الحمدُ للهِ الواحدِ الأحَدِ، الفَردِ الصّمَدِ، الّذي لم يلِد ولم يولَد، ولم يَكُن لَه كفوًا أحَد، أحمدُه سبحانه وأشكرُه، وأتوبُ إليه وأستَغفِره، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شَريكَ له، وأشهد أن محمّدًا عبد الله ورسوله وصفِيّه وخليله وخيرت من خلقه، بلّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونَصَح الأمّةَ، وتَرَكَنا على المحجّة البَيضاء، ليلُها كنهارها، لاَ يزيغ عنها إلاَّ هالِك، فصلوات الله وسلامه عَليه، وعلى آلهِ الطيِّبين الطَّاهِرين، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامِين، وعلى التَّابعين ومَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين. أمّا بعد: فأوصِيكم ـ أيّهَا النّاس ـ ونفسي بتقوَى الله سبحانَه والعَضِّ عليهَا بالنواجذ إبَّانَ هذه الفتن العمياء، وعَلَيكم بالاستقامةِ عَلَى دِينِه والثباتِ عَلَيه للنَّجاةِ مِن أيِّ دَاهيةٍ دَهياء، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2، 3]. أيّها النّاس، إنَّ حاجَةَ المرءِ في هذهِ الحياةِ تَؤُزُّه إِلى الخَوضِ في غمارِها أزًّا ويُدَعَّى إلى مخالطةِ بَني جِنسِه دَعًّا، وإنه كَادِحٌ إلى ربِّه كَدحًا فمُلاقيه، ثمَّ هو خِلال ذَلك كلِّه إمّا أن يتذوَّق حُلوَ الحياة فيَهنَأ فيها أو أن يُلسَعَ بلهيبِ مُرِّها فيَتَكدِّر وهو يَتَجرّعها ولا يَكَاد يُسيغُها، غيرَ أنَّه يستجلِب المراغمَةَ والمصابَرَةَ بخَيلِه ورَجِلِه، وهو مع هذه المُراغَمَةِ في نَوَاحي الحياة خيرٌ ممَّن زَوَى نفسَه وقضَى عَلَيهَا بالعزلةِ في زاويةٍ ضيِّقَة خَسِيسَةٍ لا يَرَى فيها إلا نَفسَه؛ لينأى بها عن مُكابَدةِ الحياة ومُخالطةِ أهلِها، وقد قال النَّبيُّ : ((المؤمنُ الذي يخالِط الناسَ ويَصبر على أذاهم خيرٌ من الّذي لا يخالط الناسَ ولا يصبر على أذاهم)) رواه أحمد. وفي خِضَمّ مُنافَسةِ هذهِ الحياةِ وضُروبها يجِدُ المرءُ نَفسَه بالضَّرورةِ مُحاطًا بالنّاس في غيرِ ما سَبِيل؛ في بيتِه وسوقِه وعمَله، وهَيهاتَ هيهاتَ أَن تكونَ سِماتُ المخالِطين لَه على حدٍّ سَواء، بل إنهم سَيمثُلون أمامَه على ثلاثةِ أصنافٍ: صِنفٌ مادِح له، وَصِنفٌ قادِح لَه، وصِنفٌ ناصِح لَه، وخَيرُ هذه الثلاثةِ آخِرُها. أمّا المَدحُ ـ عبادَ الله ـ فهوَ سِلاحٌ خطيرٌ ومحَكٌّ دقيق في عِفَّة اللِّسانِ وحُسنِ القَصد، وغالبًا ما يؤَدِّي بالممدوحِ إلى الغُرور والبَطَر، وبالمادِح إلى المبالَغةِ والتّصنُّع والإغراءِ والنِّفاقِ؛ لأنَّ مَن نظَر إلى صاحِبِه بعينِ الرضا في كلّ شيءٍ كلَّت عينه عن عُيوبِه، ولربَّما اشتدَّ الإفراطُ به في المدحِ حتى يُصبِح سُلَّمًا للمَادِح عند الممدوح