عباد الله: نواصل معاً فهم الوصايا العظيمة التي أوصى بها النبي ابن عباس رضي الله عنهما، وقد انتهينا في الخطبتين الماضيتين من فهم قوله : ((احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك)) وفي رواية: ((أمامك)). تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واليوم نحن على موعد مع قوله في بقية الحديث: ((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله))، وهذه الوصية العظيمة منتزعة من قوله تعالى في سورة الفاتحة: إياك نعبد وإياك نستعين والتي قال العلماء فيها: إن خير الكتب جميعاً بما فيها القرآن ينحصر في هذه الآية من سورة الفاتحة: إياك نعبد وإياك نستعين . هذا هو المراد من كل ما نزل في الكتب السابقة ومن القرآن: ألا يعبد إلا الله وحده وألا يستعان إلا به وحده، وأما كون قوله : ((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله))، مثل قوله سبحانه: إياك نعبد وإياك نستعين فإن سؤال الله تعالى هو دعاؤه والرغبة إليه والدعاء هو العبادة. كما أخرج بذلك الإمام أحمد وأصحاب السنن بسند صحيح عن النعمان بن بشير عن النبي : ((الدعاء هو العبادة)) وقرأ : وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين . ونبدأ أولاً بقوله : ((إذا سألت فاسأل الله))، فقد أوصى النبي ابن عباس رضي الله عنهما بألا يسأل - إذا سأل - إلا الله تبارك وتعالى وحده، فأمره بإفراد الله عز وجل بالسؤال، ونهاه عن سؤال المخلوقين، وقد أمر الله تبارك وتعالى عباده بسؤاله فقال في سورة النساء: واسألوا الله من فضله وقد بايع النبي جماعةً من أصحابه على ألا يسألوا الناس شيئاً، منهم أبو بكر الصديق وأبو ذر وثوبان رضي الله تعالى عنهم، وكان أحدهم يسقط سوطه أو خطام ناقته فلا يسأل أحداً أن يناوله إياه كما أخرج مسلم من حديث عوف بن مالك . واعلم يا أخي أن سؤال الله تعالى دون غيره من عباده هو المتعين عقلاً وشرعاً. وذلك من وجوه متعددة منها: أولاً: أن السؤال فيه بذل لماء الوجه وذلة للسائل، وهذا لا يصلح إلا لله تعالى وحده، فلا يصح الذل إلا لله تعالى وحده بالعبادة والمسألة، وذلك من علامات المحبة الصادقة، وكان الإمام أحمد رحمه الله تعالى يقول في دعائه: اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك، فصنه عن المسألة لغيرك، وفي هذا المعنى قال بعضهم: ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله بـدلاً وإنـا للغنـى بسـؤال وإذا السؤال مع النوال وزنته رجح السؤال وخفّ كل نوال فإذا ابتليت ببذل وجهك سائلاً فابذلـه للمتكـرم المفضـال أي: إذا كنت لابد سائلاً وابتليت بالسؤال واحتجت إلى شيء فألمت بك نازلة أو شدة أو ضائقة فابذل وجهك للمتكرم المفضال، لله سبحانه وتعالى. ولهذا كان عقوبة من أكثر المسألة في غير حاجة أن يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم، كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: ((ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم)). وعند أحمد والطبراني في الكبير بسند صحيح عن ثوبان رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله : ((من سأل مسألةً وهو غني عنها كانت شيناً في وجهه يوم القيامة)). قال البزار عن الحديث: إسناد حسن، وإنما كانت هذه العقوبة كذلك لأن الذي يكثر المسألة في غير حاجة يذهب عِزّ وجهه في الدنيا وصيانة مائه، فيُذهب الله في الآخرة جماله وبهاءه الحسيّ. فيصير وجهه عظماً بغير لحم والعياذ بالله تعالى، ويُذهب منه بهاؤه المعنوي أيضاً فلا يبقى له يوم القيامة عند الله تعالى وجاهةً. ومنها ثانياً: من الأوجه التي تدل