أما بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله والاستعداد ليوم عظيم، تذهل كل مرضعة فيه عما أرضعت و تضع كل ذات حمل حملها. إخواني في الله، مر معنا في الخطبة الماضية حديث عن الجنة التي هي نزل الكرامة والرحمة والغفران، وفي هذه الخطبة نعرج على النار التي أوقد الله عليها ألف عام حتى ابيضت وألف عام حتى احمرت وألف عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة ـ أجارنا الله وإياكم منها ـ. إنها دار الذل والهوان، والعذاب والخذلان، دار الشهيق والزفرات، والأنين والعبرات، دار أهلها أهل البؤس والشقاء، والندامة والبكاء، والأغلال تجمع بين أيديهم وأعناقهم، والنار تضطرم من تحتهم ومن فوقهم، شرابهم من حميم يصهروا به ما في بطونهم والجلود، وأكلهم شجر الزقوم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم، يدعون على أنفسهم بالموت فلا يجابون، ويسألون ربهم الخروج منها فلا يكلمون، كيف لو أبصرتهم وهم يسحبون فيها على وجوههم وهم لا يبصرون، أم كيف لو سمعت صراخهم وعويلهم وهم لا يسمعون: فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدْخِلَ ٱلْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـٰعُ ٱلْغُرُورِ [آل عمران:185]. وحينما يجاء بالموت على صورة كبش أملح فيذبح، تزداد حسرة أهل النار وينقطع أملهم في الموت بعد أن كانوا في الدنيا لا يحبونه، وَيَوْمَ يَعَضُّ ٱلظَّـٰلِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يٰلَيْتَنِى ٱتَّخَذْتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِيلاً يٰوَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ ٱلذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِى وَكَانَ ٱلشَّيْطَـٰنُ لِلإِنْسَـٰنِ خَذُولاً [الفرقان:27-29]. وعن أبي هريرة قال: قال النبي : ((لا يدخل أحد الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا، ولا يدخل النار أحده إلا أرى مقعده من الجنة لو أحسن ليكون عليه حسرة)) رواه البخاري [1]. فتوضع الأغلال في أعناقهم ويجمع بعضهم إلى بعض نكاية لهم وزيادة في العذاب، أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ وَأُوْلَئِكَ ٱلاْغْلَـٰلُ فِى أَعْنَـٰقِهِمْ [الرعد:5]، وَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِى ٱلاْصْفَادِ [إبراهيم:49]. ويلبسون ثيابا من نار وإن اشتهوا الماء فإنهم يسقون من ماء صديد يتجرعونه ولا يكادون يسيغونه، هَـٰذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَءاخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوٰجٌ [ص:57، 58]، عن أبي أمامة عن النبي : ((يقرب إليه فيكرهه، فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره))، وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاء كَٱلْمُهْلِ يَشْوِى ٱلْوجُوهَ بِئْسَ ٱلشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا [2] [الكهف:29]، وَنَادَىٰ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ أَصْحَـٰبَ ٱلْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ ٱلْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ قَالُواْ إِنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ [الأعراف:50]، وإذا جاعوا أكلوا من شجرة الزقوم التي لا أقبح ولا أبشع من منظرها مع ما هي عليه من سوء الطعم والريح والطبع، فَإِنَّهُمْ لاَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا ٱلْبُطُونَ [الصافات:66]، إِنَّ شَجَرَةَ ٱلزَّقُّومِ طَعَامُ ٱلأَثِيمِ كَٱلْمُهْلِ يَغْلِى فِى ٱلْبُطُونِ كَغَلْىِ ٱلْحَمِيمِ [الدخان:43-45]، قال : ((لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن يكون طعامه)) [3]. ومن هذا الطعام والشراب واللباس الذي هو من النار يصف الله ـ تعالى ـ شدة حرها: كَلاَّ إِنَّهَا لَظَىٰ نَزَّاعَةً لّلشَّوَىٰ تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ [المعارج:15-17]، أي إنها لشدة حرها تبري الجلد واللحم عن العظيم وتنزعه ثم يبدل بعد ذلك وهي أيضا من شدة حرها: لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ [المدثر:28]، أي تأكل لحوم أصحابها وعروقهم وعصبتهم وجلودهم، قال : ((ناركم جزء من سبعين