وبعد: يقول الله تبارك وتعالى في سورة النور في الآية السابعة والعشرين إلى نهاية الآية التاسعة والعشرين أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاًً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون فإن لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون هذه من الآداب الشرعية التي أدب الله تبارك وتعالى بها عباده المؤمنين، أمرهم أن لا يدخلوا بيوتاً غير بيوتهم حتى يستأنسوا أي يستأذنوا قبل الدخول ويسلموا بعده لإيناس من في البيت وإزالة الوحشة من نفوسهم ولتمكينهم من الاستعداد لاستقبالهم حتى لا يفاجئوهم على حالة لا يحبون أن يراهم عليها أحد، ولهذا فإن عليه أن يستأذن. على الذي يريد الزيارة أن يستأذن ثلاث مرات، فإن أذن له وإلا رجع كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي موسى حين استأذن على عمر بن الخطاب ثلاثاً فلم يؤذن له فرجع، فقال عمر بعد ذلك: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس يستأذن؟ ائذنوا له. فطلبوه فوجدوه قد ذهب ثم جاء بعد ذلك فقال له عمر: ما أرجعك؟ فقال: إني استأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي، وإني سمعت رسول الله يقول: ((إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فلينصرف)) فقال عمر: (لتأتيني على هذا بالبينة وإلا أوجعتك ضرباً) وهذا أسلوب كان يتبعه عمر بن الخطاب حتى لا يزين لكل امرئ أن يقول قولاً ثم يقول إن رسول الله هو الذي قاله، مع حسن الظن بخير خلق الله صحابة رسول الله ، ولكن كان هذا مسلكه فذهب أبو موسى إلى ملأ من الأنصار فذكر لهم ما قاله عمر فقالوا: (لا يشهد لك إلا أصغرنا: أبو سعيد الخدري فذهب معه فأخبر عمر بذلك فقال عمر: ألهاني الصفق بالأسواق) أي أن خروجي للتجارة والعمل كان يفوت علي أن أسمع بعض ما سمعتم. ثم إن رسول الله نفسه وهو المرغوب في دخوله البيوت والجلوس والاجتماع معه لما في ذلك الخير والعلم والتأدب، هو نفسه كان يستأذن ثلاثاً فإن لم يؤذن له رجع، وفي ذلك ما رواه أحمد عن أنس قال: ((استأذن النبي على سعد بن عبادة فقال: السلام عليكم ورحمة الله فقال سعد: وعليك السلام ورحمة الله، فلم يسمع النبي ففعل ذلك النبي ثلاثاً ورد سعد ثلاثا،ً فرجع النبي فتبعه سعد وقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما سلمت تسليمة إلا وهي بإذني، وإنما أردت أن أستكثر من سلامك ومن البركة، ثم أدخله البيت فقرب إليه زبيباً فأكل ثم قال: أكل طعامك الأبرار وصليت عليكم الملائكة وأفطر عندكم الصائمون)) ورواه أبو داود والنسائي. وعن قيس بن سعد بن عبادة أنه قال: زارنا رسول الله في منزلنا فسلم فرد سعد خفياً فقلت: ألا تأذن لرسول الله ؟ فقال: دعه يكثر علينا من السلام فلما سلم ثلاثاً، انصرف فتبعه سعد وأدخله البيت - كما عرفتم في الرواية الأولى- ثم قدم إليه غسلاً فاغتسل ثم ناوله سعد خميصة مصبوغة بالزعفران أو الورث فاشتمل بها ثم رفع يده فقال: اللهم اجعل صلاتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة، ثم قرب إليه طعاماً فلما أصاب من الطعام دعا لسعد فلما أراد أن ينصرف قدم سعد وقرب حماراً عليه قطيفة ليركب رسول الله إلى بيته وقال: يا قيس اصحب رسول الله فقال له الرسول : إما أن تركب وإما أن تنصرف، فأبيت أن أركب، وانصرف عني. هكذا رسول الله يستأذن ثلاثاً فإن لم يؤذن له رجع، لا كما يفعل بعضنا على باب إخوانه يطرق ويطرق ويطرق، ويأبى أن ينصرف أبداً، حتى يزعج أهل البيت فيفتحوا له، وإن لم يفتحوا له رجع مغضباً حزيناً ووجد في نفسه عليهم أشد الوجد والأثر، وجعلها سبباً من أسباب القطيعة والخصام أبداً. ما حدث لنا ذلك في هذه الأيام والأوقات والعصور إلا لما وقع بيننا وبين آداب ديننا من جفاء ولِما أصبحنا عبيداً له وأسارى من أعراف وتقاليد خاطئة. ثم على الذي يستأذن أن لا يستقبل الباب من تلقاء وجهه أن يكون عن يمين الباب أو عن يساره، فقد روى أبو داود عن عبد الله بشر قال: (كان رسول الله إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ويقول: السلام عليكم، السلام عليكم، ذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور). وروى كذلك أبو داود أن رجلاً جاء فقام على باب النبي وفي رواية أنه سعد فلما وقف على الباب استقبله استقبالاً فقال له النبي : ((عنك هكذا أو هكذا، فإنما الاستئذان من النظر)) ولهذا ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله قال - انظروا إلى ما أراده الدين الحنيف للبيوت من حرمة لا يجوز أن يستبيحها أحد من الداخلين أو الناظرين - يقول رسول الله : ((لو أن أمراً اطلع في بيتك من غير إذنك فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح)). وفي رواية الإمام أحمد والنسائي وابن أبي عاصم وصححها ابن حبان والبيهقي: ((فلا دية له ولا قصاص))، ((لو أن رجلاً اطلع)) أي أنه مثلاً وجد نافذة بيتك مفتوحة فوضع رأسه فيها ينظر أو كان في طاق فوضع عينه فيها ينظر ماذا بداخل البيت هل يأكلون، هل هم نائمون، هل يقولون كلاما لو سمعته أضيف إلى علمه جديد، هكذا لو أن هذا الناظر لحظه من في البيت فحذفوا عينه بحصاة ففقأت، فلا دية له ولا قصاص ((ما كان عليك من جناح)). وروى الجماعة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ((أتيت النبي في دين كان على أبي فدققت الباب فقال: من ذا؟ قلت: أنا أنا، فقال النبي : أنا أنا، كأنه كرهه )) لأنه لو عبر كل أحد بلفظ: أنا، لم يحصل المقصود من الاستئذان ولما عرف الذي يستأذن حتى يتمكن أهل البيت من الإذن له أو لعلهم لا يرغبون في زيارته فيعتذرون، فأحب النبي لهذا المستأذن عليه أن يقول: فلان. أما: أنا أنا، فكما سمعتم استنكرها النبي . وروى أبو داود بإسناده إلى ربعي قال أتى رجل من بني عامر يستأذن على النبي فقال: أألج؟ أي أأدخل؟ فقال النبي لخادمه: ((اخرج إليه فعلمه قل له يقول: السلام عليكم أأدخل؟ فسمعها الرجل فقال: السلام عليكم، أأدخل؟ قال له النبي : ادخل)). ثم نأتي بعد ذلك إلى ما نستفيده من آثار عديدة في الاستئذان على ذوات المحارم والقرابات وعموم الناس، فإن بعض الناس يفهمون أن المرأة ما دامت منه محرماً فليس عليه أن يستأذن عليها، ولماذا يستأذن؟ إنها محرم منه، ولكن قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (عليكم أن تستأذنوا على أمهاتكم وأخواتكم). ثم قال عدي بن ثابت: جاءت امرأة من الأنصار إلى النبي فقالت: يا رسول الله إني أكون في منزلي على الحال التي لا أحب أن يراني عليها أحد، وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي فأنزل الله قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا الآية وقد رأيتم من سوق هذا الأثر أن الاستئذان على ذوات المحارم لسبب أنهن ربما يكن على حال لا يستحببن أن يراهن عليه أحد، كأن تكون عريانة، كأن تكون على هيئة معينة تستريح فيها ولا تحب أن يراها عليها أحد، لما في نفسها من حياء وخجل، فيفاجئها الرجل من أهلها باعتبار أنها محرم منه، فيدخل عليها على هذه الحالة. لا ليس هذا من أدب ديننا ولا من أخلاقياته، ثم قال عطاء: قلت لابن عباس: أأستأذن على أخواتي: أيتام لي في حجري في بيت واحد؟ فقال ابن عباس: نعم، فرددت عليه ليرخص لي فأبى فقال: أتحب أن تراها عريانة؟ قلت: لا. قال: فاستئذن فراجعته أيضاً، فقال: أتحب أن تطيع الله؟ قلت: نعم، قال: فاستئذن. فانتهى النقاش إلى هذا الحد، ما دام الأمر يتعلق بطاعة لا مجال بعد ذلك للنقاش والجدال، لا كما يفعله بعضنا من إرادة تغليب هواه على النصوص والآيات والأحاديث ليحقق ما تصبو إليه نفسه وتطلع إليه وترتاح فيه من هوى، لا والله، كانوا وقافين عند القرآن وعند السنة وعندما يعلمونه أنه أمر أو نهى من قبل الله أو رسوله كما قالت الآية الحادية والخمسون من سورة النور: إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون . وهل لهم جزاء يساوي ما غالبوا به شهواتهم وهواهم وما في أنفسهم؟ نعم قال في الآية التالية: ومن يطع الله ورسوله ويخشَ الله ويتقه فأولئك هم الفائزون . وقال طاووس رحمه الله: ما من امرأة أكره إلي أن أرى عورتها من ذات محرم. وكان يشدد في ذلك: إني لا أحب أبداً أن أرى عورة ذات محرم، هذا ما يتعلق بذات المحارم. وقال ابن جرير: قلت لعطاء: أيستأذن الرجل على امرأته؟ قال: لا، وهذا محمول من عطاء على عدم الوجوب، ليس واجباً قطعاً أن يستأذن الرجل على امرأته، ولكن الأولى أن يستأذن عليها لا للوجوب ولكن للاستحباب، وليس منا من يفرط في الاستحباب إلا لضرورة أو لنسيان أو ما إلى ذلك، وقد روى ابن جرير بإسناد صحيح عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما أنها قالت: (كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه)، يفعل أي شيء ينبه به أهله قبل أن يدخل كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه. وقال أبو هبيرة فيما رواه عنه ابن أبي حاتم: كان عبد الله إذا دخل البيت استأنس. كيف يستأنس قال: تكلم ورفع صوته وكل ذلك ليعلم أهل البيت، قال مجاهد: حتى تستأنوا قال: تنحنحوا أو تنخموا، وقال الإمام أحمد رحمه الله تبارك وتعالى: إذا دخل الرجل بيته استحب له أن يتنحنح أو يحرك نعليه. وقد جاء في الصحيح أن رسول الله : ((نهى أن يطرق الرجل أهله طروقاً)) وفي رواية: ((ليلاً يتخونهم)) بمعنى أنه نهى أن يقدم رجل من سفر مثلاً في الليل فيطرق أهله تعمداً ليراهم في هذه الحالة ماذا يفعلون، تخوناً لهم لأنه لا يأتمنهم. فعليه أن يبعث من ينبه أهل الدار وأن