لبلوغِ مَأربٍ دُنيويّ، فيكثُر مَدحُه ويَقِلّ صِدقُه ويحسُن لِسانُه ويخيبُ قلبُه، أو يمادِح صِنوَه طلَبًا للودِّ ظاهِرًا وسِهامُه تَنطلِق غَيظًا إذا غَابَ عنه. والمحزِنُ ـ عباد الله ـ أنَّ الناسَ مِن هذا الصِّنف ليسوا قلِيلاً، دَيدَنُ الواحِدِ منهم المدحُ والإطراءُ بحقٍّ وبغيرِ حَقّ، لهم وَلَعٌ بالإغرَاءِ وبقَلب السَّيِّئات حَسَناتٍ، يحمِل أحدُهم عن الممدوحِ القَبَائحَ ويحسِّن لَه الأخطاءَ ويسوِّغُ لَه الحقَّ باطِلاً والبَاطلَ حقًّا، حتى يألَفَ الممدوحُ ذلِك، فيغيبُ وعيُه عن حقيقةِ نفسِه، ويتَعاظَم عَن عيبِ ذاته؛ ثُمَّتَ يدمِن الثناءَ والإطراءَ حتى يواليَ ويُعاديَ على ذَلك؛ فصديقُه الحمِيم هو المادِح، وعدوُّه اللّدودُ هو المكاشِف الصَّادق. ثمّ إنّه بذيوعِ مثلِ ذَلكم يكثُر الغشُّ وتضيعُ الحقوقُ وتَذوب ثقة المرءِ بنفسِه وتضمحِلّ منفعتُه ويضمُر إخلاصه، فلا ينبِض قلبُه إلا بالمَدح، ولا يتنفَّس إلا بالمَدح، ولا يجالِس إلاّ المدّاحين، وحينئذٍ لن يكونَ للعقَلاء عندَه محلٌّ للاستِشارةِ، ولا للمُخلِصين طريقٌ للاستنارة؛ حيث ذهب به حبُّ المدح والإطراءِ كلَّ مذهب، فصدَّه عن استبصارِ المصلحةِ والنفع المَعلوم. ولذا ـ عبادَ الله ـ لم يأتِ المدحُ والإطراءُ في وَجهِ الممدُوح مذمومًا على هَذهِ الصفة إلاّ لما يُفضي إليه من الغرورِ والإعجَابِ القاضِيَينِ بِالبعدِ عن الأصلَح وتَضيِيعِ الأنفع وكسرِ الهِمَم عن بلوغِ المعالي، فقد سمِع النبيُّ رجلاً يمدَحُ صاحبَه أَمامَه فقالَ : ((ويحَك، قطعتَ عُنُقَ صاحِبِك)) رواه البخاري ومسلم، وقال : ((إذا رأيتُم المدَّاحين فاحثُوا في وجوهِهم التّرابَ)) رواه مسلم، وقال : ((إيّاكم والتّمادُحَ؛ فإنّه الذَّبحُ)) رواه أحمد وابن ماجه. وهذا كلُّه ـ عِبادَ الله ـ لا يمنَع إعطاءَ كلِّ ذي حقٍّ حقَّه وإنزالَ الأمورِ منازلَها من خِلال الشّكرِ للمحسِن حَقِيقةً والتَّشجيعِ لصاحبِ الهِمّةِ بالثناء المنصفِ المعتَدِل؛ لأنَّ ذلكم خُلُقٌ من أخلاقِ الإسلامِ الرَّفيعة، ومن لا يشكرُ الناسَ لا يَشكُر الله، وقد أثنى النَّبيّ في وجوهِ عَددٍ من الصحابة على وجهِ الحقيقةِ والقَصدِ مع أمنِ الافتتانِ والغرورِ. والحذَرَ الحذَر ـ عبادَ الله ـ مِن حُبِّ المَرءِ أن يُمدَح بما لَيس فيه أَو بما لم يَفعَله، فَقَد قالَ جلّ شأنه: لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنْ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران: 188]. أمّا الصِّنفُ الثاني ـ عبادَ الله ـ فهو ذَلكم الرّجلُ القَادِح المنطَلِقُ قَدحُه مِن خِسَّة طبعِه ولُؤم نَفسِه وقَذارةِ لِسانه، فهوَ لاَ يُرَى إلاّ طعَّانًا لَعّانًا فَاحِشًا بَذيئًا، لِسانُه