أما بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل. عباد الله, هذا حديث من أحاديث رسول الله العظيمة اشتمل على توجيه من توجيهاته الجليلة الكريمة, حديث عن رسول الله فيه وعيد , فيه نذير وتخويف وتهديد, فيه ثلاثة أمور من فعل واحدة منها أو فعلها كلها فقد زلت قدمه إلى جهنم وبئس المصير. هذا الحديث الشريف يرويه الصحابي البر الأغر, أبو ذر صاحب العلم والزهادة, والخير والعبادة, جندب بن جنادة رضي الله عنه وأرضاه, هذا الصحابي الذي قال عنه أهل السير: إن الله أكرم وجهه فما سجد لصنم ولا وثن, سمع برسول الله وبينه وبين رسول الهدى مسافة عظيمة فخرج بقربةٍ من الماء مهاجرًا إلى الله ورسوله, ووقف على رسول الله فعرض عليه الإسلام والحنيفية, ونبذ الأوثان والجاهلية, فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. ثم خرج وأرضاه وقد دخل الفرح والسرور إلى قلب رسول الله بإسلامه. ذكر أهل السير أنه لما نطق بالشهادة على رأس رسول الله تهلل وجه الرسول بالفرح والسرور. كان خامس خمسة, أو سادس ستة, ما على الأرض مؤمن سواهم. أسلم وأرضاه وخرج من ساعته فوقف على عبدة الأوثان, وصاح بشهادة الإيمان: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله, فقاموا فضربوه وآذوه وأهانوه, فغابت شمس ذلك اليوم على أبي ذر وفي صحيفة أعماله صفحة من الابتلاء في الله ولله. روى هذا الحديث الشريف الذي فيه ثلاثة أمور عمت بها البلوى وكثرت منها الشكوى, ثلاثة أمور ضاعت بها الحقوق والواجبات, وكفرَ أصحابها نِعَم الله وِنعَم عباد الله عليهم, يقول هذا الصحابي وأرضاه في حديث اتفق الشيخان على صحته وثبوته عن رسول الله يقول : سمعت رسول الله يقول: ((ما من رجل يدَّعي لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر, ومن ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار, ومن قال لرجل: يا كافر أو يا عدو الله وليس كذلك إلا حارت عليه)) [1]. ثلاثة أمور عظيمة: · أولها عقوق للوالدين ولعب بالأنساب وتلاعب بالأسماء. · وأما ثانيها فإنه اعتداء على حقوق عباد الله وظلم الناس في تلك الحقوق. · وثالثها ـ والعياذ بالله ـ تكفير عباد الله من دون حجة من الله وبرهان. أما الأمر الأول: فهو اللعب بالأنساب حينما ينسب الإنسان نفسه لغير أبيه فيقول إنه ابن فلان وليس كذلك, سواء انتسب إلى أب غير أبيه أو إلى جد غير جده, أو إلى قبيلة غير قبيلته فعليه لعنة الله، ورسوله والناس أجمعين, حينما كَفَر نعمة والديه, وحينما عبث بنسبه وادعى ما ليس له. وأعظم ذلك أن يدعي الشرف والنسب إلى رسول الله بدون حجة ولا برهان, فالناس مأمونون على أنسابهم إلا من ادعى الشرف. تغيير الإنسان لنسبه فيه كفر بنعمة الله وعقوق للوالدين يجحد أباه ونسبته إلى أبيه فتحل عليه لعنة الله، حينما يعق والده حلت عليه لعنة الله, حينما كَفَر قرابته حلت عليه لعنة الله, حينما غش المسلمين حلت عليه لعنة الله, حينما دخل في قوم وليس منهم. الأنساب أمرها خطير, وشأنها عظيم وليس بحقير, ليس طعمة سائغة لكل أحد يعبث فيها أو يغير فيها, فمن كفر نعمة أبيه وانتسب لغير أبيه يريد الغنى أفقره الله, ومن انتسب لغير أبيه يريد العزة أذله الله, ومن انتسب لغير أبيه يريد الكرامة