الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد:
أخي الكريم: أعرف أنك اليوم تحمل هموماً كثيرة، ولديك غموماً متوالية، أحياناً قد تحجبك عن السير في الإتجاه الصحيح.
دعنا نتعاون معاً في إنهاء هذه المعضلة التي نزلت بك، ونرفع سوياً المعاناة التي ألمت بك فإن أمر الطلاق عظيم، وقد يكون له مضاعفات على الزوجة مع فراق الأبناء وغير ذلك.
وقبل أن نبدأ المسير؛ انطلق بنا نطل على بيت النبوة، حال وقوع مشكلة أسرية وكيف هو موقفه
منها.. نسير في وقفتين سريعتين مع خير الأخيار وسيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام، لنرى موقفاً جرى له مع زوجاته أمهات المؤمنين.. فقد ذكر تلك القصة ابن سعد في الطبقات الكبرى [8/137]:
الموقف الأول: عن أم ذرة عن أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها قالت: ( خرج رسول الله
ذات ليلة من عندي، فأغلقت دونه الباب، فجاء يستفتح الباب فأبيت أن أفتح له، فقال:
{ أقسمت إلا فتحته } فقلت له: تذهب لأزواجك في ليلتي هذه، قال:
{ ما فعلت ولكن وجدت حقناً من بولي } ).
نبي هذه الأمة عليه الصلاة وقائدها ومعلمها يخرج لحاجته فيغلق دونه الباب، في الليل المظلم ويستفتح الباب فترفض زوجته.. فيقسم عليها أن تفتح له الباب، ويوضح لها ويشرح لها بكلمات حانية رقيقة لماذا ذهب؟! عندها ترضى أم المؤمنين رضي الله عنها. وتفتح له الباب وينتهي الأمر!! ولم يكن لينتهي لولا سعة حلمه، ونبل صفاته
!!
أما الموقف الثاني: فهو موقف يقع أحياناً بين الضرات، فكيف حال الزوج، حين يقع بينهن أمر يكدر الخاطر، وكيف يتصرف حين تشتد الأمور وتظهر علامات القطيعة؟
روى النسائي عن أم سلمة رضي الله عنها: ( أنها أتت بطعام في صفحة لها إلى رسول الله
وأصحابه فجاءت عائشة متزرة بكساء ومعها فهر - حجر - ففلقت به الصفحة، فجمع النبي
بين فلقتي الصفحة ويقول:
{ كلو، غارت أمكم } مرتين، ثم أخذ رسول الله
صفحة عائشة فبعث بها إلى أم سلمة، وأعطى صفحة أم سلمة عائشة ) وهكذا أنهى النبي
المشكلة بتصرف حكيم!.
أوردت هاتين القصتين بين يدي الأخ الكريم حتى يعرف أن للصفح مكاناً وأن الإحسان أولى وأتم، كما قال تعالى في مدح المؤمنين:
الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134] فهذه منازل تجعل المؤمن يتنازل عن حقوق له ويعفو عمن أساء إليه، لتدوم المحبة وتبقى الألفة. بل وتحسن إلى من أساء إليك، وهذا يتحقق لمن منحه الله عز وجل مرتبة عالية في حسن المعاملة وطيب المنبت..
أخي الكريم: أطرح بين يديك علاجاً شافياً بإذن الله عز وجل لما ألمّ بك، وجلاءٌ لما أصابك، ومن ذلك:
أولاً: عدم العجلة في الأمر: فإن العجلة مذمومة في كل شيء إلا في عمل الخير، وأراك ذلك الرجل الفطن الذي تدقق وتراجع، وتقدم وتؤخر في شراء سياؤة مثلاً، وما أنت فيه اليوم أولى وأحق بذلك، ثم إن التأخير لا يضرك شيئاً، وإن لم ينفعك فلن تندم بإذن الله، كم من رجل ندم على العجلة والطيش ولم يندم على الـتأخير مطلقاً، والقرار بيدك اليوم أو غداً فلم العجلة؟
ثانياً: من عادة عقلاء الناس إرجاع الأمور إلى أهلها واستشارتهم، فها أنت تستشير في شراء قطعة أرض أصحاب العقار والمهتمين بذلك، فمن باب أولى أن تقصد طلبة العلم والعلماء وتشرح لهم ما أنت فيه، فإن الحق ضالة المؤمن. وأنت بإخوانك عزيز الرأي ثاقب الفكر.
