أما بعد: فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102]. معاشر المسلمين، طوى الجزيـرة حتى جـاءنِي خبرٌ فزعت فيـه بآمـالي إلَى الكذبِ حتى إذا لم يـدع لي صدقه أمـلاً شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي في المتفق عليه عن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي قال: ((مُستريح ومُستراح منه، العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله تعالى، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب)). إن بلاء الأمة أن تذهب خضراؤها وتنقشع زينتها وتختفي نضارتها وتغيب نجومها وتصبح تائهة هائمة، قد قلّ خيارها وكثر شرارها. إن الأمة تزدان بصلحائها ونبلائها الذين يهدونها ويبصّرونها ويعيدون لها ذكرها وعزها وشرفها، إنهم لها الشموس الساطعة والمنارات اللامعة، فليست الرزية والبلية قلّة الطعام والشراب، وليست الرزيّة كثرة الأسقام والأوجاع، إن الرزية ذهاب البررة الأخيار الذين استضاءت بأنوارهم الأمة، وزخرت بهم الملّة، وازدانت بهم السنة. قولوا: تغيرت الأنهار وتعسّرت الأسفار وتاهت الأوطار، ولا تقولوا: تولى الصلحاء الأخيار. إن الحياة مع توالي نكباتها وتقاذف شدائدها وتداعي رزاياها لن تجدوا في نكباتها أشد من فرقة الأحباب، إن الحبيب إذا فارق حبيبه انهارت نفسه وتعكر صفو حياته، فما بالكم بعالم فذ حبيب أحبته الأمة كلها وحفلت به أرجاؤها وانشرحت به أركانها وأذعن الجميع لفضله وعلمه؟! وكل مصيبـاتِ الزمـان وجدتها سوى فُرقةِ الأحباب هينة الخطْبِ قال الله تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11]، وروى الطبراني في الكبير والضياء في المختارة عن أبي أمامة أن النبي قال: ((إن الله وملائكة حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في البحر ليصلون على معلم الناس الخير)). قال الإمام أحمد رحمه الله: "الناس محتاجون إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب يُحتاج إليه في اليوم مرة أو مرتين، والعلم يحتاج إليه بعدد الأنفاس". وقال ابن القيم رحمه الله: "العلماء بالله وأمره هم حياة الوجود وروحه، ولا يُستغنى عنهم طرفة عين، فحاجة القلب إلى العلم ليست كالحاجة إلى التنفس في الهواء، بل أعظم، وبالجملة فالعلم للقلب مثل الماء للسمك، إذا فقده مات، فنسبة العلم إلى القلب كنسبة ضوء العين إليها". أيها المسلمون، لقد رُزئت الأمة في علَمها وعالمها وسيدها وقائدها وتاجها وفخرها، كُنيف مُلئ علمًا، وتاج شعَّ درًا، وجبل عظم صلابة، وقلب احتشى صدقًا ومحبة، أوت إليه أفئدة المؤمنين يطلبون علمه ويرومون فضله، ويأملون شفاعته وينشدون مشورته وبصيرته. كم اجتمع عنده الطالبون، وكم سأله الشاكون، وكم حطمه الغادون والرائحون. أكثر من ثلاثين سنة لا يعرف طعامَ الغداء مع أهله، جعل كرمَه وخلقه مأوى الفقراء والمساكين والسائلين. بالأمس ثُلم الإسلام ثُلمة وفُجعت الأمة في شيخها وعلامتها وحجتها، شيخنا ووالدنا الشيخ عبد العزيز بن باز، إمام أهل السنة في هذا العصر، المحدث الأثري الفقيه النابغة، مفتي الديار ومرجع المستفتين من مختلف أنحاء العالم. اللهم اغفر لأبي عبد الله، وارفع درجته في المهديين، واخلُفه في عقبه في الغابرين، وافسح له في قبره، ونوّر له فيه، واغفر لنا وله أجمعين. روى عنك أهل العلم كل فضيـلةٍ فقلنا حديث الحب ضربٌ من الوهمِ فلما تلاقينـا وجدنـاك فوق مـا سَمعنـا به في العلم والأدب الجـمِّ فلم نر بـازا قطّ من قبل شيخنـا يَصيد فلا يؤذي المصيدَ ولا يُدمـي أيها الإخوة الكرام، إن العلماء الصلحاء هم حِسُّ الأمة وروحُها وغذاؤها، وهم نجومها وأنوارها. إنَّ سلامة الأمة وأمنها وأمانتها مرهونة بوجود العلماء الصالحين المخلصين. ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالمًا اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا وأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)). إن الأمة إنما تفخر وتعز بعلمائها وفضلائها؛ لأنهم منبع السلامة ومعدن الكرامة، وهم ورثة الأنبياء وحملة الهداية للبشرية جمعاء، وقد ذكرنا سابقًا في حقوق أهل العلم إظهارهم ومحبتهم ونشر فضائلهم ومحاسنهم وصرف الناس إلى ذلك دون غلو أو تقديس. قال عبد الله ابن الإمام أحمد رحمهما الله: قلت لأبي، أيّ رجل كان الشافعي؟ فإني سمعتك تكثر من الدعاء له، قال: "يا بُني، كان كالشمس للدنيا وكالعافية للناس، فهل لهذين من خلفَ أو منهما من عوض؟!". أخرج أبو داود وغيره بسند حسن عن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي قال: ((إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط)). قال أبو جعفر الطحاوي رحمه الله في العقيدة: "وعلماء السلف من السابقين ومَنْ بعدهم من التابعين من أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر لا يُذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل". إنه يجب على الأمة تجاه علمائها في حياتهم حُبهم وموالاتهم ونصرتهم والالتفاف حولهم والذب عن أعراضهم، وبعد وفاتهم الترحم عليهم ونشر فضائلهم ومناقبهم والاقتداء بهم؛ لذا فإنني أدعو إخواني من الدعاة وطلبة العلم والمعلمين إلى إبراز هذا الجانب في حياة الأمة كبارها وصغارها، حتى تعظم الصلة بينها وبين علمائها، وحتى نعطي العلماء شيئا من فضائلهم وحقوقهم. وإننا قد رأينا بعيدًا وقريبًا احتفاء الهلكَى المنحرفين بفقدان رموز الفن والدناءة والخسارة والدعارة، فكيف يصح أن يُبجلَّ القبيح ويُهملَ الصادق النافع النصوح؟! فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ [الرعد: 17]. أيها الإخوة، لقد حمل الشيخ رحمه الله بين جنبيه نفسًا كبيرة في العلم والخلق والسماحة والمحبة، تجمل بالزهد وسلامة الصدر، وحاز الورع والنزاهة، وامتلك علوَّ الهمة والصبر، وسارع إلى كل بر وفضل. ما جالسه أحد إلا أحبه وأدرك علميته واستمتع بطيب حديثه وكريم خلقه. خليلي عـودا بي لنغتنـم الأجـرا على آل بـاز إنهم بالثنـا أحرى وزهدك في الدنيـا لو أن ابن أدهمٍ رآه رأى فيـه المشقـة والعسرا بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم... |