أما بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل. عن علي وأرضاه قال: حدثني رسول الله بأربع كلمات ((لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثًا، لعن الله من غير منار الأرض)) [1]. "حدثني رسول الله " فنعم المحدِّث ونعم المحدَّث وأرضاه، حدثه بأربع كلمات اشتملت على هذه اللعنات، فيهن موبقات مهلكات، اشتملت على أذية المؤمنين والمؤمنات وإضاعة حق فاطر الأرض والسموات. "لعن الله" ومن لعنه الله فقد أبعده من رحمته وطرده من دار كرامته وجنته، من لعنه الله أعمى قلبه وأشقى حياته ونغّص عيشه ونكده عليه، من لعنه الله غضب عليه سبحانه وتعالى ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى [طه: 81]. قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت [المائدة: 60]. لا حول للعبد ولا طول، ولا قوة له أن يقف أمام لعنة الله جل جلاله، وإذا حلت لعنة الله على العبد لم يبق شيء في السموات والأرض إلا لعنه أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون [البقرة: 159]. أما الأمر الأول: فقوله صلوات الله وسلامه عليه: ((لعن الله من ذبح لغير الله)). سبحان من خلق الخلق بقدرته، خلق لنا البهائم وسخرها برحمته ولطفه، سخَّر لنا لحمها، سخر لنا خيرها، سخر لنا أن نحمل عليها وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس [النحل: 8]. والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة [النحل: 8]. سخر لنا الإبل والبقر والغنم رحمة منه سبحانه ذي الجود والكرم، سخر لنا لحمها، سخر لنا ألبانها وأصوافها وأشعارها أثاثًا ومتاعًا إلى حين، فلو نظرت إلى خلقة البعير عظم الله جل جلاله في قلبك وقلت بملء القلب: سبحان العظيم الديان. أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت [الغاشية: 17 ـ 20]. فذكر الإبل قبل السموات والأرض والجبال. هذا الحيوان الضخم العظيم سخره الله لابن آدم، كل ذلك منه ذو الفضل والتكريم سخره للإنسان حتى إن الطفل الصغير يمسك بزمام البعير يقوده حيث شاء بقدرة الله جل جلاله، سخر لنا ألبانها طعامًا وغذاء، سخر لنا حتى أبوالها فأبوال الإبل شفاء ودواء. سبحان ذي العظمة والجلال، سبحان ذي الوحدانية والكمال، سخرها سبحانه وتعالى فسخر ظهورها وسخر جميع ما يكون منها حتى أرواثها سمادًا وصلاحًا لمصالح العباد. كل ذلك عباد الله؛ لنذكره مع الذاكرين ونشكره مع الشاكرين، تبارك الله رب العالمين لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون [الزخرف: 13 ـ 14]. سخرها؛ لكي تحيا قلوبنا بذكر الله وتعمر ألسنتنا بشكره وحمده جل جلاله، فإن حمدناه شكر منا الحمد، والشاكر وهو الذي يجزي الشاكرين. عباد الله: فإذا أراد العبد أن يذبحها وأن يريق دماءها أخذ الله عليه العهد أن يجعل ذبحها لوجهه وأن يجعل إراقة دمائها على الأرض له سبحانه جل جلاله، فلو أراق قطرة دم واحدة وقصد بها غير الله جل جلاله، فقد ضل ضلالاً بعيدًا، أشرك بالله جل جلاله، لو أراق قطرة من دم تقربًا لغير الله فقد أشرك بالله وحرم عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار. حق لله جل جلاله لا يأذن به لأحد سواه، ولما أراد النبي أن يُضحي قال صلوات الله وسلامه عليه: ((بسم الله والله أكبر، اللهم هذا منك ولك، اللهم تقبل هذا من محمد وآل محمد)) [2]. ((اللهم هذا منك)) أنت الذي خلقته، وأنت الذي أوجدته، وأنت الذي أجريت الروح في هذا الجسد، وكذلك هو لك سبحانك جل جلالك وتقدست أسماؤك. فمن أراق دماءها لغير الله فقد كفر بالله والعياذ بالله، وإن مات على هذا الاعتقاد فإن الجنة عليه حرام نسأل الله السلامة والعافية. هذا البلاء العظيم: الذبح لغير الله قد لا يقع بصورة واضحة، ولكنه يقع عند كثير من الناس بصورة خفية بسبب ما يُدلِّسُه الشيطان ويُلَبسُه عليهم. ومن أعظم ما عمت به البلوى وعظمت به الشكوى، ذبح كثير من الناس عند بناء البيوت والعمائر والفلل والمساكن يذبحون ما شاءوا من بهيمة الأنعام يلطخون أبواب الدور، ويعتقدون في ذلك دفعًا لأذى الشياطين والجن. سبحان الله العظيم، من الذي بيده ملكوت كل شيء, وهو يجير ولا يجار عليه؟ من الذي يغيث؟ من الذي يعيذ؟ هو الملاذ والمعاذ سبحانه جل جلاله، يريقها لمن لا يملك له نفعًا ولا ضرًا ولا حياة ولا موتًا ولا نشورًا. تعالى الله عما يشركون. فلا يجوز إراقة مثل هذه الدماء. ومثل هذه الدماء محرمة فلا يجوز لإنسان أن يطعمها؛ لأنها من الفسق الذي أهل به لغير الله. فاتقوا الله عباد الله، حقوق الله عظيمة. حقوق الله في توحيده والإيمان به سبحانه والإخلاص لوجهه عظيمة لا يأذن أن يُصرف منها شيء لأحدٍ كائنًا من كان، ولو كان ملكًا مقربًا أو نبيًا مرسلاً، فحق الله لله، ولا إله إلا الله. أما الكبيرة الثانية عباد الله فلعن الوالدين. ومن هذا الذي يستطيع أن يلعن أباه أو أمه؟ من هذا الذي عنده الجرأة حتى يرفع وجهه في وجه أبيه فيلعنه ـ والعياذ بالله ـ قالوا: يا رسول الله، ويلعن الرجل والديه؟ قال: ((نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه)) [3]. سبُّ آباء الناس وسب أمهاتهم يتسبب في سب والديك فإياك أن تلعن آباء الناس فيُلعن آباؤك وإياك أن تلعن أمهاتهم فتلعن أمهاتك. فاتق الله جل جلاله في والديك. من الناس من جعله الله رحمة لوالديه يحسن إلى الأيتام، ويحسن إلى الأرامل والضعفة من بني الإسلام فيترحمون على والديه فيكون مفتاح خير عليهم في الدنيا والآخرة. ومن الناس من هو شقي طريدٌ يؤذي الناس حتى يكون سببًا في لعن والديه. نسأل الله السلامة والعافية من لعن والديه أصاب العقوق، ومن أصاب العقوق لم يأمن من سوء الخاتمة ـ والعياذ بالله ـ قال : ((لا يدخل الجنة عاق)) [4]. قال بعض العلماء: ((لا يدخل الجنة عاق)) أي أن الله لا ييسر للعاق حسن الخاتمة، بل يموت على سوء الخاتمة فيدخل النار والعياذ بالله. الكبيرة الثالثة: إيواء المحدثين ((لعن الله من آوى محدثًا)). المحدث: هو المجرم الذي أحدث الفساد في الأرض. كانت العرب في الجاهلية يقدم السفاحون على سفك الدماء فيذهبون إلى قراباتهم إلى أبناء العم، وإلى القبيلة والعشيرة فيجتمعون حولهم ويحفظون هذا القاتل ويدافعون دونه. كل ذلك حمية وعصبية وظلمًا وعدوانًا, فلعن الله ولعن رسوله من آوى المجرمين ونصرهم وآزرهم ووقف معهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. كيف تستقيم الحياة, وكيف يطمئن الناس إذا أصبح المجرمون في مأمن مع ما يأتون ويفعلون من الجرائم والفواحش والمنكرات؟ بهذا تسود الفوضى ويصبح الناس في قلق عظيم وبلاء عميم. فإياك أن تناصر الظالمين، وإياك أن تجادل عن الذين يختانون أنفسهم فتكون معهم وتحشر في زمرتهم ـ والعياذ بالله ـ احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم [الصافات: 22، 23]. احشروا الذين ظلموا ومن ناصروهم ومن آزروهم وكانوا معهم، فإياك أن تكون للظالمين معينًا أو ظهيرًا. إيواء المحدثين أشد ما يكون في الحرم الذي حرمه الله ورسوله ومن ذلك حرم المدينة قال : ((المدينة حرم من عير إلى ثور، من أحدث فيها حدثًا أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً يوم القيامة)) [5]. قال بعض العلماء: "لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً، يوم القيامة" أي أن الله لا يقبل منه حسنة واحدة لا صرفًا ولا عدلاً، لا فريضة ولا نافلة. كل ذلك بسبب حرمة المدينة وما لها عند الله جل جلاله من هذا الأمر العظيم. إيواء المحدثين، في حرم رسول الله يكون بصور متعددة حتى ولو أجرته بيتك فإنه إيواء للمحدث. إذا علمت أنه ذو شر وأن منه الفساد وأنه ينشر الفحشاء وأنه يتخذ من بيتك وسيلة لإيذاء المؤمنين ونشر الفواحش بينهم فإنك ممن آوى محدثًا في حرم رسول الله . فاتق الله جل جلاله. إيواء المحدثين، إيواء أعداء الله وأعداء رسول الله أو أعداء صحابته رضوان الله عليهم فليتق الله المسلم وليعلم أن الله سائله عما يكون منه ويذر. اللهم إنا نعوذ بك من لعنتك, وفجاءة نقمتك وتحول عافيتك ومن جميع سخطك. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى ومن العمل ما يوجب منك الرضا برحمتك يا أرحم الراحمين. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في كتاب الأضاحي/باب تحريم الذبح لغير الله تعالى ولعن فاعله (13/141) بشرح النووي. [2] رواه مسلم (13/122) بشرح النووي, ورواه أبو داود من حديث عائشة في كتاب الأضاحي/ باب ما يستحب من الضحايا. [3] أخرجه البخاري في كتاب الأدب/ باب لا يسب الرجل والديه (10/417) فتح، ومسلم عن عبد الله بن عمرو. [4] أخرجه النسائي عن عبد الله بن عمرو في كتاب الأشربة/ باب الرواية في المدمنين في الخمر (8/318) بشرح السيوطي مع حاشية السندي. [5] أخرجه البخاري في كتاب فضائل المدينة/ باب حرم المدينة (4/97) فتح، ومسلم في كتاب الحج/ باب فضل المدينة (9/142 بشرح النووي، عن علي بن أبي طالب. |