أما بعد: بينما الناس في غفلتهم راقدون, في غيهم سادرون, قد شغلتهم الدنيا وملذاتها, وألهتهم الأموال والمناصب, في زمن طغت فيه الحضارة والمدنية, فأغرت البشر لينساقوا خلفها لاهثين, قد تعلقت قلوبٌ بالشهوات وتربعت على كثير من العقول الشبهات... مع هذا وغيره كان لابد من وقفة تأمل ومراجعة وحديث حساب وتذكير, يرجع فيه المسلم لنفسه, يناقشها وينظر في صلاحها. وما أصيب القلب بداء أعظم من الغفلة عن أخراه, وإخلاد إلى الدنيا وحلاوتها المُرة, فتمر عليه الليالي والأيام وهو مريض لا يعلم أنه مريض, عليل لا يدري ما علته, بل ميت وإن نبض قلبه بروح الحياة, حتى يعلوه الران, وتسكن أرجاءه الظلمة, فيبدو في أعين الناس سعيدًا, والسعادة عنه بمعزل, مسرورًا وقد عان الحزن في حياته, تعلو محياه الضحكات والبسمات, وقلبه يتفطر حرقة وألمًا, ويتقطع همًا وغمًا, فللقلوب صدأ لا يجلوه إلا ذكر الله, ولها أقفال مفتاحها لهج اللسان بحمده, وإدامة العبد لشكره, فالذكر جنة الله في أرضه, من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة, وهو إنقاذ للنفس من أوصابها وأتعابها, بل هو طريق ميّسر مختصر إلى كل فوز وفلاح, طالع دواوين الوحي لترى فوائد الذكر, وجرب مع الأيام بلسمه لتنال الشفاء. إذا مرضنا تداوينا بذكركمُ ونترك الذكر أحيانًا فننتكس بذكره سبحانه تنقشع سحب الخوف, والفزع, والهم والحزن, بذكره تنزاح جبال الكرب والغم والأسى. ولا عجب أن يرتاح الذاكرون, ولكن العجب العجاب كيف يعيش الغافلون الساهون عن ذكره أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون [النحل: 21]. قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في مدارج السالكين: "والذكر منشور الولاية الذي من أعطيه اتصل, ومن مُنعه عُزل, وهو قوت قلوب القوم الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبورًا, وعمارة ديارهم التي إذا تعطلت عنه صارت بورًا, وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق, وماؤهم الذي يطفئون به نار الحريق, ودواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست منهم القلوب, والسبب الواصل والعلاقة التي كانت بينهم وبين علاّم الغيوب هو رياض جنتهم التي فيها يتقلبون. يدع القلب الحزين ضاحكًا مسرورًا, ويوصل الذاكر إلى المذكور، بل يدع الذاكر مذكورًا, به يزول الوقر عن الأسماع, والبكم عن الألسن, وتنقشع الظلمة عن الأبصار, زين الله به ألسنة الذاكرين, كما زين بالنور أبصار المبصرين, فاللسان الغافل كالعين العمياء, والأذن الصماء, واليد الشلاء, وهو باب الله الأعظم المفتوح بينه وبين عبده, ما لم يغلقه العبد بغفلته, ولقد امتدح الله عباده المؤمنين أولو العقول والألباب إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لأيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار [آل عمران: 190 ـ 191]. وهم أصحاب القلوب الرقيقة الرحيمة فلهم شهادة الله بالإيمان الحق إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقًا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم [الأنفال: 2 ـ 4]. أخرج مالك في الموطأ والترمذي والحاكم وصححه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال النبي : ((ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم, وأرفعها في درجاتكم, وخير لكم من إنفاق الذهب والوِرق, وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟)) قالوا: بلى, قال: ((ذكر الله تعالى)) [1]. آه, ما أشد الغفلة والإعراض عن خير العمل, وأزكاه عند الرب, وأرفعه في الدرجات وخير من إنفاق الذهب والفضة, بل وخير من الجهاد في سبيل الله, إنها الخسارة العظيمة, والغبن والهزيمة يوم يَحرم المرء نفسه هذا الفضل العظيم. أخرج الترمذي والحاكم وصححه, ووافقه الذهبي عن عبد الله بن بُسر رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله, إن شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ، فأخبرني بشيء أتشبث به قال: ((لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله)) [2]. قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: "الذكر للقلب مثل الماء للسمك, فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء". وللذكر فوائد عظيمة, يضيق المقام عن إحصائها, بل يعجز العقل عن إدراكها, ولكن حسبنا شيئًا من ثماره, وفوائده كما عدّها ابن القيم في الوابل الصيب: منها: أنه يورث الذاكر القرب من الله, فعلى قدر ذكره لله عز وجل يكون قربه منه. أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي, وأنا معه حين يذكرني, إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي, وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم, وإن تقرب مني شبرًا تقربت إليه ذراعًا, وإن تقرب إلي ذراعًا تقربت منه باعًا, وإن أتاني يمشي أتيته هروله)) [3]. ومنها: أنه يورثه حياة القلب وهو قوته, فإذا فقده العبد