أهانه الله, فاتقوا الله يا عباد الله في الأنساب واحفظوا أنسابكم. وكما أن هذا الوعيد فيمن غير نسبه, كذلك العبث في الأوراق وفي المستندات داخل في هذا, تزوير الشهادات, تزوير الوثائق, العبث فيها كله من العبث في الأنساب, إذا تضمنت نسبًا غير النسب الصحيح, ومن أعانه على شيء من ذلك فقد عصى الله ورسوله واعتدى حدود الله, وأعان على ظلم عباد الله. أما الأمر الثاني: عباد الله فهو الذي حذر منه النبي تحذيرًا عظيمًا, وهو العبث في حقوق الناس, ظلم الناس في حقوقهم, وادعاء أمور ليست للإنسان, أكل أموال الناس بالدعاوى الكاذبة حينما يظلم الناس ويدعي ما ليس له يقول : ((ومن ادعى ما ليس له فليس منا)) تبرأ منه رسول الله أن يكون على سنته وهديه الكامل ثم قال يبين ما ينتهي به المآل لمن فعل هذه الخصلة العظيمة: ((وليتبوأ مقعده من النار)) إذا ظلم الناس وادعى حقوقهم بالباطل فليعلم أنه يفسح لنفسه مكانًا في نار جهنم فليستقل ليستكثر. قال العلماء: ادعاء الإنسان ما ليس له أعظمه وأشده ادعاء العلم. التعالم من الجهلاء من أعظم الدعاوى الزائفة, وأشدها ظلمًا واعتداء لحدود الله جل جلاله يلبس لباس العلماء, ويفتي بفتوى العلماء, ويدعي أنه مثلهم, والله يشهد أنه جاهل بالعلم, يحل الحرام ويحرم الحلال, ومن أظلم ممن افترى كذبًا على رب العزة والجلال. لا يقتصر الأمر على إنسان يدعي أنه شيخ أو أنه عالم بل لربما ادعى الإنسان أنه عالم بكلمة من كلماته, نعم يا عباد الله حينما نجلس في مجالسنا ونتكلم في أمور العلم دون بينة ولا برهان من ربنا, حينما نذكر فتاوى العلماء ونُعقب على فتوى فلان وفلان من أهل العلم ونستهزئ بفتاوى العلماء ونكذبها ونردها فقد ادعينا العلم واعتدينا حدود الله جل جلاله. لنحترم العلماء ولنوقر أهل الحكمة والقرآن الذين عظم الله شأنهم ورفع مكانهم، لنتأدب مع خيارنا وصلحائنا, ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه, لا تتكلم في الأحكام, لا تتكلم في حلال ولا حرام, ورد الأمر إلى أهله من الأئمة الأعلام وإلا فقد تقحمت نار الله على بصيرة. من ادعاء الإنسان ما ليس له ادعاؤه للصناعات والتجارات, فهذا يدعي أنه طبيب فيُتلف أرواح الناس وأجسادهم ويعتدي حدود الله بأذيتهم والإضرار بهم، إذا فعل ذلك فليس منا كما قال وليتبوأ مقعده من النار, لا يقتصر الأمر على الذي يتطبب, بل إن الطبيب إذا علم أن هذا المرض ليس من علمه, وأنه خارج عن فهمه ينبغي أن يرفع يده, وأن يتقي الله في عباد الله, وأن لا يعرض أرواحهم وأجسادهم للخطر وإلا فليتبوأ مقعده من النار. وهكذا كل الصناعات فالإسلام في أحكامه فيه عموم وشمول لا يقتصر الأمر على العلم والطب, بل يشمل الحداد والنجار, وكل من ادعى صنعة من الصناعات فغش المسلمين واعتدى على حدود رب العالمين وأكل أموالهم بالباطل. من ادعاء الإنسان ما ليس له ظلم الناس في أموالهم واعتداء حدود الله جل وعلا بادعاء أراضيهم, غصب الأراضي وأخذها بالباطل ظلم وجريمة, ومن فعل ذلك فليس منا وليتبوأ مقعده من النار. ))من ظلم مسلمًا قيد شبر من الأرض طُوِّقهُ يوم القيامة من سبع أراضين (([2]. قال العلماء: يجعل الله رقبته تسع على قدر ما غصب على قدر سبع من الأراضين. سبحان من لا يُعجزه شيء, لا