أما بعد: عن صهيب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى همس شيئاً لا أفهمه ولا يخبرنا به، قال : ((أفطنتم لي؟)) يعني: أفطنتم إلى أني أهمس بكلام لا تسمعونه، ولم تفهموا معناه؟، ثم بين منشأ ذلك فقال: ((إني ذكرت نبياً من الأنبياء أعطي جنداً من قومه فأعجب بهم، فقال: من لهؤلاء الجند؟ أو قال: من يقوم لهؤلاء؟ ـ أي من يغلب هؤلاء أعجب بجنده وكثرتهم وقوتهم ـ فأوحى الله عز وجل إليه أن يختار إحدى ثلاث عقوبات ـ عاقبه الله عز وجل وهو نبي كريم لأنه أعجب بكثرة جنده وقوتهم وعددهم، فكان العقاب من الله عز وجل لهذا النبي الكريم، قال: اختر إحدى ثلاث عقوبات: ـ إما أن نسلط عليهم عدواً من غيرهم، أو الجوع، أو الموت، فاستشار النبي أصحابه فقالوا: أنت نبي الله، كل ذلك إليك، فقام إلى الصلاة، وكانوا إذا فزعوا فزعوا إلى الصلاة)) [1]. هذا الحديث ـ معاشر المؤمنين ـ حديث صحيح أخرجه الإمام أحمد، وأصله في صحيح مسلم، فيه قصة عظيمة ونبأ عظيم. فهذا النبي أعجب بجنده وعددهم وقوتهم، فعاقبه الله عز وجل، وهذه سنة شرعية ينبغي على العبد أن يؤمن بها، وأن يضعها نصب عينيه، ما أعجب عبد قط بما عنده من قوة أو جاه أو مال أو سلطان إلا عاقبه الله وعاقب من معه، ولو كان فيهم سيد الخلق، وخيرة الصحابة، كما قص الله عز وجل علينا من نبأ نبينا وأصحابه: لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ [التوبة:25]. فبين جل وعلا حال المسلمين يوم حنين، لما فرغوا من فتح مكة، وكان مع النبي صلوات ربي وسلامه عليه جيش عرمرم، قوامه عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار، وانضم إليهم من انضم من مسلمة الفتح، فقالوا وهم يطاردون هوازن وثقيف: لا يهزم هذا الجيش، فأعجبوا بكثرتهم، تشبه عبارة ذلك النبي الذي أعجب بجيشه وقوته، فكان العقاب من الله عز وجل أن هزموا ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ [التوبة:25]. انفض الناس عن رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه، وكانت هوازن، أي كان رجالها رماة، فرموا المسلمين بالنبل، فانفضوا وتراجعوا، فأمر النبي العباس وكان جهوري الصوت، أمره أن ينادي، فأخذ ينادي: يا أهل الشجرة، يا أهل سورة البقرة، يا معشر الأنصار، وكلهم يقول: يا لبيك، حتى اجتمعوا إلى رسول الله ، فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وأيدهم جل وعلا بجنود لم يروها [2]. فهذا ـ معاشر المؤمنين ـ هذه سنة من سنن الله عز وجل، لا يعجب إنسان بقوته إلا ويعاقبه الله، والعقاب يكون الهزيمة والذل حتى ولو كانوا أنبياء مرسلين، ولو كانوا خيرة خلق الله أجمعين. ففي يوم حنين ـ كما ثبت في الصحاح وغيرها ـ اجتمع معه خيرة أصحابه من أهل بدر، وأهل الشجرة أهل بيعة الرضوان، وغيرهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، فكان ما كان، حتى فاؤوا إلى الله عز وجل، واعتمدوا عليه. فذلك النبي خُيّر بين ثلاث عقوبات: ((إما أن يسلّط عليهم عدو من غيرهم، وإما الجوع، وإما الموت، ففزع إلى الصلاة))، يستخير ربه عز وجل ثم قال: ((أي ربّ، أما عدو من غيرنا فلا، وأما الجوع فلا، ولكن الموت)) لأن الموت لا بد منه، فاختار الموت، فقبض فسلط عليهم الموت ، فقتل من جنده في ذلك اليوم سبعون ألفاً، سبعون ألفاً قتلهم الله من جند ذلك النبي الكريم، عقاباً له لأنه أعجب