أما بعد: إن الاعتناء بالنشء واجبٌ على المسئولين عنهم سواء كانوا الوالدين أو العلماء والدعاة في المساجد وغيرها أو المعلمين في المدارس وغيرهم. وإن تركهم يرتعون ويلعبون من غير توجيه إلى الخير وإرشاد لما يصلحهم وتعليم لما ينفعهم جريمة في حقهم ومساهمة في مزيد من معاناة المجتمع من الفساد في شتى المجالات. وقد اعتنى ديننا الإسلامي الحنيف بهذا الأمر غاية الاعتناء، فتعالوا لنسمع كيف كان النبي يعلم الصغار مراقبة الله تعالى وتقواه في السر والعلانية مخالفاً لكثير من المنتسبين إلى الإسلام في هذه الأيام الذين يعترضون على تعاهد الصغار بالتوجيهات الشرعية ويشمئزون من ذلك قائلين: لم يزل الولد بعد صغيراً. فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوماً فقال: ((يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف. تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً)) [رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح]. وفي رواية غير الترمذي: ((احفظ الله تجده أمامك)). ورواه أحمد أيضاً ولفظ حديثه: ((يا غلام أو يا غليم أعلمك كلمات ينفعك الله بهم؟ فقلت: بلى، فقال: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، قد جف القلم بما هو كائن، فلو أن الخلق كلهم جميعاً أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يقضه الله لم يقدروا عليه، وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه، واعلم أن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً)). وقد تضمن هذا الحديث وصايا عظيمةً وقواعد كلية في أهم الأمور، لذلك سوف أفرد كل وصية منها بخطبة خاصة وليس هذا بكثير على حديث اشتمل على كل هذه الوصايا العظيمة والقواعد الكلية حتى قال بعض العلماء :تدبرتُ هذا الحديث فأدهشني وكدت أطيش، فواأسفا من الجهل بهذا الحديث وقلة التفهم لمعناه. وأول وصية أوصى بها النبي في هذا الحديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي كان غلاماً إذ ذاك هي قوله: ((احفظ الله يحفظك)) وهي التي سنستغرق فيها هذه الخطبة. وقوله عليه الصلاة والسلام: ((احفظ الله)) أي احفظ حقوقه وحدوده وأوامره ونواهيه، وحفظ ذك هو الوقوف عند أوامره بالامتثال، ونواهيه بالاجتناب، وحدوده بعدم التجاوز، فلا يتجاوز العبد ما أمره الله وأذن له فيه إلى ما نهاه عنه، فمن فعل ذلك فهو من الحافظين لحدود الله الذين مدحهم الله تعالى بقوله سبحانه في سورة ق: هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب وفُسّر الحفيظ في هذه الآية الذي وعد بالجنة وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ ، الحفيظ الذي أزلفت له الجنة وقُربت، فسر في هذه الآية: بالحافظ لأوامر الله وبالحافظ لذنوبه ليتوب منها. ومن أعظم ما يجب حفظه من أوامر الله تعالى: الصلاة وقد أمر الله بذلك في سورة البقرة فقال: حافظوا على الصلاة والصلاة الوسطى، ومدح سبحانه والمحافظين عليها بقوله في سورة المؤمنون: والذين هم على صلواتهم يحافظون . وكذلك الطهارة: فإنها مفتاح الصلاة وقد أخرج ابن ماجه عن ثوبان وأحمد الطبراني والدارمي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهم - والحديث صحيح - عن النبي قال في حق الطهارة: ((ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)). ومما يجب حفظه أيضاً الأيمان وقد أمر الله بحفظها فقال في سورة المائدة: