معاشر المسلمين، لم تعرف البشريةُ دينًا ولا حضارةً عُنيت بالمرأة أجملَ عناية وأتمَّ رعايةٍ وأكملَ اهتمام كالإسلام. تحدَّث عن المرأة، وأكّد على مكانتها وعِظم منزلتها، جعلها مرفوعةَ الرأس، عاليةَ المكانة، مرموقةَ القدْر، لها في الإسلام الاعتبارُ الأسمى والمقامُ الأعلى، تتمتّع بشخصيةٍ محترمة وحقوقٍ مقرّرة وواجبات معتبرة. نظر إليها على أنها شقيقةُ الرجل، خُلِقاَ من أصل واحد، ليسعدَ كلٌّ بالآخر ويأنس به في هذه الحياة، في محيط خيرٍ وصلاح وسعادة، قال : ((إنما النساء شقائق الرجال)) [1]. المرأةُ في تعاليم الإسلام كالرجل في المطالبة بالتكاليف الشرعية، وفيما يترثّب عليها من جزاءات وعقوبات، وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [النساء: 124]. هي كالرجل في حمل الأمانة في مجال الشؤون كلها إلا ما [اقتضت] الضرورةُ البشرية والطبيعة الجِبليّة التفريقَ فيه، وهذا هو مقتضى مبدأ التكريم في الإسلام لبني الإنسان، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وَحَمَلْنَـٰهُمْ فِى ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَـٰهُمْ مّنَ ٱلطَّيّبَـٰتِ وَفَضَّلْنَـٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء: 70]. إخوةَ الإسلام، لقد أشاد الإسلام بفضل المرأة، ورفع شأنَها، وعدَّها نعمةً عظيمةً وهِبةً كريمة، يجب مراعاتها وإكرامُها وإعزازها، يقول المولى جل وعلا: لِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَـٰثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء ٱلذُّكُورَ أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَـٰثًا [الشورى: 49،50]، وفي مسند الإمام أحمد أن النبي قال: ((من كان له أنثى فلم يئدها ولم يُهنها ولم يؤثر ولده عليها أدخله الله الجنة)) [2]. المرأةُ في ظل تعاليم الإسلام القويمة وتوجيهاتِه الحكيمة تعيش حياةً كريمة في مجتمعها المسلم، حياةً مِلؤها الحفاوةُ والتكريم من أوَّل يوم تقدُم فيه إلى هذه الحياة، ومُرورًا بكل حال من أحوال حياتها. رعى حقَّها طفلةً، وحثَّ على الإحسان إليها، ففي كتاب مسلم من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي قال: ((من عال جاريتين حتى تبلُغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين)) وضمّ أصابعه [3]، وفي مسلم أيضًا أن النبي قال: ((من كان له ثلاث نبات وصبر عليهن وكساهن من جدته كُن له حجابا من النار)) [4]. رعى الإسلام حقَّ المرأة أمًّا، فدعا إلى إكرامها إكرامًا خاصًّا، وحثَّ على العناية بها، وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـٰهُ وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰنًا [الإسراء: 23]. بل جعل [حقَّ] الأمّ في البرّ آكدَ من حقِّ الوالد، جاء رجل إلى نبينا فقال: يا رسول الله، من أبرّ؟ قال: ((أمّك))، قال: ثم من؟ قال: ((أمّك))، قال: ثم من؟ قال: ((أمّك))، قال: ثم من؟ قال: ((أبوك)) متفق عليه [5]. رعى الإسلامُ حقَّ المرأة زوجةً، وجعل لها حقوقًا عظيمة على زوجها، من المعاشرة بالمعروف والإحسان والرفق بها والإكرام، قال : ((ألا واستوصوا بالنساء خيرًا، فإنهن عوان عندكم)) متفق عليه [6]، وفي حديث آخر أنه قال: ((أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا، وخيارُكم خياركم لنسائه)) [7]. رعى الإسلامُ حقَّ المرأة أختًا وعمَّةً وخالةً، فعند الترمذي وأبي داود: ((ولا يكون لأحد ثلاثُ بنات أو أخوات فيُحسن إليهن إلا دخل الجنة)) [8]. وفي حال كونِها أجنبيةً فقد حثَّ على عونها ومساعدتها ورعايتها، ففي الصحيحين: ((الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو كالقائم الذي لا يفتُر، أو كالصائم الذي لا يفطِر)) [9]. معاشرَ المسلمين، المكانةُ الاجتماعية للمرأة في الإسلام محفوظةٌ مرموقة، منحها الحقوقَ والدفاعَ عنها والمطالبةَ برفع ما قد يقع عليها من حرمان أو إهمال، يقول : ((إن لصاحب الحق مقالاً)) [10]. أعطاها حقَّ الاختيار في حياتها والتصرّف في شؤونها وفقَ الضوابط الشرعية والمصالح المرعية، قال جل وعلا: وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ [النساء: 19]، وقال : ((لا تُنكح الأيم حتى تُستأمَر، ولا البكر حتى تستأذَن في نفسها)) [11]. المرأةُ في نظر الإسلام أهلٌ للثقة ومحلٌّ للاستشارة، فهذا رسول الله أكملُ الناس علما وأتمُّهم رأيًا يشاور نساءَه ويستشيرهن في مناسبات شتى ومسائل عظمى. إخوةَ الإسلام، في الإسلام للمرأة حريةٌ تامة في مناحي الاقتصاد كالرجل سواءً بسواء، هي أهلٌ للتكسُّب بأشكاله المشروعة وطرقه المباحة، تتمتّع بحرية التصرف في أموالها وممتلكاتها، لا وصايةَ لأحدٍ عليها مهما كان وأينما كان، وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَـٰمَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ ءانَسْتُمْ مّنْهُمْ رُشْدًا فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوٰلَهُمْ [النساء: 6]. بل إن الإسلامَ يفرض للمرأة من حيث هي ما يسمَّى بمبدأ الأمن الاقتصادي مما لم يسبق له مثيلٌ ولا يجاريه بديل حينما كفل للمرأة النفقةَ أمًّا أو بنتًا أو أختًا أو زوجةً وحتى أجنبية، لتتفرّغ لرسالتها الأسمى وهي فارغةُ البال من هموم العيش ونصب الكدح والتكسُّب. معاشر المؤمنين، هذه بعضُ مظاهر التكريم للمرأة في الإسلام، وذلك [غيْضٌ من فيض] وقبضةٌ من بحر. أيها المسلمون، إن أعداءَ الإسلام تُقلقهم تلك التوجيهاتُ السامية، وتقضّ مضاجعهم هذه التعليمات الهادفة، لذا فهُم بأنفسهم وبمن انجرّ خلفهم في حديث لا يكلّ عن المرأة وشؤونها وحقّها وحقوقها، كما يتصوّرون وكما يزعمون، مما يحمل بلاءً تختلف الفضائل في ضجَّته، وتذوب الأخلاق في أزِمّته، دعواتٌ تهدف لتحرير المسلمة من دينها والمروق من إسلامها، مبادئُ تصادم الفِطرةَ وتنابذ القيمَ الإيمانية. دعواتٌ من أولئك تنبثق من مبادئَ مُهلكةٍ ومقاييسَ فاسدة وحضاراتٍ منتنة، تزيِّن الشرورَ والفساد بأسماء برّاقة ومصطلحات خادعة. وللأسف تجد من أبناء المسلمين من في فكره عِوَجٌ وفي نظره خلل ينادي بأعلى صوتٍ بتلك الدعوات، ويتحمّس لتلك الأفكار المضلِّلة والتوجُّهات المنحرفة، بل ويلهج سعيًا لتحقيقها وتفعيلها. لذا تجد أقلامَهم تُفرز مقتًا للأصيل من أصولهم والمجيد من تراثهم. إخوة الإسلام، لقد عرف أعداءُ الإسلام ما يحمله هذا الدين