أما بعد: فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى: وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين [سورة الأنفال:1]. معشر المسلمين: كثير ما يكون بين الناس منازعات وخصومات، وذلك نتيجة لاختلاف الأهواء والرغبات والاتجاهات، ومن ثم فإن المنازعات والخصومات تسبب البغضاء والعداوات، وتفرق بين المسلمين والقرابات، ومطلوب منا أن نسعى إلى الإصلاح بكل الوسائل والإمكانات، قال الله تعالى: إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون [سورة الحجرات:10]. أيها المسلمون: لقد أرسل الله تعالى نبيه محمدا رحمة للعالمين؛ ليجمع على الإيمان قلوب المؤمنين، ويزيل من قلوبهم كل أسباب الشحناء، ويطهر نفوسهم من كل أسباب البغضاء، ليكونوا إخوانا متحابين، فإذا وجد بين بعضهم خصومة وشحناء ونزاع وبغضاء أمروا أن يتقوا الله، وأن يصلحوا ذات بينهم، وعلى المسلمين أن يسعوا في الإصلاح ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وقد كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري : ((رد الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن))، (من تفسير القرطبي :ج5 ص384). وقد قال تعالى: وأصلحوا ذات بينكم ، أي أصلحوا ما بينكم من أحوال الشقاق والافتراق حتى تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق، ليكون المسلمان المتشاحنان متعرضين لمغفرة الله والجنة. عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس لكل عبد لا يشرك بالله شيئا وفي رواية: تعرض الأعمال في كل يوم خميس وإثنين فيغفر الله – عز وجل – في ذلك لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا)) (رواه مسلم – رحمه الله - :ص1987ج4). أيها المسلمون: لقد اهتم الإسلام بإصلاح ذات البين حفاظا على وحدة المسلمين، وسلامة قلوبهم، وإن الإصلاح يعتبر من أعظم وأجل الطاعات، وأفضل الصدقات، فالمصلح بين الناس له أجر عظيم، وثواب كريم، إذا كان يبتغي بذلك مرضاة الله تعالى، فأجره يفوق ما يناله الصائم القائم، المشتغل بخاصة نفسه، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله : ((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قالوا: بلى، قال: إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين هي الحالقة)) (رواه أبو داود وغيره :ص929ج3) ومعنى الحالقة: أي تحلق الدين. وعن أبي هريرة قال :قال رسول الله : ((كل سلامي من الناس عليه صدقة، كل يوم يعدل بين الناس صدقة)). رواه البخاري – رحمه الله – وفي رواية لمسلم قال: تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، قال: والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة. (ص699ج2 مسلم ). قوله تعدل بين الاثنين أي تصلح بينهم بالعدل. أيها المسلمون: إن الإصلاح بين الناس تفضل فيه النجوى، وهي السر ودون الجهر والعلانية، ذلك أنه كلما ضاق نطاق الخلاف كان من السهل القضاء عليه، لأن الإنسان يتأذى من نشر مشاكله أمام الناس، فالسعي في الإصلاح يحتاج إلى حكمة، وإلا فإن الساعي أحيانا قد يزيد من شقة الخلاف وحدته، قال تعالى: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً [سورة النساء:114]. أيها المسلمون: ولأهمية الإصلاح بين الناس رخص فيه الكذب، وذلك إذا كان سبيلا للإصلاح ولا سبيل سواه، عن أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله يقول: ((ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا)) (رواه البخاري: فتح الباري ج5ص299)، قوله: ((ينمي خيرا)) أي: ينقل الحديث على وجه الإصلاح، وفي صحيح مسلم: قال ابن شهاب – رحمه الله -: ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها (ج4ص2011)، فأما الكذب في الحرب فإن الحرب خدعة، ومن ثم فإن الأمر يستدعي التمويه على الأعداء، ويتحدث بما يقوي به أصحابه ويكيد به عدوه مثل أن يقول جيش المسلمين كبير وجاءهم مدد كثير. وأما الكذب في الإصلاح بين الناس، فمثل أن يحاول المصلح تبرير أعمال كل من المتخاصمين وأقوالهما بما يحقق التقارب، ويزيل أسباب الشقاق والخلاف، وأحيانا ينفي بعض أقوالهما السيئة فيما بينهما، وينسب إلى كل منهما من الأقوال الحسنة في حق صاحبه مما لم يقله مثل أن يقول: فلان يسلم عليك ويحبك، وما يقول فيك إلا خيرا ونحو ذلك، وأما الكذب بين الزوجين، فقد قال ابن حجر – رحمه الله -: المراد بالكذب في حق المرأة والرجل إنما هو فيما لا يسقط حقا عليه أو عليها، أو أخذ ما ليس له أو لها، وذلك أن الكذب بينهما قد يحتاج إليه أحيانا بحيث يخفي كل واحد منهما عن الآخر ما من شأنه أن يوغر الصدور، أو يولد النفور، أو يثير النزاع والفتن، ويزرع الشقاق والإحن، فمثلا لكل واحد منهما أن يخاطب الآخر بمعسول القول ما يزيد الحب، ويسر النفس، ويجمل الحياة يبنهما، وإن كان ما يقال كذبا، قال الخطابي – رحمه الله -: كذب الرجل على زوجته مثل أن يعدها ويمنيها ويظهر لها من المحبة أكثر مما في نفسه؛ ليستديم بذلك صحبتها، ويصلح بها خلقها. أسأل الله أن يجعلنا من الصالحين المصلحين، وأن يوفقنا لحسن العمل وصالح الأخلاق، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم. |