أما بعد: فإن الله تبارك وتعالى ضرب للدنيا مثلاً كرره في أربعة مواضع من كتابه العزيز: في الآية الرابعة والعشرين من سورة يونس، وفي الآية الخامسة والأربعين من سورة الكهف، والآية الحادية والعشرين من سورة الزمر، والآية العشرين من سورة الحديد، كلها تحكي معنىً واحداً تدور حوله وتشتمل عليه، تمثل الدنيا بمثال لا يكاد يتغير في الآيات. وأختار من هذه المواضع الموضع الذي في سورة الكهف لأتكلم عليه في خطبة اليوم مُتبعاً إياه بمثال من الأمثلة التي ضربها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ثم أختم ذلك بالمثال الثامن عشر من الأمثلة التي ذكرها ابن القيم – رحمه الله – كذلك للدنيا في كتابه: "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين". يقول الله تبارك وتعالى في سورة الكهف: واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراً . يقول الله تعالى لنبيه أصلاً ولمن قام بوراثته من بعده تبعاً، أي لمن تعلم العلم الذي جاء به يقول تعالى: واضرب للناس مثل الحياة الدنيا ليتصوروها حق التصور ويعرفوا ظاهرها وباطنها، فيقيسوا بينهما وبين الدار الباقية ويؤثروا أيهما أولى بالإيثار، وإن مثل هذه الحياة الدنيا كمثل المطر الذي ينزل على الأرض فيختلط بنباتها وتنبت من كل زوج بهيج، فبينما زخرفها وزهرتها تسر الناظرين وتفرح المتفرجين وتأخذ بعيون المتفرجين إذ أصبحت هشيماً تذروه الرياح فذهب ذلك النبات الناضر والزهر الزاهر والمنظر البهي فأصبحت الأرض غبراء تراباً قد انحرف عنها النظر وصدف عنها البصر وأوحش القلب. كذلك هذه الدنيا بينما صاحبها قد أعجب بشبابه وفاق فيها على أترابه وأقرانه وحصّل درهمها ودينارها واقتطف من لذته أزهارها وخاض في الشهوات جميع أوقاته، وظن أنه لا يزال فيها سائر أيامه، إذ أصابه الموت أو التلف لماله، فذهب عنه سروره وذهبت لذته وحبوره واستوحش قلبه من الآلام وفارقه شبابه وقوته وماله، وانفرد بصالح أو سيء أعماله، هنالك يعض الظالم على يديه حين يعلم حقيقة ما هو عليه، ويتمنى العودة إلى الدنيا لا ليستكمل الشهوات بل ليستدرك ما وقع منه من الغفلات بالتوبة والأعمال الصالحات. وهيهات هيهات، فالعاقل الحازم الموفق يعرض على نفسه هذه الحالة ويقول لنفسه: قدّري أنك قد مُتِّ ولابد أن تموتي، فأي الحالتين تختارين، الاغترار بالزخرف في هذه الدار والتمتع بها كتمتع الأنعام السارحة، أم العمل لدار أكلها دائم وظلها ظليل، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، فبهذا يعرف توفيق العبد من خذلانه وخسرانه. وأما المثال النبوي الكريم الذي اخترته من بين الأمثلة الكثيرة التي جاءت بها السنة المطهرة للدنيا فهو المقال الذي جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم – رحمه الله تعالى – في صحيحه. عن المستورد بن شداد عن النبي قال: ((والله ما الدنيا في الأخرى إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليمّ – أي البحر – فلينظر بم يرجع)). فتأمل وانظر إلى المقال العظيم كيف شبّه الآخرة بماء البحر الكثير الهائل العظيم. وشبه الدنيا بقطرة من مائه، والعاقل لا يعدل عن الماء الكثير الهائل العظيم إلى قطرة حسبها أن تعلق بالإصبع. فهذا قدر الدنيا في الآخرة، هي بالنسبة للآخرة