تقل هذا أمر غريب, ولا تقل أمر عجيب, فالله على كل شيء قدير, ولقد صح في الحديث أن المكان الذي يجلس فيه الكافر من نار جهنم وهو مقعده من النار كما بين مكة والمدينة كما ثبت في الحديث الصحيح [3]. هذا مكان جلوسه فسبحان من بيده ملكوت كل شيء. من ظلم قيد شبر من الأرض فآذى عباد الله في حقوقهم طوَّق الله رقبته بذلك القدر من سبع أراضين, قال بعض العلماء: إن الله يجعل هذا الظلم الذي أخذه من إخوانه المسلمين محمولاً على ظهره في عرصات يوم القيامة, فهل تطيق حمل هذه المظالم, وهل تطيق أن تقف بهذه المآثم بين يدي الله جل جلاله؟ ألا فليتق الله المسلمُ, ولا يدعي ما ليس له, وأعظمُ ما يكون ادعاء الحقوق الكاذبة إذا كان عن طريق القضاء بشهادات الزور والعبث في الأوراق وتزويرها فكل ذلك اعتداء على حدود الله, ومن فعل ذلك فليس منا وليتبوأ مقعده من النار. أما الأمر الثالث: فقد أشار النبي إليه بقوله: ((ومن قال لرجل يا كافر أو يا عدو الله وليس كذلك إلا حارت عليه)). تكفير المسلمين, تبديع المسلمين, تضليل المسلمين, بدون حجة من كتاب الله, وسنة رسول الله ضلال, شأن أهل الأهواء, وأهل الضلال, نسأل الله السلامة والعافية, فأول بدعة في الإسلام عظمت بها البلوى بدعة التكفير, من الخوارج, حينما كفروا الأمة وكفروا علماءها وكفروا صلحاءها, وخرجوا عن جماعة المسلمين. التكفير بلاء عظيم ومن قال لأخيه المسلم يا كافر فإن كان كافرًا وإلا رجعت كلمته عليه ـ والعياذ بالله ـ لا يختص الأمر بكلمة كافر, بل لو قال له يهودي أو نصراني أو مجوسي أو غير ذلك ـ والعياذ بالله ـ من كلمات الكفر فهو داخل في هذا الوعيد, إن للسان هنَّات وله سيئات وخطيئات, فطوبى لمن عصمه الله بعصمته. عليك نفسك فاشتغل بمعايبها ودع عيوب الناس للناس لا تكن جريئًا على تكفير المسلمين, أما إذا كان الإنسان عنده علم ونور وبصيرة من كتاب الله وسنة رسول الله فله الحق أن يحكم بالكفر والبدعة على من انطبقت عليه الحجة أنه كافر ومبتدع, أما أن يترك الأمر لكل من هب ودب, وندخل إلى عقائد الناس ونخرجهم من دين الله وسنة رسول الله بدون بينة ولا حجة فظلم واعتداء لحدود الله رب العالمين. ألا فلنتق الله, وكان خيار الأمة وصلحاؤها إذا سئلوا عن الأمور العظيمة التي يكون الإنسان بها قد زلت قدمه, يقولون من الورع: أخشى عليه الكفر, أخاف عليه الكفر, فإذا استبان الأمر على كماله قالوا: هو كافر وعدو لله ورسوله. اللهم إنا نسألك العصمة من الزلل, والسداد في القول والعمل, اللهم سلمنا وسلم منا واشرح صدورنا ونور قلوبنا وارض عنا. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه البخاري في كتاب المناقب, ح 3508 (6/623) فتح, ومسلم في كتاب الإيمان, باب حال إيمان من قال لأخيه المسلم يا كافر (2/49) بشرح النووي, واللفظ لمسلم. [2] كما في البخاري في كتاب المظالم, باب إثم من ظلم شيئًا من الأرض (5/123) فتح, ومسلم في كتاب المساقاة, باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها (11/48) بشرح النووي, عن سعيد بن زيد. [3] رواه الترمذي في كتاب صفة جنهم, باب ما جاء في عظم أهل النار, عن أبي هريرة (7/301) تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي للمباركفوري. |