بعدده وبكثرته. ثم نعود إلى تلك الكلمات التي كان يهمس بها النبي ، فبعد أن قص على أصحابه هذه القصة قال مبينا لهم ما كان يهمس به دبر كل صلاة، كان يقول إذا انصرف من صلاته: ((اللهم بك أقاتل، وبك أصاول، ولا حول ولا قوة إلا بالله)). فكان هذا من أذكاره ، إذا انصرف من صلاته، ورأى من حوله من الصحابة، وتعجبه كثرتهم وشدتهم وقوتهم، فكان يتذكر ما حصل لذلك النبي الكريم، فيتبرأ من الحول، ويتبرأ من القوة، ويقرر هذه الحقيقة: ((اللهم بك أقاتل، وبك أصاول ـ وفي رواية: بك أحول وبك أصول وبك أجادل وبك أقاتل ـ ولا حول ولا قوة إلا بك))، فكان يتبرأ دبر كل صلاة من الحول والقوة إلا بالله. وهذا ـ معاشر المؤمنين ـ أهم أركان النصر، فمتى ما عرف العبد أن ما معه من العتاد ومن القوة لا يساوي شيئاً، وإنما النصر من عند الله، كتب الله عز وجل له النصر المبين، فهؤلاء أصحاب المصطفى بعدما أصابهم القرح يوم أحد، وأصيب منهم من أصيب بلغهم أن أهل مكة تندّموا أنهم لم يجهزوا على النبي ، ولا على أصحابه، وقد كان لهم النصر، فعزم أبو سفيان ومن معه أن يعودوا إلى المدينة، قالوا: هذه فرصتنا بعد أن خسر المسلمون وانهزموا نعود إليهم مدججين بالسلاح فنقضي عليهم، فلما بلغ ذلك النبي صلوات ربي وسلامه عليه بلغه أن الناس قد جمعوا لهم، فجمع أصحابه وأمر خصوصاً من أصيب يوم أحد أن يكون في مقدمة الركب، وخرج إلى حمراء الأسد منطقة قرب المدينة، فأنزل الله عز وجل مثنياً على عباده الذين استجابوا لرسوله من بعد ما أصابهم القرح، أثنى عليهم فقال: ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـٰناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ وَنِعْمَ ٱلْوَكِيلُ [3] [آل عمران:173]. فبين جل وعلا ـ معاشر المؤمنين ـ حال أولئك النفر الكرام وكيف أنهم يبرؤون من الحول والقوة إلا بالله، وأنهم مهما فعلوا وانتصروا فإنهم يرجعون ذلك إلى فضل الله وقوته. يوم بدر ـ كما ثبت في الصحاح وغيرها ـ أخذ النبي حفنة من تراب، وقذف بها في وجوه القوم وقال: ((شاهت الوجوه)) [4]، وتكرر نفس الأمر يوم حنين [5]، فأخبر الله عز وجل بحقيقة ينبغي أن تكون نصب كل عين مؤمنة: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ [الأنفال:17]. فهذا أمر ـ معاشر المؤمنين ـ ينبغي أن يتربى عليه العبد المؤمن، وأن يعلم أن النصر من عند الله عز وجل، وأن المسلم إذا أخلص لله واعتمد عليه وتوكل عليه، وتبرأ من الحول والطول والقوة، واستمسك بالعروة الوثقى، فإن الله عز وجل ينصره لا محالة، وما انتصر المسلمون في غزوة أيام المصطفى كانوا فيها أقوى من العدو أو أكثر عدداً، فكان صلوات ربي وسلامه عليه يهمس دبر كل صلاة بهذا الدعاء الذي ينبغي أن ترطب به لسانك ـ أيها العبد المؤمن ـ دبر كل صلاة: ((اللهم بك أقاتل، وبك أصاول، ولا حول ولا قوة إلا بالله)). أسأل الله العظيم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد [23927] ، وابن حبان [1975]، وإسناده صحيح على شرط مسلم. [2] أخرج هذه القصة مسلم في الجهاد [1775] من حديث العباس رضي الله عنه. [3] انظر : تاريخ خليفة بن خياط (1/74) ، وتاريخ الطبري (2/75) ، والبداية والنهاية (4/49). [4] أخرجه ابن جرير في تفسيره (13/442 ـ446) من أوجه متعددة. [5] أخرجه مسلم في كتاب الجهاد [1777] من حديث سلمة بن عمرو رضي الله عنه. |