جزءا من نار جهنم)) قيل: يا رسول الله إن كانت لكافية، قال: ((فضلت عليهن بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها)) [4]. يخلق الله الكافرين غلاظ الأجسام نكاية بهم، قال رسول الله : ((ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاث)) [5] وقال : ((ما بين منكبي الكافر في النار مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع)) [6]. وهذه النار تمتلئ بالعصاة والكافرين: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلاَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ [ق:30]، إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء:98]. عن أبي هريرة قال: كنا مع رسول الله إذ سمع وجبة فقال النبي : ((أتدرون ما هذا، قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا حجر رمي به في النار منذ سبعين خريفا فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها)) [7]. وتحيط به النار من كل مكان، فلا يستطيعون الفرار أو الاختباء: لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ ٱلنَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر:16]، لَوْ يَعْلَمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ ٱلنَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [الأنبياء:39]. وقال : ((إن أهون أهل النار عذابا من له فعلان وشراكان من نار يغلي منها دماغه كما يغلي المرجل (القدر) ما يرى أن أحدا أشد عذابا منها وإنه لأهونهم عذابا)) [8] وقال : ((منهم من تأخذه النار إلى كعبيه ومنهم من تأخذه النار إلى حجرته ومنهم من تأخذه النار إلى ترقوته)) [9]. والحجزة: معقد الإزرار، والترقوة: العظم المشرف من النحر. لقد صب عليهم العذاب صبا، وذاقوا مس سقر، وفي ذلك المكان المرعب المخيف ما لهم من ناصرين ولا صديق حميم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ ٱلَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ % ٱصْلَوْهَا ٱلْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوٰهِهِمْ وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [يس:63-65]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونسأله ـ سبحانه ـ أن يصرف عنا عذاب جهنم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل من كل ذنب...
[1] صحيح البخاري: كتاب الرقاق – باب صفة الجنة والنار، حديث (6569). [2] أخرجه أحمد (5/265)، والترمذي: كتاب صفة جهنم – باب ما جاء في صفة شراب أهل النار (2583) وقال: حديث غريب وهكذا قال محمد بن إسماعيل عن عبيد الله بن بسر، ولا نعرف عبيد الله بن سبر إلا في هذا الحديث، واأخرجه أيضاً الحاكم: كتاب التفسير – نورة إبراهيم (2/351) وصححه ولم يتعقبه الذهبي. ومدار إسناده على عبيد الله بن بُسر، وهو مجهول كما ذكر الترمذي، وكذا قال ابن حجر في التقريب (4278)، وانظر ضعيف الترمذي (477)، فالحديث ضعيف. [3] أخرجه أحمد (1/301، 338)، والترمذي: كتاب صفة جهنم – باب ما جاء في صفة شراب أهل النار، حديث (2585)، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه، كتاب الزهد – باب صفة النار، حديث (4325)، وإسناده ضعيف، فيه عنعنة الأعمش، وانظر ضعيف ابن ماجه (944). [4] أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق – باب صفة النار، وأنها مخلوقة، حديث (3265)، ومسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها – باب في شدة حر نار جهنم، حديث (2843). [5] أخرجه مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها – باب النار يدخلها الجبارون... حديث (2851). [6] أخرجه البخاري: كتاب الرقاق – صفة الجنة والنار، حديث (6551)، ومسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها – باب النار يدخلها الجبارون... حديث (2852). [7] أخرجه مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها – باب في شدة حر نار جهنم.... حديث (2844). [8] أخرجه مسلم: كتاب الإيمان – باب أهون أهل النار عذاباً حديث (213)، وأخرج البخاري أول الحديث، صحيح البخاري: كتاب الرقاق – باب صفة الجنة والنار، حديث (6562). [9] أخرجه مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها – باب في شدة حر نار جهنم، حديث (2845). |