا تناقض، فأمره حق، ونهيه حق. في هذا الكتاب شؤون ديننا صغيرها وكبيرها، دقيقها وجليلها. وفيه كذلك شئون حياتنا في دنيانا، يهدينا للخير ويدلنا عليه، وينهانا عن الشر ويحذرنا منه، ميزان قسط وعدل من لدن حكيم خبير، من حكم به فقد عدل، ومن أمر به فقد نصح، ومن دل عليه فقد هدى، ومن قام به فقد نجا، ومن وزن به فقد أقسط. أيها الموحدون: إن الله جل وعلا قد أنزل لنا هذا الكتاب ليكون منهج حياة وحكم عدل وميزان قسط. لذا فإن الواجب على كل مسلم أن يزن الأمور بهذا الميزان وأن يرضى به ميزاناً لشئون حياته كلها. ذلك بالطبع مع الأخذ بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم مع هذا الكتاب لأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة هي المصدر الثاني للتشريع، وهي حكم الله كذلك قال تعالى: فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً [النساء:65]. واعلموا رحمكم الله أن من رحمة الله بنا أن أنزل لنا هذا الميزان الحق وهذا الحكم العدل لكي نزن به أمورنا وشئون حياتنا ونحكم به فيما اختلفنا فيه، ولو ترك لنا هذا الأمر لتخبطنا في كل واد ولتقاذفتنا الأهواء والفتن، ولما استطاع أحد من البشر أن يضع منهجاً أو قوانين تناسب الناس كلهم في عصورهم كلها. وإن أردت الدليل على ذلك فتأمل حال دول الكفر اليوم، وهم الذين يحكمون بقوانين من وضع البشر كيف تاهوا وضلوا وشقوا أيما شقاء بتلك القوانين، وهم فوق ذلك بحاجة لإعادة النظر والتغيير في هذه الأنظمة والقوانين لما يحصل فيها من الاختلاف والتناقض مع متغيرات الزمن وصدق الله إذ يقول: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلَـٰفاً كَثِيراً [النساء:82]. إخوة الإيمان: نقول هذا ونحن نعيش اليوم عصراً انعكست فيه المفاهيم وانقلبت الموازين وحكم كثير من الناس أهواءهم في شئون حياتهم، بل وحتى في كثير من شئون دينهم التي كانت أولى بالبعد عن تحكيم الهوى فيها، أصبحت المفاهيم دنيوية محضة ولم يبق ممن يزن بميزان الله إلا القليل، أصبحت عقول الناس تحكم في كل شيء وأصبح من نال قسطاً من تعليم دنيوي ونال شهادة عالية يخول لنفسه ويفوضها للخوض في مسائل الدين كلها دقيقها وجليلها وللحكم فيها بما يراه عقله وفكره ظناً منه أن حصوله على الشهادات العليا في التخصصات الدنيوية يؤهله للخوض في مثل هذه المسائل، بل والحكم فيها والجدال أيضاً. وقد نسي أمثال هؤلاء أو تناسوا أنه كما أن لعلم الطب رجاله ولعلم الهندسة رجاله فلعلم الشريعة رجاله من أهل العلم الموثوقين. وليت أن الأمر وقف عند هذا الحد بل إن الأمر قد تعدى إلى درجة أنه لو جلس عوام الناس في مجلس وطرحت مسألة شرعية في ذلك المجلس قام كل واحد من الجالسين يدلي بدلوه في المسألة ويفتي، ولو كان ذلك بغير علم مسبق من سماع أو اطلاع، بل كل ذلك يتم وبضاعتهم في ذلك النقاش هي (أظن وأرى وأعتقد) وليس عندهم من قول الله ولا قول رسوله شيء يدعمون به أقوالهم. وتكبر المصيبة وتعظم عندما يكون النقاش مبنياً على فهم خاطئ لمعنى آية أو حديث، ويرى المتحدث حينها أنه قد حكم في المسألة بحكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم. في حين أنه لم يقرأ معنى تلك الآية وتفسيرها في كتاب من كتب التفسير ولم يقرأ شرحاً لذلك الحديث الذي يحتج به في كتاب من كتب الحديث. وإنما بنى حكمه وعلمه على فهمه الخاص وعقله المجرد دون الرجوع لعلماء الإسلام وأقوالهم في معاني الآيات والأحاديث. وكم سمعنا ونسمع من احتجاج بآيات وأحاديث صحيحة مبنية على فهم خاطئ لأنه لم يؤخذ من أهل العلم أو كتبهم. إخوة الإيمان: بناءاً على تلك المقدمتين وهما: 1- عدم الوزن بميزان الشرع والاحتكام إلى العقل المجرد عن العلم الشرعي. 2- الفهم الخاطئ لنصوص الشرع المبني أيضاً على العقل المجرد من نور العلم الشرعي. أقول بناءاً على هاتين المقدمتين انتشرت مفاهيم خاطئة وموازين مقلوبة عند كثير من المسلمين كانت سبباً للبلاء والشقاء الذي حل بالمسلمين عموماً وبهذه الفئة خصوصاً. وإن نظرة سريعة إلى بعض المفاهيم الخاطئة والموازين المقلوبة الموجودة اليوم عند المسلمين لكافية للاقتناع بأننا بحاجة إلى تصحيح هذه المفاهيم والرجوع إلى ميزان الحق والعدل الشرعي. وتأمل مثلاً اليوم في حال المسلمين في كثير من البلاد الإسلامية مع مفهوم الولاية. فمن هو الولي؟ وماذا للولي عند الله؟ وابحث في كتاب الله عن إجابة لهذا السؤال ثم انظر في حال كثير من المسلمين لترى جوابهم. أما في كتاب الله فيقول الله: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء ٱللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]. إذا المؤمن التقي هو الولي. وأما ماله عند الله فله الأمن والفرح يوم القيامة وفي الدنيا. وأما عند القبوريين فالولي هو الذي يشفع وينفع ويعطي ويمنع، يسألونه الرزق والولد وكشف الضر، ويخافونه كخوفهم من الله بل أشد عند بعضهم، يرون أنه يملك التصرف في الكون وينزل المطر وينبت الزرع وغير ذلك كثير نعوذ بالله من الشرك والضلال. ولو سألتهم من أين لكم هذا؟ قالوا لك: قد ذكر الله الأولياء في كتابه. فنقول: لقد ذكر أنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. فمن قال بأنهم يملكون النفع والضر والتصرف في الكون وغير ذلك؟ إنه لا حجة لهم إلا عقول مسخها الشيطان أو أهواء تقذف بصاحبها في النار. |