للمرأة من سموّ كرامةٍ وعظيم صيانة، علموا في مقرراته المأصَّلة أن الأصلَ قرارُ المرأة في مملكة منزلها، في ظل سكينة وطمأنينة، ومحيط بيوتٍ مستقرةٍ، وجوِّ أسرة حانية. رأوا حقوقَ المرأة مقرونةً بمسؤوليتها في رعاية الأسرة، وخروجها في الإسلام من منزلها يؤخَذ ويمارَس من خلال الحشمة والأدب، ويُحاط بسياج الإيمان والكرامة وصيانة العرض، كما قال تعالى: وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ ٱلأولَىٰ [الأحزاب: 33]، وكما قال : ((وبيوتهن خير لهن)) [12]. حينذاك ضاقوا من ذلك ذرعًا، فراحوا بكلِّ وسيلة وسعوا بكل طريقة ليخرجوا المرأةَ من بيتها وقرارِها المكين وظلِّها الأمين، لتطلق لنفسها حينئذ العنانَ لكل شاردةٍ وواردة، ولهثوا لهثًا حثيثًا ليحرّروها من تعاليم دينها وقيم أخلاقها، تارةً باسم تحرير المرأة، وتارةً باسم الحرية والمساواة، وتارةً باسم الرقي والتقدم الكاذب. مصطلحاتٌ ظاهرها الرحمة والخير، وباطنُها شرٌّ يُبنى على قلبِ القيم، وعكس المفاهيم، والانعتاق من كل الضوابط والقيم والمسؤوليات الأسَرِية والحقوقِ الاجتماعية، وبالتالي تُقام امرأةٌ تؤول إلى سلعةٍ تُدار في أسواق الملذَّات والشهوات. فالمرأةُ في نظر هؤلاء هي المتحرِّرةُ من شؤون منزلها وتربية أولادها، هي الراكضةُ اللاهثة في هموم العيش والكسب ونصب العمل ولفْت الأنظار وإعجاب الآخرين، ولو كان ذلك على حساب تدمير الفضيلة والأخلاق, وتدمير الأسرة والقيم، فلا هي حينئذ بطاعة ربٍّ ملتزمةٌ، ولا بحقوق زوجٍ وافية، ولا في إقامة مجتمع فاضلٍ مُسهِمة، ولا بتربية نشءٍ قائمةٌ. إخوةَ الإسلام، تلك نظراتُهم تصبُّ في بواثِق الانطلاق التامِّ والتحرُّر الكامل، الذي يُغرق الإنسانَ في الضياع والرذيلة وفقدان القيمة والهدف والغاية. أما في الإسلام فالمرأة أهمُّ عناصر المجتمع، الأصلُ أن تكون مربِّيةً للأجيال، مصنعًا للأبطال، ومع هذا فالإسلام ـ وهو الذي يجعل للعمل الخيِّر منزلةً عظمى ومكانةً كبرى ـ لا تأبى تعاليمُه عملاً للمرأة في محيط ما تزكو به النفس، وتُقوَّم به الأخلاق، وتحفظ به المرأة كرامتَها وحياءها وعفَّتها، وتصون به دينها وبدنَها وعرضها وقلبَها، وذلك من خلال ما يناسب فطرتَها ورسالتَها، وطبيعتَها ومواهبَها، وميولها وقدراتِها. ومن هذا المنطلق فالإسلام حينئذ يمنع المرأة وبكلِّ حزم من كلِّ عمل ينافي الدين، ويضادُّ الخلقَ القويم، فيشرط في عملها أن تكون محتشمةً وقورة، بعيدةً عن مظانِّ الفتنة، غيرَ مختلطة بالرجال، ولا متعرّضةٍ للسفور والفجور. ولئن أردنا حقيقةَ الواقع الذي يخالف ذلك المنهج الإسلامي فاسمع ـ يا رعاك الله ـ لأحد كُتَّاب الغرب وهو يقول: "إن النظام الذي يقضي بتشغيل المرأة في المعامل مهما نشأ عنه من الثروة للبلاد فإن نتيجتَه كانت هادمةً لبناء الحياة المنزلية؛ لأنه هاجم هيكلَ المنزل، وقوَّض أركانَ الأسرة، ومزَّق الروابط الاجتماعية"، وتقول أخرى وهي دكتورةٌ تحكي أزماتِ مجتمعها، تقول: "إن سبب الأزماتِ العائلية وسرَّ كثرةِ الجرائم في المجتمع هو أن الزوجةَ تركت بيتَها لتضاعفَ دخلَ الأسرة، فزاد الدخلُ وانخفض مستوى الأخلاق"، إلى أن قالت: "والتجاربُ أثبتت أن عودةَ المرأة إلى المنزل هو الطريقةُ الوحيدة لإنقاذ الجيل الجديد من التدهور الذي [هو] فيه" انتهى. فيا أيها المسلمون، الحرصَ الحرصَ على تعاليم هذا الدين، والحذرَ الحذر من مزالق الأعداء الحاقدين. بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الآيات والبيان، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (6/256)، وأبو داود في الطهارة (236)، والترمذي في الطهارة (113)، وابن الجارود في المنتقى (91) من حديث عائشة رضي الله عنها، وهو في صحيح الترمذي (98)، وانظر السلسلة الصحيحة (2863). [2] أخرجه أحمد (1/223)، و كذا ابن أبي شيبة في المصنف (5/221)، وأبو داود في الأدب (5146)، والبيهقي في الشعب (8699) من طريق ابن حدير عن ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه الحاكم (7348)، وابن حدير لا يعرف كما في الميزان الاعتدال (7/449)، وقال الحافظ في التقريب: "مستور لا يعرف اسمه"، والحديث في ضعيف أبي داود (1104). [3] أخرجه مسلم في البر (2631). [4] هذا الحديث أخرجه أحمد (4/154)، والبخاري في الأدب المفرد (76)، وابن ماجه في الأدب (3669)، وأبو يعلى في مسنده (1764)، والطبراني في الكبير (17/299)، والبيهقي في الشعب (8688) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، وصحح إسناده البوصيري في الزوائد، والألباني في السلسلة الصحيحة (294). [5] أخرجه البخاري في الأدب (5971)، ومسلم في البر (2548) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه. [6] أخرجه البخاري في النكاح (5186)، ومسلم في الرضاع (1468) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وليس فيه ((فإنهن عوان عندكم))، وإنما هي عند الترمذي في الرضاع (1163)، وابن ماجه في النكاح (1851) من حديث عمرو بن الأحوص رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح، ومعنى قوله: ((عوان عندكم)) يعني: أسرى في أيديكم"، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (929). [7] أخرجه أحمد (2/250)، وأبو داود في السنة (4682) مختصرا، والترمذي في الرضاع (1162)من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (4176)، والحاكم (2)، وهو في السلسلة الصحيحة (284). [8] أخرجه أبو داود في الأدب (5147)، والترمذي في البر (1912) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (3/42)، والبخاري في الأدب المفرد (79)، وصححه ابن حبان (446)، وحسنه الألباني في صحيح الأدب (59). [9] أخرجه البخاري في الأدب (6007)، ومسلم في الزهد (2982) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [10] أخرجه البخاري في الهبة (2609)، ومسلم في المساقاة (1601) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. [11] أخرجه البخاري في النكاح (5136)، ومسلم في النكاح (1419) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وليس فيه عندهما قوله: ((في نفسها)). [12] أخرجه أحمد (2/76)، وأبو داود في الصلاة (567) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصححه ابن خزيمة (1684)، والحاكم (755)، وابن عبد البر في التمهيد (23/395)، وهو في صحيح أبي داود (530). |