وبعد: عباد الله: فقد ذكرنا في الخطبة السابقة بعضاً من المعاصي التي ورد اللعن على مرتكبيها على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا أن اللعن معناه الطرد والإبعاد عن رحمة الله أعاذنا الله وإياكم من ذلك. ونتم اليوم بعون الله ما بقي مما اخترناه من أحاديث هذا الباب، ونسأل الله جل وعلا أن يجنبنا وإياكم مساخطه ومواقع غضبه إنه سميع مجيب. ثم أما بعد: فمما ورد اللعن عليه كذلك.. شرب الخمر، بل إنه قد لعن في الخمر عشرة فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشتراة له)) [رواه الترمذي]. والخمر عباد الله محرمة في دين الإسلام بالقرآن والسنة والإجماع قال تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلاْنصَابُ وَٱلاْزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَـٰنِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]. وقد أجمع علماء الأمة على تحريم الخمر، وهي أم الخبائث وسبب كثير من المصائب يشربها الرجل فيقع على أمه وأخته والعياذ بالله، ويصبح كالبهيمة بل البهيمة خير منه. ويرتكب الجرائم والفظائع وهو فاقد العقل. ومع ذلك وقع بعض المسلمين في شربها هداهم الله. وكم ضيعت من شباب، وهدمت من بيوت، وشتت من أسر، وشردت من أطفال، ورملت من نساء. فأين عقول أولئك الذين يشربونها إن كانت تفقدهم عقولهم بعد شربها، فأين عقولهم قبل شربها، أما رأوا أو سمعوا ما تفعله بمن يشربها؟ لكن قلة الوازع الديني وضعف الإيمان هو السبب، فإليك يا من تجرأت على شرب الخمر عقوبة شاربها يوم القيامة مع هذا الخزي الذي يحدث له في الدنيا، يقول جابر بن عبد الله - رضي الله عنه وعن أبيه-: قدم رجل من جيشان، وهي منطقة من اليمن فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له المزر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أومسكر هو؟)) قال: نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل مسكر حرام، إن على الله عهداً لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال)). قالوا: يارسول الله وما طينة الخبال؟ قال: ((عرق أهل النار أو عصارة أهل النار)) [رواه مسلم]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن على الخمر، والمنان بما أعطى)) [رواه النسائي]. ومما ورد من سخط على من يشربونها في الدنيا كذلك ما رواه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحرَ والحرير والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم ـ يعني الفقير ـ لحاجة فيقولون: ارجع إلينا غداً، فيبيتهم الله ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة)). واليوم عباد الله أصبح بعض المسلمين هداهم الله يسمون الخمر المشروبات الروحية وغير ذلك من الأسماء التي يحسنونها بها، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بذلك، فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تذهب الليالي والأيام حتى تشرب طائفة من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها)) [رواه ابن ماجه]. ألا فليعلم المتحايلون على أنفسهم أن تغيير المسميات لا يغير الحقائق، وستبقى الخمر خمراً، وسيبقى شاربها ملعوناً، وله العذاب المذكور في الأحاديث ولو سماها عسلاً. ومما ورد عليه اللعن كذلك لعن من أشار إلى أخيه بحديدة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: ((من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه، حتى وإن كان أخاه لأبيه وأمه)) [رواه مسلم]. ومما ورد عليه اللعن أكل الربا. فقد لعن رسول الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه. وقال: ((هم سواء)). وهذا البلاء عباد الله قد عم وانتشر التعامل به بين كثير من المسلمين تحايلاً حيناً، وصراحة حيناً آخر. وقد ظهرت أنواع من المعاملات كلها ربوية قد أفتى فيها أهل العلم وبينوا أنها من أشكال الربا إما حيلة أو صراحة.ومن ذلك مثلاً ما انتشر في الآونة الأخيرة من أن الإنسان إذا أراد شراء شيء ما من بيت أو سيارة أو غير ذلك ذهب إلى تاجر لا يملك هذه السلعة أصلاً فيشتريها التاجر كي يبيعها مقسطة بزيادة على سعرها الأصلي. وقد أفتى فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- أكثر من مرة بحرمة هذه المعاملة وأنها ما هي إلا حيلة على الربا، وقال رحمه الله: إن الصورة الصحيحة أن تذهب إلى صاحب السلعة المالك لها فيشتريها منه إما نقداً أو مقسطة على أقساط شهرية، أما أن يذهب إلى شخص لا يملك السلعة فيشتريها من مالكها ثم يبيعها لك، فكأنما أعطاك ثمنها واشتريت السلعة ثم قسطت له هذا المال بزيادة، وهذا هو الربا. وكذلك من صور التعامل بالربا التي فشت وانتشرت استخدام بطاقات سحب الأموال أو المشتروات، ولو لم يكن لصاحبها رصيد على أن يسدد خلال أيام معينة، فإن لم يسدد خلال هذه المدة المحددة بدؤوا بحساب زيادة بنسبة معينة عن كل يوم يتأخر فيه عن السداد أو عن كل شهر مثل ما يسمى ببطاقة الماستر كارد أو الفيزا كارد أو غيرها مما هو مثلها في التعامل، وهذه بالتحديد قد صدرت فيها فتوى من هيئة كبار العلماء تبين أن هذا ربا، وأنه لا يجوز التعامل بها. ومما يجدر التنبيه عليه هنا أن بعض المسلمين هداهم الله يتعاملون بهذه البطاقات ويقولون: نحن نسدد قبل حلول الموعد ولا ندفع الزيادة. فنقول لهؤلاء وفقهم الله للخير: إن مجرد توقيعك على العقد مع أصحاب هذه البطاقة وموافقتك على شروطها هو رضا منك بالتعامل الربوي، ولو لم تقع فيه، وهذا محرم، لأنه عقد على معاملة ربوية محرمة. ومن المعاملات الربوية المنتشرة اليوم استبدال الذهب القديم بذهب جديد مع دفع الفرق. وهذا غير جائز، وهو من الربا، لأن الذهب من الأصناف الربوية التي يجب فيها التساوي عند التبادل مع القبض في نفس المجلس. وذلك يعني أن تكون الكميتان اللتان يجري فيهما التبادل متساويتان وزناً، وأن يتم التبادل يداً بيد في نفس الوقت، فلا يجوز أن يستلم منه الذهب الآن مثلاً ويقول: أحضر الذهب بعد ساعة. ودليل ذلك قوله فيما رواه أبو بكرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا سواء بسواء والفضة بالفضة إلا سواء بسواء وبيعوا الذهب بالفضة والفضة بالذهب كيف شئتم)) [رواه البخاري]. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائباً بناجز)) [رواه البخاري ومسلم]. |