يمكنهم من الاستعداد، ومن ذلك من الأمور التي تحب المرأة أن تلقى زوجها عليها، نهى رسول الله عن ذلك، وهذا ما جعل العلماء يذهبون أن الأولى أن يؤذِن أهل بيته. ثم جاء في الحديث الآخر أنه جاء المدينة نهاراً فأناخ بظاهرها وقال: ((انتظروا إلى العشاء إلى آخر النهار حتى تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة)) أي حتى تتطيب النساء ويستعدن للقاء أزواجهن، هكذا لا ينبغي أن يهجم عليهن هجوماً، فما ظنك بالذين يدخلون على بنات أخوالهم أو عماتهم أو خالاتهم ويقولون: إننا تربينا معاً وما إلى ذلك، نحن إخوة. أي أخوة؟ هل هي ذات محرم منك؟ لو كانت ذات محرم لكان عليك أن تستأذن عليها كما استمعت الآن، هل يجوز لك أن تتزوجها: ابنة خالك أو ابنة عمك أو ابنة خالتك؟ ليست ذات محرم منك؟ فيدخل الرجل البيت فلا يأبه لزوج بنت خالته أو بنت خاله أو بنت عمته ويتركه ويبحث عنها في غرفتها أو في المطبخ أو في أي مكان، يبدأ يكلمها وقد يتكلم معها بكلام لا يجوز إلا مع ذوات المحارم وما إلى ذلك، أي أدب هذا؟ وأي خلق هذا؟ لا. فلنرجع إلى آداب ديننا وأخلاقياتنا، فيها الخير كل الخير، لا ينبغي هذا ولا يجوز أبداً. وقال صاحب الظلال رحمه الله عقب سوقه لحديث أن النبي قال: ((انتظروا حتى تمتشط الشعثة)) قال عقبه: إلى هذا الحد من اللطف والدقة بلغ حرص رسول الله وصحابته بما علمهم الله من ذلك الأدب الرفيع الوضيء المشرق بنور الله، إلى هذا الحد بلغ حرصهم، ولكن نحن اليوم مسلمون - والكلام له - ولكن حساسيتنا بمثل هذه الدقائق قد تبلدت وغلظت. وإن الرجل يهجم على أخيه في بيته في أي لحظة من لحظات الليل والنهار فيطرقه ويطرقه ويطرقه، فلا ينصرف أبداً حتى يزعج أهل البيت فيفتحوا له. وقد كان بإمكانه أن يستأذن متابعة لأمر الله في القرآن، ويمكن أن يكون في بيته هاتف مثلاً كان يمكنه أن يستأذن عن طريقه ليحدد له موعداً يزورهم فيه. ولكنه يهمل هذا الطريق ليهجم في غير أوان وعلى غير موعد، ثم لا يقبل العرف أن يرد عن البيت، العرف الآن يقول: لا، لا، لا يصح هذا، أترده عن بيتك بعد أن جاءك، وربما كان قطع في ذلك ما قطع، هذا أمر الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها تستأذنوا ثلاثاً كما قال النبي . ثم في الآية التي بعدها كما سنعلم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم هو أطهر وأفضل ليس في ذلك شيء، لكنه العرف يرفض أن يرد عن البيت، وبعد ذلك يفتح له مهما كان في ذلك من كراهة أهل البيت تلك الزيارة المفاجئة بلا إخطار ولا إنذار، هكذا. ثم يقول أيضاً: ونحن اليوم نطرق إخواننا في أي لحظة، في موعد الطعام مثلاً، وإذا لم يقدم لنا الطعام وجدنا من ذلك في أنفسنا شيئاً، ونطرقهم في الليل المتأخر، وإن لم يدعونا إلى المبيت وجدنا في ذلك من أنفسنا شيئاً دون أن نعذرهم في هذا أو ذاك. ثم يقول: ونرى غيرنا ممن لا يعتنقون الإسلام يحافظون على تقاليد في سلوكهم تشبه ما جاء به ديننا في هذه الأمور: أمور الزيارات، فنعجب بها أحياناً ونتندر بها أحياناً ولا نحاول أن نعرف ديننا الأصيل فنفيء إليه مطمئنين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. |