كقطرة من بحر عظيم هائل. وأما المقال الذي ذكره ابن القيم – رحمه الله تعلى – في كتابه: "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين". فإنه المقال الثامن عشر من بين الأمثلة الاثنين والعشرين التي ذكرها في هذا الكتاب الجليل، وقال عن هذا المقال: إنه من أحسن هذه الأمثلة – أي الأمثلة التي ذكرت – سواءً المعدودة منها أو التي لم تعد. قال رحمه الله تعالى ممثلاً للدنيا والآخرة: ملكٌ بنى داراً لم ير الراؤون مثلها، ولم يسمع السامعون أوسع ولا أجمع لكل ملاذّ النفوس منها. ونصب لها طريقاً – أي نصب لهذه الدار العظيمة الجميلة البهية طريقاً – وبعث داعياً يدعو الناس إليها، هذا طبعاً مثل الآخرة، والداعي هو كل رسول يرسله الله تبارك وتعالى إلى أمته ليدعوهم إلى هذه الدار العظيمة، وبعث داعياً يدعو الناس إليها، وأقعد على الطريق امرأة جميلة (هذا مثال الدنيا) وأقعد على الطريق امرأة جميلة قد زُينت بكل أنواع الزينة وألبست أنواع الحلي والحلل، وممر الناس كلهم عليها. وجعل لها أعواناً وخدماً تحت يديها، وبيدي أعوانها زاداً للمارين السائرين إلى الملك في تلك الطريق. فقال لها ولأعوانها: من غض طرفه عنك ولم يشتغل بك عنّي وابتغى منكِ زاداً يوصله إليّ فاخدميه وزوّديه ولا تعيقيه عن سفره إليّ، بل أعينيه بكل ما يبلّغه في سفره، ومن مدّ إليك عينيه ورضي بك وآثرك عليّ وطلب وصالك فسوميه سوء العذاب. وأذليه غاية الهوان واستخدميه، واجعليه يركض خلفك ركض الوحش، وما يأكل منكِ فاخدعيه بك قليلاً ثم استرديه منه واسلبيه منه كله، وسلّطي عليه أعوانك وعبيدك، وكلما بالغ في محبتك وتعظيمك وإكرامك فقابليه بأمثاله إهانةً وهجراً حتى تتقطع نفسه عليك حسرات. ثم قال رحمه الله بعد سوق هذا المثال: فتأمل هذا المقال وحال خُطّاب الدنيا وخُطّاب الآخرة الله المستعان. فأقول بعد هذه الأمثلة المضروبة في الدنيا: الناس على أقسام: - فمنهم من يعيش فيها يكسب ويمشي في مناكب الأرض ويبتغي من رزق الله ليقوم بحق بدنه دونما التفات إلى حق روحه. - ومنهم من يسعى ويكسب لمجرد الكسب وإن كان يقوم بطاعة الله من غير تركيز ومن غير إمعان ومن غير تأمل ونظر، لكنه يعتني بالكسب والتزود منه لا لأنه لا يكفيه، لا بل يكون عنده ما يكفيه وزيادة ولكنه لا يقنع بما عنده. فهو في سعي وكسب دائمين حتى وإن حصّل ما يكفيه إلى يوم القيامة.إنه لا يقنع بما عنده. - ومنهم من يكسب لينافس غيره في الدنيا، يريد العلو فيها والمفاخرة لأهلها ومباهاتهم فقط غير ناظر إلى ما أوجب الله عليه في هذه المال، وغير قائم بما أوجب الله عليه من طاعته سبحانه. وخير هذه الأقسام: من يسعى ويكسب ويمشي في هذه الأرض ويأكل من رزق الله مستعيناً بذلك على طاعة الله عز وجل، نائياً بنفسه عن الأسباب التي توبقه في العذاب والشقاء والنكال، جاعلاً ذلك كله بلاغاً إلى الآخرة وإلى دار النعيم، دار البقاء والخلود والفوز. وهذا هو خير الأقسام لأنه يعرف أن الناس في الآخرة على حالين: فريق في الجنة وفريق في السعير . كما قال تعالى في سورة الشورى، وكما قال السحرة لفرعون في سورة طه: إنه من يأت ربه مجرماً فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى . أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.. |