روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نُصب، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: وَقُلْ جَاء ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَـٰطِلُ إِنَّ ٱلْبَـٰطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81]. قُلْ جَاء ٱلْحَقُّ وَمَا يُبْدِىء ٱلْبَـٰطِلُ وَمَا يُعِيدُ [سبأ:49]. قال النووي رحمه الله في شرح مسلم: "وهذا الفعل إذلال للأصنام ولعابديها, وإظهار لكونها لا تضر ولا تنفع ولا تدفع عن نفسها كما قال الله تعالى: وَإِن يَسْلُبْهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ [الحج:73]. ثم قال: وفي هذا: استحباب قراءة هاتين الآيتين عند إزالة المنكر". وقال العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد عند الكلام على فتح مكة: "وبثّ رسول الله سراياه إلى الأوثان التي كانت حول الكعبة فكسرت كلها؛ منها اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ونادى مناديه بمكة: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنماً إلا كسّره. اهـ لو قـد رأيتَ محمداً وقبيلَه بالفتح يـوم تُكسَّـرُ الأصنامُ لرأيتَ دينَ الله أضحى بيِّناً والشرك يغشَى وجهَه الإظلامُ ثمة قاعدة ثابتة لا تتخلف، كأنها سنة كونية ماضية أنه ما إن تتوجه دولة مسلمة إلى ممارسة حقها في الانسجام مع دينها وعقيدتها إلا وينتفض الغرب الصليبي كالملسوع يهدد تلك الدولة ويهيج عليها حلفاءه وأصدقاءه من الأنظمة المتمرغة عند أقدامه، وصدق الله تعالى: وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ ٱلْيَهُودُ وَلاَ ٱلنَّصَـٰرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]. هذا ما رأيناه في حدث الأسبوعين الماضيين حينما قررت حكومة طالبان في أفغانستان تحطيم الأصنام. إنني لا أعلم خلافاً بين المسلمين في وجوب إزالة كل ما يعارض توحيد الله تعالى وإفراده وحده بالعبودية، عند القدرة على ذلك، وسواء في ذلك الأصنام التي تعبد اليوم في غير ديار المسلمين أو التي نحتت لتعبد ثم لم تعد تعبد اليوم، وذلك أن المسلمين مطالبون بالعمل على تعبيد الناس كل الناس في الأرض، كل الأرض لله الواحد القهار، ثم لا تجد مؤمناً موحداً إلا نافراً من كل ما يُعبد سوى الله تعالى، سواء كان صنماً من حجر أو بقر أو بشر. وإن على عاتق الأمة المسلمة مسئولية شرعية عليا تجاه الإنسانية، وهي الأخذ بأيدي الناس برفق ورحمة وعزم أكيد إلى توحيد الله وعبادته، وإسلام الوجه له سبحانه واتباع شرع. فكيف يستقيم ذلك مع إبقاء أصنام في ديار المسلمين يعبدها إلى اليوم الملايين من البشر؟!. إنه لا يستقيم ذلك عند مسلم صادق الإيمان نبيه الخاتم محمد، مدرك لمسئوليته الإيمانية، معظم لربه، معتز بدينه، كاره للكفر والشرك. إنما يستقيم ذلك فقط عند مرضى القلوب، أو الغافلين، أو الجاهلين، أو أناس قد سيطرت عليهم الأوهام وظنوا أن ترك الأصنام في ديار المسلمين من مصلحة الدعوة، وأن مجاملة الكفار في أمر يمس العقيدة من شأنه أن يحسّن صورتنا عند العالم المتحضر!!، أو أن ذلك يجرّ علينا الحصار أو الدمار، وأن الكفار الآن يملكون من وسائل ذلك ما لا نملك، ونسوا أن الله العظيم الذي نحطم الأصنام لأجله توحيداً وتقديساً يدافع عن الذين آمنوا، أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوّفُونَكَ بِٱلَّذِينَ مِن دُونِهِ [الزمر:36]. ثم زعموا أن تحطيم الأصنام قد يفضي إلى شر أعظم مثل اتخاذهم ذلك ذريعة لسبّ الله تعالى وأشاروا إلى قوله سبحانه: وَلاَ تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108]. وزعموا أن ذلك قد يفضي إلى إثارة الكفار والوثنيين ويضاعف من عداوتهم لنا ولإيذائهم لإخواننا بالقتل أو التعذيب، وهو استدلال متهافت، ومغالطة مكشوفة. فهل كسرنا أصناماً لهم حين كسروا عظام إخواننا وجماجمهم في كل مكان في العالم، في فلسطين وفي العراق وفي الهند وفي البوسنة والهرسك وفي كشمير وفي الشيشان وغيرها من بقاع الأرض؟! أي أصنام لهم كسرناها حين هدم عباد البقر المسجد البابري؟ وأي أصنام كسرناها حين أحرق اليهود أقصانا، وحين يقصدونه وأهله صباح مساء بالأذى والنكال؟ هل كسرنا لهم أصناماً حين ذبحونا بكل وحشية، وسفحوا دماءنا في البوسنة والهرسك؟ أي صنم لهم كسرناه حين اغتصبوا نساءنا هناك، وفضّحوا بناتنا؟! أي صنم كسرناه حين كتب اليهود على الجدران في فلسطين أقزع السباب لنبينا الكريم صلوات الله وسلامه عليه، وحين ألقوا برؤوس الخنازير في ساحات بعض مساجدنا، وحين طبعت بعض الشركات اليهودية اسم نبينا المصطفى أسفل النعال، وعلى الملابس الداخلية النسائية ؟! شاهت الوجوه. إن الحقد الذي يغلي في عروق الكافرين علينا على اختلاف ألوانهم ومللهم، لم يتوقف يوماً، ولم يهدأ ساعة، ولم يحتج إلى صنم نكسره، وصدق الله تعالى: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـٰتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217]. وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء [النساء:89]. قَدْ بَدَتِ ٱلْبَغْضَاء مِنْ أَفْوٰهِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118]. إن عباد البقر في الهند في أعيادهم الدينية يذبحون إخواننا المسلمين هناك حين يرونهم يذبحون الأبقار، فهل نحرم على أنفسنا ما أحل الله لنا حتى لا نستفز مشاعر الكافرين، وإن الكفار في الغرب، وجمعيات حماية البيئة يملؤون الدنيا ضجيجاً بالتشنيع على حجاج بيت الله الحرام لوحشيتهم ! بذبح مئات الآلاف من الأنعام في البلد الحرام، فهل نستخفي بمناسكنا، ونتوارى عن الأعين ونحن نؤدي عبادتنا لئلا نتهم بالوحشية من الغرب الصليبي الذي يمعن في الوحشية على المسلمين المستضفين في كل مكان؟!. أحجار يتباكى العالم عليها، بينما لم يذرف دمعة على تكسير جماجم المسلمين وعظامهم بالقصف البريطاني الأمريكي اليومي على شعب شقيق، ما قيمة الأحجار بجانب تجويع الإنسان في السودان، ليركع السودان أمام الضغوط الدولية الكارهة لتوجهه الإسلامي، أي قيمة للأحجار بجانب الجرائم التي ارتكبها الصليبيون في البوسنة والهرسك في حق المسلمين، ألا سحقاً لأصنامكم .. تعظيماً لله، وترغيماً لأنوف الحاقدين. قال المنهزمون: إن لدينا بمصر أصناماً لا يعبدها أحد، والأصنام في أفغانستان كذلك لا يعبدها الأفغان، فلم تكسر وهي ثروة وطنية تدر دخلاً كبيراً في مجال السياحة، وتعتبر تراثاً إنسانياً ينبغي المحافظة عليه !!، وهو كلام لا يصدر عن إيمان أو علم أو عقل، فَٱصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ ٱلَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ [الروم:60]. إن صنم بوذا يعبده الملايين من البشر، وهم ضالون بعبادته، وهم مع صنمهم في نار جهنم إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء:89]. وقد تعجل بعض أهل العلم – غفر الله له – فأنكر عليهم تحطيم الصنم، وناشدهم ألا يفعلوا وحثهم على الاهتمام بحل مشكلتي الفقر والأمن، وكان ينبغي أن يقول لهم: حطموا الأصنام طاعة للملك الواحد الديان، واهتموا بمشكلتي الفقر والأمن وسع الطاقة، والله الرزاق الوهاب يمن عليكم بالأمن والسعة في الرزق وصدق الله فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ ٱلَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ [قريش:3-4]. وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ ءامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـٰتٍ مّنَ ٱلسَّمَاء وَٱلأرْضِ [الأعراف:96]. ورحم الله الفاتح المسلم محمود سبكتكين الذي عرض عليه عند فتح الهند في عام 418هـ أطنان من الذهب ليترك لهم الصنم الكبير المسمى بسومونات، يقول ابن كثير في البداية والنهاية: "وقد كانوا يفدون إليه من كل فج عميق كما يفد الناس إلى الكعبة البيت الحرام وأعظم، وينفقون عنده النفقات والأموال الكثيرة التي لا توصف ولا تعد، وكان عليه من الأوقاف عشرة آلاف قرية ومدينة مشهورة وقد امتلأت خزائنه أموالاً وعنده ألف رجل يخدمونه وثلاثمائة رجل يحلقون رؤوس حجيجه وثلاثمائة رجل يغنون ويرقصون على بابه ويضرب على بابه الطبول والبوقات وكان عنده من المجاورين ألوف يأكلون من أوقافه وقد كان البعيد من الهنود يتمنى لو بلغ هذا الصنم!!". اهـ فلم يستمع الفاتح الصالح إلى نصائح غير مبصرة ممن حوله بترك الصنم والانتفاع بالمال في تقوية الجيش لمزيد من الفتوحات، واستجاب لنداء الإيمان بتكسير الصنم وقال قولته المشهورة: "إني فكرت في الأمر الذي ذكر فرأيت أنه إذا نوديت يوم القيامة: أين محمود الذي كسر الصنم أحب إلى من أن يقال الذي ترك الصنم لأجل ما يناله من الدنيا" قال ابن كثير: "ثم عزم فكسره رحمه الله فوجد عليه وفيه من الجواهر واللآلئ والذهب والجواهر النفيسة ما ينيف على ما بذلوه له بأضعاف مضاعفة، ونرجو من الله له في الآخرة الثواب الجزيل الذي مثقال دانق منه خير من الدنيا وما فيها مع ما حصل له من الثناء الجميل الدنيوي فرحمه الله وأكرم مثواه". اهـ وصدق الله: إِن يَعْلَمِ ٱللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [الأنفعال:70]. رحم الله الفاتح المسلم الكبير، فقد استشعر المسئولية الإيمانية العظمى فحطم الصنم. وقد ذكر في وسائل الإعلام أن اليابان التي يعبد الناس فيها بوذا عرضت على طالبان آلاف الملايين من الدولارات لاستنقاذ الصنم، ونعتقد أن الحرص على إرضاء الله عند إخواننا في طالبان أعظم وأكبر من هذه الأموال، رغم العلم الأكيد بحاجتهم الماسة إلى المال، ولكن المجاهد الذي يبذل نفسه وما يملك لله لا يؤثر على طاعته ومحابه شيئاً، فاللهم اربط على قلوبهم، وأعذهم من فتنة المال، وعوضهم عما تركوه لأجلك نصراً وفتحاً وتمكيناً، وأغنهم بفضلك إنك جواد كريم. ثمة أمر أحب أن أنبه إليه، وهو أن الأخوة الإسلامية تفرض علينا نصرة إخواننا المسلمين، ومؤازرتهم في صراعهم لقوى العالم الظالم المتحامل على المسلمين لا سيما في القضايا التي تمس عقيدتنا كهذه المسألة، وأن علينا أن نشارك إخواننا في الموقف مشاركة إيجابية، لا أن نقف متفرجين، نشاهد التهديد والتخويف يصب عليهم من كل صوب، فإن هذا الموقف السلبي يعارض أبسط ما تعلمناه صغاراً من أن المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه. ولهذا نقول لإخواننا في أفغانستان .. حطموا الأصنام، وربنا وربكم الكبير المتعال؛ يحفظكم ويرزقكم، وليذهب عباد الأصنام إلى الجحيم، وليذهب معهم من شاء من المفتونين؛ عشاق التراث الإنساني من الأوثان!!. وثمة همسة أهمسها في آذان إخواننا من طالبان، احذروا أن يستدرجكم أحد ليحول موقفكم الإيماني هذا إلى مناورة سياسية، فيفقدكم المصداقية، ويزيل أقدامكم عن أرضكم الصلبة، ويحرمكم – لا قدر الله – من عون الله، ومظاهرة إخوانكم المؤمنين لكم. قال ابن القيم في زاد المعاد: "لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً وهي أعظم المنكرات فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة". اهـ. |