أما بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل. عباد الله إن الله أحب من عباده العلماء، واصطفاهم واجتباهم ورثة للأنبياء, وزادهم من الخير والبر فجعلهم من عباده الأتقياء السعداء, وشرفهم وكرمهم فكانوا من عداد الأولياء، وأثنى عليهم في كتابه بأنهم أهل خشيته فقال: إنما يخشى الله من عباده العلماء [فاطر: 28]. العلماء وما أدراك ما العلماء أئمة الهدى، ومصابيح الدجى أهل الرحمة والرضا، بهم يُحتذى ويُهتدى ويُقتدى. كم طالب علم علموه, وتائه عن صراط الرشد أرشدوه وحائر عن سبيل الله بصروه ودلوه بقاؤهم في العباد نعمة ورحمة، وقبضهم وموتهم عذاب ونقمة قال : ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبضه بموت العلماء حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)) [1]. العلم رحمة من الله وخير وهداية منه سبحانه وتعالى: يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا [البقرة: 269]. العلم بصيرة من الله قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين [يوسف: 108]. العلم بينة تستبين بها الحقائق، ويخرس عند دليلها كل متكلم ناطق: قل إني على بينة من ربي [الأنعام: 57]. العلم سبيل الله ينتهي بعبد الله إلى جنة الخلد ورضوان الله، قال : ((من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة)) [2] فما أقرب الطريق على العلماء إلى جنة الله ورحمة الله، حملوا الكتاب والسنة وأحيوا منارات الدين والملة, فالله أعلم كم بذلوا وكم ضحوا من أجل هذا العلم المبارك والخير الكبير. عباد الله إذا أحب الله عبدًا من عباده حبب إلى قلبه العلماء، ومن أحب قومًا حشر معهم. جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم ـ أي ليس عنده كثير صلاة ولا صلاح ولا صيام يحب الصالحين وليس عنده كثيرٌ من الصلاح ويحب العلماء وليس عنده العلم، يحب القوم ولما يلحق بهم فقال : ((المرء مع من أحب)) [3]. من أحب العلماء حشر مع الأتقياء السعداء: مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا [النساء: 69]. إذا أحب الله عبدًا حبب إلى قلبه أولياءه العلماء فأحبهم في الله ودعا لهم, واعتقد فضلهم, وكان خير معين لهم. حب العلماء طاعة وقربة وإيمان بالله وحُسبة. نحبهم لكتاب الله الذي حفظوه, ولسنة رسول الله التي وعوها وعلموها ودعوا إليها. نحبهم للدين نحبهم لسمت الأخيار وشعار الصالحين. نحبهم لعظيم بلائهم على الأمة وما قدموا من خير لها, فاللهم عظم أجورهم وثقل في الآخرة موازينهم. حب العلماء ـ عباد الله ـ رحمة من الله سبحانه وتعالى. من أحب العلماء حرص على مجالسهم، وحرص على مواعظهم، وحرص على دعوتهم والعمل بما يقولون، قال يبين فضل العلماء حينما ذكر رجلاً كثير الذنوب مر على قوم صالحين وقد اجتمعوا في حلقة علم فجلس معهم يذكر الله وعنده ذنوب وعيوب فصعدت الملائكة إلى ربها فأخبرته بما كان من شأن هؤلاء القوم فقال الله: ((وله قد غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليس)) [4]. من أحب العلماء حرص على مجالسهم وحرص على مواعظهم، وكان محافظًا عليها عاملاً بما فيها من الخير، ولذلك حبب الله إلى الصالحين، حبب إليهم مجالس الذاكرين فكانوا لا يفترون عن شهودها يضحون من أجل بلوغها، فكن رحمك الله ذلك الرجل فإن المحروم من حرم. من أحب العلماء دعا لهم وترحم على أمواتهم وذكرهم بالجميل والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم [الحشر: 10]. يذكرهم بصالح الدعوات, ويسأل الله أن يُسبغ عليهم شآبيب الرحمات. علماء الأمة من الماضين من الصحابة والتابعين وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، أهل الخير والأثر، وأهل السنة والنظر لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل. تُنشر فضائلهم وتُذكر مآثرهم. ماتوا وما ماتت في القلوب حسناتهم وكلماتهم ومواعظهم. من أحب العلماء حرص على الأدب معهم، فأنصت إليهم إذا تكلموا، وأصغى إليهم إذا حدثوا وأطاعهم إذا أمروا أو نهوا يسلم تسليمًا لا يعترض عليهم بالآراء ولا يلتمس سبيل أهل الغي والأهواء. ما أحوجنا إلى الأدب مع العلماء وهم يتكلمون ويحدثون ويفتون، نصغي إلى هذه المشاعل وهذه الكلمات النيرة والمواعظ البليغة من كتاب الله وسنة رسول الله . نحبهم ومن حبهم نهابهم. أهابُك إجلالاً وما بك قدرة عليَّ ولكن ملء عين حبيبُها المحب للعلماء يظهر حبه إذا تكلم العالم كيف ينصت, وكيف يخشع، وكيف يتأثر ويدمع، وكيف يجعل هذه الكلمات والمواعظ التي يقولها العلماء يجعلها في قلبه كالغيث للأرض الطيبة. ما أحوجنا إلى التأدب مع العلماء في كل كلمة يقولونها وفي كل حكمة يعلمونها ما دامت من كتاب الله وسنة رسوله . ما أحوجنا إلى تقديرهم في المجالس ورفع مكانتهم وإجلالهم وتقديرهم، كان ابن عباس وأرضاه يدخل على أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب وعن أصحاب النبي أجمعين كان إذا دخل عليه رفع مقامه وأعلى مجلسه حتى صار في أعلى المجالس فوق المشايخ وكبار السن قالوا له: لم تفعل هذا يرحمك الله وهو كمثل أبنائنا؟ فذكرَ لهم فضله وعِلمَه وأرضاه [5]. العلماء يوقرون ويحترمون ويقدرون، ومن أكرمهم فهو الكريم، ومن أهانهم خِبٌّ لئيمٌ. ما أحوجنا ـ عباد الله ـ إلى تقدير العلماء بنشر فتاويهم ونشر علومهم، وطبع كتبهم وبثها في الآفاق لعله أن يكون لنا من الأجور كمثل أجورهم. ما أحوجنا أن ننشر ما يقولونه من الخير ونبثه بين الناس؛ ليكون لنا كمثل أجورهم. ما أحوجنا ـ عباد الله ـ إلى التأدب مع العلماء في غيبتهم نذكرهم بأرفع الألفاظ وأجلّها ما لم تبلغ حدود الحُرمة والغلو، نذكرهم مجلين مقدرين موقرين فتلك سنة سيد الأنبياء والمرسلين عليه الصلاة والسلام، فتقديرهم في الخطاب يُعتبر من سنة الأخيار والصالحين، وإهانتهم في الخطاب من شأن اللئام، ولذلك قال العلماء: من نادى العالم باسمه فقد أساء الأدب. أساء الأدب؛ لأن الله يقول: قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون [الزمر: 9]. وهذا الجاهل ينادي العالم كما ينادي عوامَ الناس لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا [النور: 63]. لا ينبغي نداء العالم باسمه، ينادى بوصفه ورسمه، ينادى بما هو أهل له من التقدير والإجلال والإكبار. اللهم عظم أجورهم. اللهم ارزقنا حبهم وتقديرهم. اللهم ألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين ولا نادمين ولا مُبدلين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري كتاب العلم/ باب كيف يقبض العلم (1/234) فتح، وأخرجه مسلم كتاب العلم/ باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان (16/223) بشرح النووي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص. [2] رواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار/ باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، عن أبي هريرة (17/21) بشرح النووي. [3] أخرجه البخاري، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب/ باب المرء مع من أحب (16/188) عن ابن مسعود. [4] أخرجه البخاري في كتاب الدعوات/ باب فضل ذكر الله عز وجل (11/212) فتح، عن أبي هريرة. [5] أخرجه البخاري، كتاب التفسير/ باب تفسير سورة إذا جاء نصر الله (8/606) فتح. |