كَمَا الذّباب لاَ يقَع إلاّ عَلى الأَذَى، لا يَعرِف طريقًا إلى الإنصافِ، ويعذِّبه السُّكوتُ، لسانُه كالعَقرَبِ وقَلَمُه كالعَقور، يَقرِض الأعراضَ، ويَتَطَاوَل عَلَى الكِرام واللِّئامِ على حدٍّ سواء، لاَ يُعجِبه فعلُ أحَد، ولا يستسيغ الإنصافَ، يُدمِن النَّقدَ، ويكنِز العَدلَ، ويُنفِق القدحَ، يحبّ أن يخالِفَ ليذكَر، وأن يُبَلبِل ليُشكَر، يتَقَحَّم في الغَمَرات والمزلاَّت والخوضِ في الكلامِ عَلى غير هُدى، وربما لا تَلَذُّ نفسُه إلا حِين يَكون قدحُه ذائعًا في الملأ شائِعًا بين الأصحاب، يرَى الناس كلَّهم خطّائين وأنّه هو المصيبُ وحدَه، إن تحدَّث عن الماضِي فكأنه مطَّلِعٌ عن الخَبايا، وإن تحدَّث عن المستَقبَل فكأنّه حديثُ مَن سَيرى ويَسمَع، يرى نفسَه فقيهًا وحاكمًا وطبيبًا ومهندسًا ومعلِّمًا، لا يُعجِبه العَجَب، ولا تتوق نفسُه لحُسنِ الأدَب، وإنما يَلوكُ لسانَه فيغتابُ ويَبهتُ، جاعِلاً لسانَه كالمِقراض، يقلَع هنا ويجرح هناك، فلِلَّه ما أشبهَ حالَه بِلاحِسِ المبرَد؛ كلّما ازداد لَحسُه ازدَادَ دمُه على المِبرد. وأمثالُ هؤلاء آفةٌ عَلى المجتمعاتِ، وهم شِرار الخَلق الّذين قال عَنهم النَّبيُّ : ((إنَّ شرَّ النَّاس منزلةً عند الله يومَ القيامةِ من تَركَه النَّاسُ اتِّقاءَ فُحشِه)) رواه أبو داودَ والترمذيّ، وفي الصّحيح قولُ النَّبيِّ : ((المسلمُ من سَلِم المسلِمون من لِسانه ويدِه)). ثم إنّه قد يَشتدّ الأمرُ بلاءً إذا كان القَدح مُصوَّبًا في نحورِ ذَوي الهيئاتِ والمكانة الرفيعةِ كالسُّلطان والعالِم؛ حيث إنَّ لهما من الإجلال والتقديرِ ما يقبُح مَعَه التشهيرُ بهما أو التَّعيِير لهما، يقول ابن عبدِ البرّ رحمه الله: "أحقُّ الناسِ بالإجلال ثلاثةٌ: العُلماءُ والإخوان والسّلطان، فمَن استخفَّ بالعلماء أفسَد مُروءتَه، ومن استَخَفَّ بالسلطان أفسَد دُنياه، والعاقلُ لا يستخِفّ بأحد". وممّا يزيد الأمرَ تأكيدًا وتَوثيقًا ـ عبادَ الله ـ حينما يكون الخوضُ فيما قالَ الله أو قَالَ رسولُه ، فلَيسَ ذلك إلاّ للعُلماء، فهم وَرَثة الأنبياء ومَصابيحُ الدُّجى؛ ولذَلِك قال سفيانُ الثوريُّ رحمه الله: "ما كُفِيتَ عن المسألةِ والفُتيا فاغتَنِم ذلك ولا تُنافِس، وإيّاك أن تكونَ ممّن يحبُّ أن يُعمَل بقوله أو يُنشَر قوله أو يُسمَع قولُه، وإيّاك وحبَّ الشهرةِ؛ فإنَّ الرجلَ يكون حبُّ الشهرة أحبَّ إليه من الذّهبِ والفضّة، وهو بابٌ غامِض لا يبصِره إلا العلماءُ السّماسِرة". وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء: 36]. بارَكَ الله لي ولَكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسِي والشيطان، وأستغفِر الله إنّه هو كان غفّارًا. |