أما بعد: فموضوع هذه الجمعة المباركة: المقاطعة سبيل منافحة وطريق مدافعة. ما سبب ذلك؟ ومن نقاطع؟ وما المقاطعة؟ وهل لها من ثمار؟ وما الأدلة على مشروعيتها؟ عباد الله، في يوم الأربعاء الماضي أعادت سبع عشرة صحيفة دنماركية نشر الرسوم الكريكاتورية المسيئة للنبي ، ما سبب ذلك؟ تقول الصحف الدانمركية: إنها أعادت نشر هذه الرسوم لتحتج على مزاعم ما زالت قيد الإثبات، تحدثت عن مؤامرة لاغتيال أحد رسامي الكاريكاتير، وكان رئيس الوزراء الدانماركي "أندرياس فوغ راسموسن" قد عبَّر عن قلقه مما يحدث، وأعرب قادة الجالية الإسلامية عن اندهاشهم وعدم تفهمهم لقرار الصحف الدانمركية بإعادة نشر ذلك. أي غباء هذا الذي حلَّ بالدنمرك؟! هذه القضية المزعومة ما زالت على طاولة التحقيقات، ولو صدقوا في ذلك فمن أعلمهم أنّ مسلمًا قام بهذه المحاولة؟! ألا يمكن أن يكون أحد أعدائه؟! ولو ثبت أنه مسلم فهل الخطأ من كل مسلم يسوِّغ الإساءة للرسول ؟! هل يقبل هؤلاء أن نرد على خطأ رجل نصراني بالإساءة إلى عيسى عليه السلام؟! لا يقبلون ولا نقبل؛ فنحن أولى بعيسى منهم. عباد الله، إن من سنن الله تعالى الصراع بين الحق والباطل والنيل من المرسلين ومن سار على دربهم، أما قال الله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ [الحجر: 10، 11]؟! إني لا أريد أن أتحدث عن حكم الإساءة للنبي ، لا أريد الحديث عن مغبة هذا الفعل وأنّه قد علم بالاستقراء أنه ما من أحد نال من النبي إلا وقد جعله الله عبرةً لمن خلفه، فهذا موضوع سأرجع إليه بعد أن يحلَّ بأس الله في القوم الفاسقين بإذنه تعالى، ولكني أريد الحديث عن واجب أملكه أنا وأنتَ وأنتِ: سلاح الشعوب سلاح المقاطعة. فما المقاطعة؟ جاء في وثيقة المؤتمر العالمي لنصرة النبي ما نصه: "عملية توقف وقطع جمهور الشعب صلة التعامل مع سلعة أو خدمة لدولة أو شركة تُسيء أو تُلْحق الضَّرَرَ بالدين أو الأمَّة أو الوطن". وهل للمقاطعة من ثمار؟ الإجابة: وهل يشك عاقل في ذلك؟! يكفي أن تعلم أنّ خسائر شركة منتجات مشتقات الحليب (آرلا) أكبر مصدر للشرق الأوسط كانت تبلغ أكثر من مليون دولار يوميًا بعد إعلان المقاطعة الأولى، مما جعل هذه الشركة تضطر مؤقتًا للاستغناء عن 125 موظفًا. إنّ هذا السلاح قد عرف من قديم، وكلنا يعلم عن مقاطعة قريش لبني هاشم، ولقد استمرت المقاطعة ثلاث سنوات. والمقاطعة كانت من أسلحة الهند الفتاكة، فبريطانيا لم تصمد كثيرًا بعد المقاطعة التي أعلنها غاندي. ولما حرم الملك فيصل رحمه الله أمريكا وبريطانيا من نفط بلاده تأثروا كثيرًا بذلك كما لا يخفى على أحد. فما الأدلة على شرعية المقاطعة؟ الأدلة أكثر من أن يتسع لها مقام خطبة، وسأجتزئ منها ستةً: الدليل الأول: قال تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ [يوسف: 59، 60]. إن يوسف عليه السلام جعل منع الطعام عن إخوته وسيلة لجلب أخيه، وهو تلويح واضح بسلاح المقاطعة الاقتصادية، وشرع من قبلنا شرع لنا إذا جاء في شرعنا ما يثبته بلا خلاف بين العلماء، وهذه جاء في شرعنا ما يدل لها كما سيأتي بيانه. الدليل الثاني: قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة: 73]. فقد أوجب على المؤمنين مجاهدة الكفار والمنافقين، ومن المعلوم أن في جهادهم استباحة لدمائهم وأموالهم، فإلحاق الضرر بهم عن طريق المقاطعة الاقتصادية مشروع من باب أولى. الدليل الثالث: قال تعالى عن المؤمنين: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئًا يَغيظ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [التوبة: 120]. فدلت الآية على أنّ إغاظة الكفار مشروعة؛ ولذا فإن النبي جعل جمل أبي جهل ـ وكان قد غنمه يوم بدر وفي أنفه بُرَة (حلقة فضة) ـ في هديه يوم الحديبية؛ إغاظةً للمشركين [1]. الدليل الرابع: قوله تعالى: والذين إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ [الشورى: 39]. قال الطبري رحمه الله: "والذين إذا بغى عليهم باغ واعتدى عليهم هم ينتصرون" [2]. والمقاطعة سبيل انتصار لنبينا . الدليل الخامس: عن أنس قال: قال رسول الله : ((جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم)) رواه الإمام أحمد. والمقاطعة الاقتصادية تدخل في مفهوم الجهاد بمعناه العام، نظرًا لما تتضمنه من إتعاب النفس بحرمانها من بعض المكاسب والملذات، وذلك من أجل إعلاء كلمة الله ونصرة المستضعفين من المسلمين. وأرشد إلى دلالة الحديث على ذلك العلامة الجبرين حفظه الله. ومن أقوى الأدلة أنّ النبي بعث خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ سَيِّدُ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ: ((مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟)) فَقَالَ: عِنْدِي ـ يَا مُحَمَّدُ ـ خَيْرٌ، إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْغَدِ، فجاءه وكرر سؤاله وكرر ثمامة كلامه، حَتَّى كَانَ مِنْ الْغَدِ فكرر رسول الله سؤاله وأجاب ثمامة بما أجاب به من قبل، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ))، فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنْ الْمَسْجِدِ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ كُلِّهِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلادِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ فَمَاذَا تَرَى؟ فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ: أَصَبَوْتَ؟ فَقَالَ: لا وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ، وَلا وَاللَّهِ لا يَأْتِيكُمْ مِنْ الْيَمَامَةِ حَبَّةُ حِنْطَةٍ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ . رواه البخاري ومسلم. فأقره النبي ولم ينكر عليه. وما أريد أن أخلص إليه هنا ليس وجوب مقاطعة كلّ كافر؛ فإن النبي عامل الكفار، وإنما أريد أن أدلل على أن من قاطع الدنمرك التي أساءت لنبينا غَيرةً ونصرة له فهو مأجور إن شاء الله. بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعنا بما فيه من آيات وذكر حكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم وللمسلمين، فاستغفروه إنه غفور رحيم. [1] انظر: زاد المعاد (3/301). [2] جامع البيان (21/547). |