ثالثاً: ما نزل بك من الهموم والغموم والمشاكل إنما هو من أنواع الابتلاءات التي يجب الصبر عليها واحتساب الأجر فيها، قال
:
{ ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا غم ولا أذى حتى الشوكة، يشاكها إلا كفّر الله بها من خطاياه } [متفق عليه] وأكثر من الإسترجاع.. قال
:
{ ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول أمر الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها، إلا أخلف لله خيراً منها } [رواه مسلم].
رابعاً: طهر قلبك من الحقد والكراهية: فإن هذه الأمور تجعل على عينيك غشاوة تجعل فكرك مشلولاً، والشيطان يفرح بذلك النصيب منك، فاحذر أن تبني مصير حياة زوجية على حقد أو كراهية أو انتصار للنفس، والنبي
يقول:
{ اللهم إني أحرج حق الضعيفين: اليتيم والمرأة } [رواه النسائي].
خامساً: قال الله تعالى:
وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ [الأنعام:152] وقال في شأن الأعداء والخصماء:
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]. ومن العدل ذكر حسنات الزوجة طوال الشهور والسنوات التي مضت، واعلم أخي الكريم أن تصيد الهفوات والزلات ليس من ديدن وطريقة كرام القوم، وأراك تصفح عن زميلك وصاحبك في زلات كثيرة، فما بالك اليوم تجانب المسامحة والصفح في أمر من قال الله عنها:
وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ [النساء:36]. وقال تعالى:
وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة:237].
سادساً: لا تنس أن في بقاء الزوجة مع محاولة إصلاحها، إعفاف لبصرك، وسمعك وفرجك، من نزعات الشيطان. والإنسان ضعيف يتصدى للفتن بما أحل الله عز وجل وشرع.
سابعاً: إن كان لك أبناء فإنهم قد يعانون من سرعة إتخاذك للقرار، وقد تحرمهم حنان الأم أو حنان الأب، واعلم أن جزءاً من سعادتك هي رؤية صغارك من حولك، وأنت الآن على مفترق طرق فلا تتعجل الأمر، وإن كان عليك مشقة في البقاء مع الزوجة، إلا أن رجاء صلاح صغارك يجعلك تتحمل ذلك، فكم تحملت من التعب والحزن لأجلهم.
ثامناً: ابتعد عن الكبر والتسلط والانتصار للنفس، فإن النبي
كان رأس المتواضعين وهو أشرف الخلق. وتجنب إيقاع الطلاق بدون سبب شرعي، ولا يكن فعلك حال الطلاق أو بعده الرغبة في الانتقام بإيذاء المسلمة أو أهلها فإن هذا من الظلم.
تاسعاً: اقرأ سيرة رجال كرام كان لهم أدوار عظيمة في قيام الأمة من الصحابة والتابعين وكيف هو حالهم مع زوجاتهم، بل واقرأ النماذج الحية من حال النبي
مع زوجاته!.
عاشراً: توجه إلى الله عز وجل بالدعاء والاستغفار والصدقة لعل الله أن يصلح ما فسد
وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً [الطلاق:2].
الحادي عشر: هناك اختلاف في الطبائع والعادات والرغبات الشخصية والمستويات الفكرية بين الزوجين، فكل منهم عاش وتربى في منزل وفي بيئة أسرية مختلفة سنين طويلة طبّعته فيها الأسرة بعاداتها وطبائعها، وأنت الآن تريد أن تغير ما كان في لحظات، ولهذا لا بد من التنازل عن بعض الحقوق والتغاضي عن الهفوات، وغالباً تنشأ المودة والمحبة بعد حين من الزمن، وتقوى بعد إنجاب الأبناء ومعرفة طباع كل زوج لزوجه. وليس من شروط الزواج الناجح أن تتوافق جميع الرغبات، وتتطابق الأفكار.
الثاني عشر: لهذه الزوجة أعمال كثيرة وخدمات جليلة تقدمها لك ومنها: إعفافك وصيانة حاجاتك النفسية والعاطفية، وتقديم أكلك وشربك، ونظافة ملبسك، وتربية أبنائك، والنبي
يقول:
{ لا يفرك مؤمن من مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر - أو قال - غيره } [رواه مسلم].
وقد يجد الرجل زوجة؛ لكنها صعبة المراس فيعجبه دينها وعفافها، وآخر قد يجد بعض الصفات وتنقص أخرى، وهكذا أنت أيضاً توجد فيك بعض الصفات وتنقصك أخرى، فلا تنشد الكمال في غيرك دون النظر إلى حالك. وتأمل في حديث النبي
وحسن التشبيه:
{ المرأة كالضلع إن أقمتها كسرتها، وإلا استمتعت بها وفيها عوج } [متفق عليه].
وجاء رجل إلى عمر بن الخطاب
يشكو خلق امراته، فوقف ببابه ينتظر خروجه، فسمع امرأته تستطيل عليه بلسانها وهو ساكت يحير جواباً، فانصرف الرجل قائلاً: إذا كان هذا أمير المؤمنين مع زوجته فكيف حالي؟ فخرج عمر
فرآه مولياً. فقال: يا هذا ما حاجتك؟ فقص عليه الرجل ما كان، فقال له عمر
ناصحاً: ( يا هذا، إني أحتملها لحقوق لها عليّ، إنها طباخة لطعامي، خبازة لخبزي، مرضعة لولدي، وسكن بها قلبي عن الحرام )، فقال الرجل: وكذلك زوجتي يا أمير المؤمنين، فقال عمر رضي الله عنه: ( إذاً فاحتملها ). ولهذا فإن عدم المواجهة، أحياناً تكون من الفطنة والنباهة وليس في ذلك أدنى نقص.
الثالث عشر: أول من يفرح ويسر بأمر الخلاف بين الزوجين هم الأعداء والحاقدون والحاسدون وأولهم إبليس.. قال
:
{ إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا فيقول: ما صنعت شيئاً قال: ثم يجيء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته. قال: فيدنيه منه ويقول نعم أنت }. قال الأعمش أراه قال:
{ فيلتزمه } [رواه مسلمٍ].
ولهذا قال لا بد أن يكون هناك مبرر قوي للطلاق، بعد استنفاد محاولات العلاج الأخرى من التوجيه والهجر وغيرها.
الرابع عشر: لا تظن أن بيوت غيرك خالية من الخلافات الزوجية، ولو سلم أحد من ذلك لسلم بيت النبوة، وكما قيل: ( البيوت معمورة والأحوال مستورة )، ولكنهم صبروا وعفوا وشاوروا، فسارت ركابهم ونمت دوحتهم، وأنت انتقدت وخاصمت فوقف بك المسير، ووصلت إلى هذا القرار، فهلا تأملت ووازنت بين الحسنات والسيئات.
الخامس عشر: ينقسم الطلاق إلى سني وبدعي وهناك قيود يجب على المسلم الإلتزام بها، ومنها أن يكون الطلاق في حالة طهر لم يجامعها فيه، فلو طلق الزوج زوجته في حال الحيض أو طلقها في حال الطهر الذي جامعها فيه، كان طلاقه محرماً ومخالفاً لأصول الشريعة. كما أن على المطلق ألا يزيد في الطلاق على واحدة، فلو طلق أكثر من طلقة واحدة كأن طلقها بالثلاث بلفظ واحد أو ألفاظ متفرقة فإن طلاقه بالثلاث بلفظ واحد أو ألفاظ متفرقة فإن طلاقه مخالفاً للمشروع في إيقاع الطلاق.
أخي المسلم:
استعن بالله عز وجل في جميع أمورك، وتوكل عليه وتقرب إليه بترك المعاصي والمنكرات فإنها سبب المصائب
{ فما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة }، وأكثر من الدعاء، وشاور أهل الرأى والعلم والحكمة.
وفقك الله لما يحب ويرضى وأعانك، وجعل حياتك حياة طيبة آمنة، ورزقك الذرية الصالحة التي تقر بها عينك في الدنيا والآخرة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.