أما بعد: نواصل معكم أيها الأخوة، حديثنا عن قصص القرآن، فقد كان حديثنا في الجمعة الماضية، عن قصة أيوب عليه السلام، واخترنا لكم في هذه الجمعة، قصة نبي آخر من أنبياء الله عز وجل، لنعيش معها، ونأخذ منها العبرة والعظة، كما قال سبحانه: لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاّوْلِى ٱلالْبَـٰبِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْء وَهُدًى وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف:111]، وقال تعالى: فَٱقْصُصِ ٱلْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:176]، وقال تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلْغَـٰفِلِينَ [يوسف:3]. عباد الله، قصتنا لهذه الجمعة، هو قصة نبي الله لوط عليه السلام مع قومه، الذين ابتدعوا فاحشة لم يسبقهم إليها أحد من بني آدم، ألا وهي اللواط، إتيان الذكران من العالمين، أجارنا الله وإياكم منها، فكم في ممارسة اللواط من وقاحة وانتكاس فطرة، فلما انتشرت هذه العادة الخبيثة بينهم، دعاهم لوط عليه السلام، إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، ونهاهم عن تعاطي هذه المحرمات، والفواحش والمنكرات، والأفاعيل المستقبحات، لكنهم لم يرتدعوا ولم ينفع فيهم دعوة نبيهم لوط عليه السلام، فتمادوا في طغيانهم، وبقوا على ضلالهم، واستمروا في فجورهم وكفرانهم، فلما رأى الله عز وجل منهم ذلك وأنه لا فائدة معهم، أحل بهم من البأس، الذي لم يكن في خلدهم وحسبانهم وجعلهم مثلة في العالمين، وعبرة يتعظ بها أولو الألباب من العالمين، قال سبحانه: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ ٱلْفَـٰحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّن ٱلْعَـٰلَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلرّجَالَ شَهْوَةً مّن دُونِ ٱلنّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنجَيْنَـٰهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ ٱلْغَـٰبِرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُجْرِمِينَ [الأعراف:80-84]. عباد الله، لقد كانت أهم قضية في دعوة لوط عليه السلام، هي هذه القضية؛ لأن قومه لو استجابوا له في دعوته إلى الإيمان بالله، وعدم الإشراك به، لما كان لاستجابتهم أي معنى، إذا لم يقلعوا عن عاداتهم الخبيثة التي اجتمعوا عليها، ولم يتستروا من فعلها، بل أصبحت جزءاً من نظام حياتهم، ولهذا كانت دعوة لوط عليه السلام منصبة على هذه الظاهرة، وهنا أمر لابد من التنويه إليه، وهو أن كل نبي بعثه الله لهداية قومه، ما بعث إلا لإصلاح ما فسد من أخلاقهم وعاداتهم، وهذا يقتضي أن يتصدى النبي لعلاج ومواجهة أخطر المشكلات، مهما كلفه ذلك من تضحيات، فهل يفقه الدعاة إلى الله عز وجل هذه اللفتة، ويأخذون عبرة ودرساً من نبي الله لوط عليه السلام، إن سلوك بعض المصلحين في عصرنا، سلوك عجيب جداً، تجدهم يعالجون قضايا، عفا عليها الزمن، ويسكتون عن قضايا هي لب فساد مجتمعهم، ونسمع كذلك كثيراً من المتحدثين والوعاظ، إما في الإذاعات، أو على الشاشات المرئية، يتحدثون عن أمور تافهة، ويدندنون حول مواضيع لا تمت إلى واقعهم بحال، ولاشك أن هذا قصور في الفهم، المسلمون يفرون من كل جانب، أراضيهم تسلب من كل ناحية، دخل الاستعمار في عقر دارهم، نهبت خيرات بلادهم ووعاظنا يحدثون الناس عن مسألة الحيض والنفاس، فهل لهؤلاء الوعاظ والدعاة والمصلحين، عبرة بلوط عليه السلام، حيث إنه تعرض لإصلاح أهم قضية كان يعاني منها مجتمعه في زمانه. أيها المسلمون، نعود إلى قصة لوط عليه السلام، ولما جاء وعد الله عز وجل، وحان الوقت لإهلاك هذه الفئة، التي ما نفع معها الدعوة، أرسل الله عز وجل ملائكته إلى قوم لوط، فأتوا في صور شبان حسان، اختباراً من الله لقوم لوط قال تعالى: وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِىء بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَـٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيّئَاتِ قَالَ يٰقَوْمِ هَـؤُلاء بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ اوِى إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ قَالُواْ يٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مّنَ ٱلَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ ٱلصُّبْحُ أَلَيْسَ ٱلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَـٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ وَمَا هِى مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:77-83]. وصل الملائكة إلى لوط عليه السلام، وهو يعمل في أرض له، فقالوا إنا ضيوفك الليلة، وهو لا يعلم أنهم ملائكة، لأنهم جاءوا على صور بشر، لكنه تضايق أشد الضيق، عليه الصلاة والسلام، وذلك لأنهم كانوا حسان الوجوه، وخاف عليهم من اعتداء قومه عليهم، وواجب الضيافة يحتم عليه أن يحميهم من كل أذى، فانطلق بهم عليه الصلاة والسلام، فلما بصرت بهم زوجة لوط عليه السلام، وكانت امرأة سيئة على أخلاق قومها، ذهبت وأخبرت القوم، فانتشر الخبر، على أنه قد نزل رجال حسان ضيوفاً على لوط، فأسرعوا إلى بيته، وتجمهروا حوله، يبتغون الفاحشة في ضيوفه، فراح لوط عليه السلام، يمانع قومه، ويدافعهم والباب مغلق، وهم يريدون فتحه وولوجه، فلما آيس منهم قال عليه السلام: لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ اوِى إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود:80]، أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يرحم الله لوطاً، لقد كان يأوي إلى ركن شديد)) أي أن الملائكة كانوا معه، وهو لا يعلم، عندها قال الملائكة: يٰلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ [هود:81]. عندها علم لوط أنه في حضرة الملائكة وأن ركنه شديد، فاطمأنت نفسه، وذهب عنه القلق، وقام جبريل عليه السلام، فضرب وجوههم خفقة، بطرف جناحه، فطُمست أعينهم، قال تعالى: وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ [القمر:37، 38]. ويبدو أن لوطاً سأل الملائكة، استعجال العذاب، فأجابوه بقوله تعالى: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ ٱلصُّبْحُ أَلَيْسَ ٱلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ [هود:81]. بلى إنه قريب، ووعد الله حق لا ريب فيه، وكل شيء عنده بمقدار، ولن يتأخر موعد هلاكهم أو يتقدم لحظة واحدة، وقد حدده من قبل أن يكون عند شروق الشمس، قال تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ ٱلصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ [الحجر:73]، وقال تعالى: وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ ٱلاْمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَـؤُلآْء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ [الحجر:66]. خرج لوط عليه السلام من القرية الظالم أهلها، ومعه أبناؤه، أما زوجته، فكانت من الهالكين، قال تعالى: فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ ٱلْمُسْلِمِينَ [الذاريات:35، 36]. خرج لوط في جنح الليل، وترك وراءه المال والمتاع، ولم يلتفتوا، أو يندموا على ما حل بقومهم، قال تعالى: وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ [هود:81]، وجاء وعد الله: فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَـٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ مَّنْضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ وَمَا هِى مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:82، 83]، وخلال ثوان معدودات، جاءت الصيحة، وسقطت البلدة وجعل الله عاليها سافلها، وأرسل جل وعلا مطراً من حجارة صلبة، فأهلك القوم كلهم جزاءً وفاقاً، وجعل الله مكان تلك البلاد بحيرة منتنة، لا ينتفع بمائها، ولا بما حولها من الأراضي، وهي التي تعرف اليوم بالبحر الميت، ويرى بعض العلماء أن البحر الميت لم يكن موجوداً قبل هذا الحادث، وإنما حدث من الزلزال الذي جعل عالي البلاد سافلها، وصارت أخفض من سطح البحر بنحو أربعمائة متر وفي ذلك يا عباد الله، آية على قدرة الله وعظمته، وعزته وانتقامه، ممن خالف أمره، وكذب رسله، واتبع هواه، قال تعالى: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُجْرِمِينَ [الأعراف:84]، وقال سبحانه: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَاء مَطَرُ ٱلْمُنذَرِينَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ [الشعراء:173، 174]، وقال عز من قائل: وَمَا هِى مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:83]. إن ديار قوم لوط يا عباد الله، ليست ببعيدة: وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وَبِٱلَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [الصافات:137، 138]، وستبقى بحيرة قوم لوط، عبرة للظالمين، أينما وجدوا، وحيثما كانوا. وإن من أبشع أنواع الحماقة أيها الأخوة، أن يغفل الناس عن قدرة الله عز وجل، وشدة بطشه، ويركنوا إلى حولهم وقوتهم، وعلينا يا عباد الله، أن نتذكر أن الله جلت قدرته، الذي أهلك قوم لوط بثوان معدودات، قادر على إهلاك وتمزيق كل مجتمع، لا يهتدي بهديه مهما قويت شوكتهم، وكثر عددهم، وتزايد بطشهم، قال تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَـٰفِرِينَ أَمْثَـٰلُهَا [محمد:10]. أقول ما سمعتم وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. |