صار بمنزلة الجسم إذا حيل بينه وبين قوته. روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي : ((مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت)) [4]. ومن فوائده أنه مع البكاء في الخلوة سبب لإظلال الله تعالى العبد يوم الحر الأكبر في ظل عرشه. فعن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي قال: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) وذكر منهم: ((ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه)) [5]. ومنها: أن دوام ذكر الرب تبارك وتعالى يوجب الأمان من نسيانه الذي هو سبب شقاء العبد في معاشه ومعاده, قال تعالى: ومن أعرض عن ذكري فإنه له معيشة ضنكًا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرًا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى . ومنها: أنه لما كان الذكر متيسرًا للعبد في جميع الأوقات والأحوال, فإن الذاكر وهو مستلقٍ على فراشه يسبق في الفضل والخير القائم الغافل. روى البخاري في صحيحه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من تعارَّ من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وهو على كل شيء قدير, وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر, ولا حول ولا قوة إلا بالله, ثم قال: "رب اغفر لي" أو قال: "ثم دعا استجيب له, فإن عزم فتوضأ, ثم صلى قبلت صلاته)) [6]. ومنها: أن الله يباهي بالذاكرين ملائكته. أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج معاوية على حلقة في المسجد, فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله. قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك. قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم, وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله أقل عنه حديثًا مني, وإن رسول الله خرج على حلقة من أصحابه فقال: ((ما أجلسكم؟)) قالوا: جلسنا نذكر الله, ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنَّ به علينا. قال: ((آلله ما أجلسكم إلا ذاك)) قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك, قال: ((أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم, ولكنه أتاني جبريل, فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة)) [7]. ومنها: أنه سبب تنزيل السكينة, وغشيان الرحمة, وحفوف الملائكة بحلقات الذكر, ومجالس الذكر مجالس الملائكة, ومجالس اللغو والغفلة مجالس الشياطين, فليتخير العبد أعجبهما إليه وأولاهما به, فهو مع أهله في الدنيا والآخرة. روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أنهما شهدا على النبي عليه السلام أنه قال: ((لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة, وغشيتهم الرحمة, ونزلت عليهم السكينة, وذكرهم الله فيمن عنده)) [8]. ومنها: أنه يورثه المراقبة حتى يدخله باب الإحسان, فيعبد الله كأنه يراه, ولا سبيل للغافل عن الذكر إلى مقام الإحسان, كما لا سبيل للقاعد في الوصول إلى البيت. ومنها: أنه يورثه الهيبة لربه عز وجل وإجلاله لشدة استيلائه على قلبه, وحضوره مع الله تعالى بخلاف الغافل, فإن حجاب الهيبة رقيق في قلبه. والواقع يشهد من خلال تجرأ العباد على معصية الله, بل والمجاهرة بها على رؤوس الأشهاد. ومنها: أن الذاكرون هم السابقون يوم القيامة. روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله يسير في طريق مكة, فمر على جبل يقال له جمدان فقال: ((سيروا, هذا جمدان, سبق المفردون)) قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: ((الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات)) [9]. قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إن الجبل لينادي الجبل باسمه, يا فلان هل مربك أحدٌ ذكر الله عز وجل, فإذا قال نعم: استبشر). ومنها: أنه يحط الخطايا ويذهبها. روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب, وكتبت له مائة حسنة, ومحيت عنه مائة سيئة, وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي, ولم يأتِ أحدٌ أفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك, ومن قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه, ولو كانت مثل زبد البحر)) [10]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم, ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين نبينا محمد, صلى الله وسلم عليه وآله وصحبه أجمعين.
[1] رواه الترمذي ح (3377)، وابن ماجه ح (3790)، الموطأ ح (490) وأحمد ح (22195). [2] رواه الترمذي ح (3375) وابن ماجه ح (3793) وأحمد ح (17227). [3] رواه البخاري ح (7405)، ومسلم ح (2675). [4] رواه البخاري ح 6407)، ومسلم ح (779). [5] رواه البخاري ح (660)، ومسلم ح (1031). [6] رواه البخاري ح (1154). [7] رواه مسلم ح (2701). [8] رواه مسلم ح (2700). [9] رواه مسلم ح (2676). [10] رواه مسلم ح (2691). |