الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
أبتي! هذه رسالتي إليك.. أبث فيها أشجاني.. وهمومي وأحزاني.. باذلاً ما أراه واجباً عليّ من النصح.. على سبيل التذكير والتحذير.. لعلك تنال به خير ما يناله أب من ابنه.. فإن الإبن الصالح ذخر للمