أيها المسلمون: الذكر منشور الولاية، الذي من أعطيه اتصل، ومن منعه عزل، وهو قوت قلوب القوم، الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبوراً، وعمارة ديارهم التي إذا تعطلت عنها صارت بوراً. وهو منزل القوم الذي منه يتزودون وفيه يتجرون، وإليه دائماً يترددون، وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق، وماؤهم الذي يطفئون به التهاب الطريق، ودواء أسقامهم التي متى فارقهم انتكست منهم القلوب، والسبب الواصل والعلاقة التي كانت بينهم وبين علام الغيوب. إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحياناً فننتكس به يستدفعون الآفات. ويستكشفون الكربات. وتهون عليهم به المصيبات. إذا أظلهم البلاء فإليه ملجؤهم. وإذا نزلت بهم النوازل فإليه مفزعهم. فهو رياض جنتهم التي فيها يتقلبون. ورؤوس أموال سعادتهم التي بها يتجرون. يدع القلب الحزين ضاحكاً مسروراً ويوصل الذاكر إلى المذكور بل يدع الذكر مذكوراً. وفي كل جارحة من الجوارح عبودية مؤقتة والذكر عبودية القلب واللسان وهي غير مؤقتة. بل هم يؤمرون بذكر معبودهم ومحبوبهم في كل حال. قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، فكما أن الجنة قيعان وهو غراسها، فكذلك القلوب بور خراب، وهو عمارتها وأساسها، وهو جلاء القلوب وصقالها. ودواؤها إذا غشيها اعتلالها. وكلما ازداد الذاكر في ذكره استغراقاً ازداد المذكور محبة إلى لقائه واشتياقاً. وإذا واطأ في ذكره قلبه لسانه نسي في جنب ذكره كل شيء. وحفظ الله عليه كل شيء. وكان له عوضاً من كل شيء. زين الله بالذكر ألسنة الذاكرين كما زين بالنور أبصار الناظرين، وفي القلب خلة وفاقة لا يسدها شيء البتة إلا ذكر الله عز وجل، فإذا صار الذكر شعار القلب. بحيث يكون هو الذاكر بطريق الأصالة واللسان تبعاً له. فهذا هو الذكر الذي يسد الخلة ويغني الفاقة. عباد الله: العلاقة بين العبد وربه ليست محصورة في ساعة مناجاة في الصباح. أو في المساء فحسب. ثم ينطلق المرء بعدها في أرجاء الدنيا غافلاً لا هياً. يفعل ما يريد دون قيد ولا حَكم، كلا. هذا تدين مغشوش. العلاقة الحقة. أن يذكر المرء ربه حيثما كان. وأن يكون هذا الذكر مقيداً مسالكه بالأوامر والنواهي ومشعراً الإنسان بضعفه البشري ومعيناً له على اللجوء إلى خالقه في كل ما يعتريه. لقد حث الدين الحنيف على أن يتصل المسلم بربه ليحيا ضميره. وتزكو نفسه. ويتطهر قلبه، ويستمد منه العون والتوفيق، ولأجل هذا جاء في محكم التنزيل والسنة النبوية المطهرة ما يدعو إلى الإكثار من ذكر الله عز وجل على كل حال. فقال عز وجل: ٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً o وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الأحزاب:41-42]. وقال سبحانه: ٱلذكِـرِينَ ٱللَّهَ كَثِيراً وَٱلذكِرٰتِ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الأحزاب:35]. وقال جل اسمه: وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]. وقال جل شأنه: فَٱذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]. قال ابن القيم رحمه الله: ولو لم يكن في الذكر إلا هذه وحدها، لكفى بها فضلاً وشرفاً. وقال صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى: ((من ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم)). عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أفضل الذكر: لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء: الحمد لله)). عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقكم ويضربوا أعناقكم؟)) قالوا: بلى، قال: ((ذكر الله تعالى)). قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: (ما من شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله) وقد صحح بعض العلماء هذا الأثر مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، أن امرأة من الأنصار. قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ألا أجعل لك شيئاً تقعد عليه؟ فإن لي غلاماً نجاراً. قال: ((إن شئت)) فعملت له المنبر، فلما كان يوم الجمعة قعد النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر الذي صنع. فصاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت أن تنشق، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم حتى أخذها فضمها إليه. فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكت حتى استقرت. قال: ((بكت على ما كانت تسمع من الذكر)). وقد كان إمامكم العظيم صلى الله عليه وسلم يذكر الله في كل أحيانه، لا يفتر لسانه من الذكر، فكان للجمادات معه هذا النبأ العجيب، وكان الحسن البصري رحمه الله إذا روى هذا الحديث يبكي ويقول: يا عباد الله الخشبة تحن إلى رسول الله، فأنتم عباد الله أحق أن تشتاقوا إليه. عن عبدالله بن بسر رضي الله عنه. أن رجلاً قال: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأخبرني بشيء أتشبث به. فقال: ((لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله)). عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة لا يرد الله دعاءهم: الذاكر الله كثيراً، ودعوة المظلوم، والإمام المقسط)). وعن معاذ بن جبل قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل؟ قال: ((أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله عز وجل)). عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة فمر على جبل يقال له جمدان. فقال: ((سيروا هذا جمدان)) (سبق المفردون) قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: ((الذاكرين الله كثيراً والذاكرات)). يا أهل الإيمان أين علاة الهمم. عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأن أقعد مع قوم يذكرون الله منذ صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب ألي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل. ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله منذ صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب ألي من أعتق أربعة)). وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره مثل الحي والميت)). وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لا يضرك بأيهن بدأت)). فكيف يضيع العاقل لحظات العمر والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قال سبحان الله وبحمده غرست له بها نخلة في الجنة)). وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لقيت إبراهيم ليلة أسري بي. فقال: يا محمد أقرئ أمتك مني السلام. وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خذوا جنتكم)) قالوا: يا رسول الله أمن عدو وحضر؟ قال: ((لا، ولكن جنتكم من النار. قولوا: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. فإنهن يأتين يوم القيامة معقبات مجنبات، وهن الباقيات الصالحات)). وعن سعد رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة؟ فسأله سائل من جلسائه: كيف يكسب أحدنا ألف حسنة؟ قال: يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة، أو يحط عنه ألف خطيئة)). وعن قيس بن سعد بن عبادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أدلك على باب من أبواب الجنة ؟ لا حول ولا قوة إلا بالله)). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكثر من: لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها من كنز الجنة)). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة. كانت له عدل عشر رقاب. وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة. وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي. ولم يأت أحد بأفضل مما جاء إلا رجل عمل أكثر منه)). هذه بعض فضائل الذكر، وقد تركنا الكثير والكثير والتوفيق بيد الله وحده. فحي هلا إن كنت ذا همة فقد حدا بك حادي الشوق فاطوي المراحلا عن معاذ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وقال: ((يا معاذ والله إني لأحبك [والله إني لأحبك]. فقال: أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)). فاللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك والحمد لله رب العالمين. |