شرعاً وعقلاً على ألا يُسأل إلا الله وحده، أن في سؤال الله تعالى عبادة وعبودية، وفي سؤال المخلوق ذل. لأن المخلوق عاجزٌ عن جلب النفع لنفسه ودفع الضر عنها فكيف يقدر على ذلك لغيره. وسؤاله إقامة له مقام من يقدر وليس بقادر ويشهد لهذا المعنى ما جاء في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه عن النبي فيما يروي عن ربه قال سبحانه: ((يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك من ما عندي إلا كما ينقص المخيط من البحر)). لو قام الناس جميعاً في صعيد واحد، إنسهم وجنهم، وسأل كل واحد مسألته وأعطاهم الله جميعاً ما سألوا، ما نقص ذلك من خزائن الله الملأى إلا كما يمكن أن ينقص المخيط "الإبرة" التي تستعمل في خياطة الملابس – إذا كانت تنقص من ماء البحر شيئاً يؤثر في ماءه أو يُحس أو يُرى كذلك تنقص مسائل السائلين من خزائن الله تعالى. ما تنقص مما عند الله إلا كما ينقص المخيط من البحر. فكيف يُسأل الفقير العاجز ويترك الغني القادر إن هذا لأعجب العجب. قال بعض السلف: إني لأستحي من الله أن أسأله الدنيا وهو مالكها، فكيف أسألها من لا يملكها. يعني المخلوق. يعني كأنه يصف حاله وأنه يسأل الله تبارك وتعالى من خيرات الآخرة دائماً ولا يسأله سبحانه وتعالى شيئاً من الدنيا. إذا كان كذلك يستحي من الله عز وجل، وعندما يطلب شيئاً من غير الله تبارك وتعالى من أمور الدنيا يصيبه الحياء فكيف يسألها من لا يملكها يعني المخلوق. ومن الأوجه ثالثاً: أن الله تعالى يُحب أن يُسأل ويغضب على من لا يسأله كما سبقت الآية من سورة غافر: وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين فإن الله سبحانه يريد من عباده أن يرغبوا إليه ويسألوه ويدعوه ويلحوا، ويحب سبحانه الملحين في الدعاء لأن في السؤال إظهاراً للافتقار إليه واعترافاً بقدرته سبحانه على قضاء الحوائج. وأما المخلوق فإنه غالباً يكره أن يُسأل لفقره وعجزه، أما الله سبحانه فيحب ذلك ويغضب على من لا يسأله، ولهذا قال ابن السمّاك: لا تسأل من يفر منك وأسأل من أمرك بسؤاله: وقال أبو العتاهية: الله يغضب إن تركت سؤاله وبُني آدم حين يُسأل يغضب فاجعل سؤالك للإله فإنمـا في فضل نعمـة ربنا تتقلب وأنشد بعض الأعراب قال: أيا مالكٌ لا تسأل النـاس والتمس يكفيك فضـل الله فالله أوسـعُ ولو يُسأل الناس التراب لأوشكوا إذا قيل هاتوا أن يملوا ويمنعوا إذاً الله يغضب إن تركت سؤاله ومنها رابعاً وأخيراً: أنه سبحانه يستدعي من عباده سؤاله. كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي قال: ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: هل من داع فأستجيب له. هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له. وكم أعرضنا والله عن انتظار هذه الساعة المباركة في ثلث الليل الآخر. كم أعرضنا عن انتظارها وترقبها وتحريها فأخذنا النوم عنها، بل ربما أخذنا من الفريضة، صلاة الفجر، ولا حول ولا قوة إلا بالله. هل من داع فأستجيب له، هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له. وقال سبحانه في سورة البقرة: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعِ إذا دعان فأي وقت دعا العبد فيه ربه وجده سبحانه وتعالى سميعاً قريباً مجيباً ليس بينه وبينه حجاب ولا أبواب، وأما المخلوق فإنه يمتنع بالحجاب والأبواب، ويعسر الوصول إليه في أغلب الأوقات. ولهذا قال طاووس لعطاء وكلاهما من التابعين الأجلاء الكرام من السلف الصالح، قال لعطاء: إياك أن تطلب حوائجك إلى من أغلق دونك بابه وجعل دونها حجابه، وعليك بمن بابه مفتوح إلى يوم القيامة، أمرك أن تسأله، ووعدك أن يجيبك. وذكر ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث في جزء خاص أفرده لشرح هذا الحديث العظيم وقع في مائة وعشرين صفحة ذكر مجموعة من القصص التي وقعت للسلف الصالح تدل على فضل سؤال الله وحده وإفراده سبحانه وتعالى بذلك اخترت منها قصتين إذ المجال لا يتسع لأكثر من ذلك. قال في الأولى: كان إسحاق بن عباد البصري نائماً فرأى في منامه من يقول له: أغِث الملهوف. فاستيقظ فسأل هل في جيرانه من هو محتاج؟ قالوا: لا ندري. فنام، فرآه ثانياً وثالثاً يقول له: أتنام ولم تُغث الملهوف؟ فقام وأخذ معه ثلاث مائة درهم وركب بغلهُ فخرج به إلى البصرة حتى وقف به على باب مسجد يصلى فيه على الجنائز فدخل المسجد فإذا رجل يصلي فلما أحس به انصرف. فدنا منه فقال له: يا عبد الله في هذا الوقت في هذا الموضع ما حاجتك؟ قال: أنا رجل كان رأس مالي مائة درهم فذهبت من يدي ولزمني دين مائتا درهم، فأخرج الدراهم وقال له: خذها. أتعرفني؟ قال: لا، قال: أنا إسحاق بن عباد، إذا نابتك نائبةٌ فأتني فإن منزلي في موضع كذا؟ قال له: رحمك الله، إن نابتنا نائبةٌ فزعنا إلى من أخرجك في هذه الساعة حتى جاء بك إلينا. وأما القصة الثانية فقال فيها: قال أصبغ بن زيد -وأصبغ ابن زيد توفي سنة سبع وخمسين ومائة من الهجرة وهو صدوق من رواة الترمذي والنسائي وابن ماجه - قال أصبغ: جلست ومن عندي ثلاثاً لا نطعم شيئاً فقامت إلى ابنتي الصغيرة، خرجت إلي وقالت: يا أبتِ الجوع. فخرجت فأتيت الميضأة فتوضأت وصليت ركعتين، وألهمت دعاءً دعوت به في آخرها. أي في آخر الصلاة، فقلت: اللهم افتح علي منك رزقاً لا تجعل لأحد عليّّ فيه منّة ولا لك علي في الآخرة فيه تبعة – أي لا يكون الرزق من حرام – برحمتك يا أرحم الراحمين. ثم انصرفت إلى البيت فقامت إلي ابنتي الكبيرة فقالت: يا أبت جاء عمي الساعة وترك هذه الصرة من الدراهم وجاء بحمّال عليه دقيق وحمّال عليه من كل شيء في السوق وقال: أقرؤوا أخي السلام وقولوا له: إذا احتجت إلى شيء فادع بهذا الدعاء تأتك حاجتك. قال أصبغ: فوالله ما كان لي أخٌ قط ولا أعرف من هذا القائل، ولكن الله على كل شيء قدير. بطبيعة الحال هذه الآثار والحكايات يتلقّاها قومٌ على نحو وقوم آخرون على نحو، فيختلفون في تلقيها، فمن متلق لها على سبيل التواكل وعدم الأخذ بالأسباب الشرعية، ومن متلق آخر لها على سبيل الثقة في فضل الله ومنّه ولطفه ورحمته، فيعمل ويأخذ بالأسباب الشرعية ومن جُملتها سؤال الله تعالى ودعاؤه، وبهذا يسلم الأمر من المآخذ كما قال أصبغ ابن زيد "ولكن الله على كل شيء قدير". وهذه الآثار والحكايات كثيرةٌ جداً وهي موجودة في كتب الرقاق والزهد ويطول ذكرها وينبغي أن يُحمل حال هؤلاء الصالحين المعروفين من السلف على الأخذ بالأسباب الشرعية التي من جُملتها سؤال الله عز وجل ودعاؤه فإنهم كانوا متوكلين لا متواكلين. وأما إن يظن البعض أن فيها شيئاً من التواكل فلا والله، فإن الإنسان قد يعمل ويسعى ويبذل ما في وسعه ثم تُلم به مُلمة أو شدة أو ضائقة فلا يقوم حاصل سعيه وبذله لوسعه وعمله بكشف هذه الغمة. فمن يسأل إذا لم يسأل خير مسؤول، الكريم الحليم الله تبارك وتعالى. الذي يعطي السائلين على كثرة حاجاتهم واختلاف أصواتهم ولهجاتهم. يعطيهم جميعاً سؤلهم، لا يسأل العبد إلا الله تبارك وتعالى، والله على كل شيء قدير، يسوق إليه من يعطف عليه وعلى حاله ويتفقده، وإن كثيراً من الناس في هذه الأيام في واقع حياتنا ليلمسون ويلاحظون ويشهدون كثيراً من هذه الأمارات التي تدل على صدق هذه القصص. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم... |