واحفظوا أيمانكم فإن الأيمان يقع الناس فيه كثيراً ويهمل كثير منهم ما يجب بها، فلا يحفظها ولا يلتزمها، ولا أدل على ذلك من الأسئلة الكثيرة التي توجه إلى المفتين في أيامنا هذه، وغالبها عن الأيمان. أيمان منعقدة، وأيمان معلقة، أيمان في حق أمور لا تفعل، وفي حق أمور تفعل، وفي حق طلاق، أكثر ما يعرض على المفتين في هذه الأيام أيمان. وكثير من الناس لا يلتزم ما يجب بهذه الأيمان فلا يحفظها ولا يلتزمها مع أن الله تعالى قال: واحفظوا أيمانكم . ومن ذلك أيضاً: حفظ الرأس والبطن كما جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود الذي خرّجه أحمد والترمذي عن النبي قال: ((الاستحياء من الله حق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، وتحفظ البطن وما حوى))، فحفظ الرأس وما وعى يتضمن حفظك السمع والبصر واللسان مع المحرمات، وحفظ البطن وما حوى يتضمن حفظ القلب عن الإصرار على ما حرم الله، وقد قال تعالى في سورة البقرة: واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه . وحفظ البطن أيضاً يتضمن حفظها من إدخال الحرام إليها من المآكل والمشارب، وقد جمع الله تعالى ذلك كله في سورة الإسراء: إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً . ومن أعظم ما يجب حفظه من نواهي الله عز وجل اللسان والفرج، فقد أخرج البخاري عن سهل بن سعد : عن النبي قال: ((من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)) يعني: من يضمن لي صيانة لسانه وفرجه عما حرم الله أضمن له الجنة. وللحاكم عن أبي هريرة عن النبي قال: ((من حفظ ما بين لحييه وما بين رجليه دخل الجنة)) ولأحمد عن أبي موسى عن النبي : ((من حفظ ما بين فقميه (أي لحييه) وفرجه دخل الجنة)). وقد أمر الله تعالى بحفظ الفروج فقال في سورة النور: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ، ومدح الحافظين لها بقوله تعالى في سورة المعارج: والذين هم لفروجهم حافظون هذا عن قوله : ((احفظ الله)) باختصار، وإلا فما يمكن الحديث عنه بكلمة احفظ الله كثير ولكن اختصرت منه ما أمكن. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: ((يحفظك)) يعني: من حفظ حدود الله وراعى حقوقه حفظه الله تعالى، لأن الجزاء من جنس العمل. ((احفظ الله))، ما هو الجزاء؟ ((يحفظك)) وما أعظمه من جزاء، احفظ الله يحفظك، والجزاء من جنس العمل كما قال تعالى في سورة البقرة: فاذكروني أذكركم الجزاء من جنس العمل وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم أوفوا: أوفي، وقال تعالى في سورة القتال (محمد): إن تنصروا الله ينصركم . وحفظ الله تعالى لعبده يدخل فيه نوعان: حفظه تعالى له في مصالح دنياه كحفظه في بدنه وولده وماله وأهله كما قال تعالى في سورة الرعد: له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله أي: بأمر الله. للإنسان معقبات من بين يديه ومن خلفه، ملائكة يحفظونه بأمر الله، قال ابن عباس رضي الله عنهما: هم الملائكة يحفظونه بأمر الله فإذا جاء القدر خلّوا عنه، يحفظونه من الجن والإنس والهوام إلا إذا قدّر الله شيئاً خلّوا عنه لينزل القدر. وروى أحمد وأبو داود والنسائي عن عبد الله بن عمرو الحديث صحيح قال: لم يكن رسول الله يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي أهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي. ((احفظ الله يحفظك)) يحفظك في كل هذه الأمور المدعو بها؟ نعم، كما كان يدعو النبي ، ومن حفظ الله في صباه وقوته حفظه الله في حال كبره وضعفه ومتعه الله بسمعه وبصره وحوله وقوته وعقله. وقد يحفظ الله العبد بعد موته بصلاحه، في ذريته كما قيل في تفسير قوله تعالى في سورة الكهف: وكان أبوهما صالحاً إنهما حُفظا بصلاح أبيهما. وقال سعيد بن المسيب لابنه: لأزيدن في صلاتي من أجلك رجاء أن أُحفظ فيك. وتلا قوله تعالى: وكان أبوهما صالحاً . يزيد في صلاته من أجل ولده مع ما يحافظ من مراقبة الله في غير ذلك من الأمور، وعليه فمن أراد حفظ أبنائه من بعده فيلزمه مراقبته تعالى في كل الأمور، فلا ينبغي له أن يكون على حال تغضب الله وتسخطه أبداً، وعليه أن يستحضر قرب الله تعالى منه وإطلاعه عليه دائماً حتى إن كان آكلاً أو شارباً أو ضاحكاً أو غير ذلك. فلا يأكل ولا يشرب حراماً وبهذا يكون مراقباً لله، ولا يضحك من أحدٍ مستهزأً، بل يضحك من الأمور التي لا يؤذي بها أحداً ولا يرتكب بها حرام، وبهذا يكون مراقباً لله. ولا يضع شهوته في حرام ولا يسمع ولا يرى ولا يقول ما حرم الله إلى غير ذلك من الأحوال، وبهذا تكون المراقبة مع ما ينبغي له من استشعار معنى أسماء الله تعالى الخمسة، فمن أسمائه الحسنى: الرقيب – الحفيظ – العليم – السميع – البصير. فيعلم أن الله تعالى مراقب له مطلع عليه عليم سميع بصير به، ولا يفارقه هذا الاستشعار أبداً. يقول محمد بن المنكدر التابعي الجليل رحمه الله تعالى: إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده والدويرات التي حوله، فما يزالون في حفظ من الله وستر، ومتى كان العبد مشتغلاً بطاعة الله تعالى فإن الله يحفظه في تلك الحالة، فمن حفظ الله حفظه الله من كل أذى كما قال بعض السلف: من اتقى الله فقد حفظ نفسه ومن ضيّع تقواه فقد ضيّع نفسه، والله غني عنه. ومن عجيب حفظ الله تعالى لمن حفظه أنه يجعل الحيوانات المؤذية بالطبع حافظةً له من الأذى. كما جرى لسفينة، مولى النبي ، اسمه مهران، وسفينة لقبه، كما جاء عند الحاكم بسند صححه، وحسنه غيره أنه كان في سفر هو أصحابه وثقل عليهم المتاع فقال لمهران: ابسط ثوبك فحمل عليه من متاع الأصحاب فقال له: احمل فإنما أنت سفينة، فقال: فلو حملت يومئذ وقر بعير أو بعيرين أو ثلاثة إلى أعداد كثيرة من الإبل لحملتها، وقر: أي حمل وثقل، ببركة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فغلب عليه لقبه، اسمه مهران، وسفينة لقبه، والحديث عند الطبراني والحاكم وصححه الحاكم وأقره الذهبي. ماذا جرى لسفينة هذا؟ جاء أنه ركب البحر فانكسر بهم المركب فألقاه البحر إلى الساحل فصادف الأسد، فقال: أيها الأسد، أنا سفينة مولى رسول الله ، فدله الأسد على الطريق، قال: ثم همهم فظننت أنه يعني السلام. يعني بعد أن دله الأسد على الطريق سلم عليه مودعاً، هكذا يحفظ الله تبارك وتعالى من حفظه ولو كان من هذه الحيوانات المؤذية بالطبع، لقوله وهو الصادق المصدوق: ((احفظ الله يحفظك)). وعكس ذلك أيها الأخوة الكرام: إن من ضيّع الله ضيّعه الله فضاع بين خلقه حتى يدخل عليه الضرر والأذى ممن كان يرجو نفعه من أهله وغيرهم، كما قال بعض السلف: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق خادمي ودابتي. أسأل الله أن يجعلني وإياكم ممن يحفظون الله حتى يكونوا ممن يحفظهم الله تبارك وتعالى. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. |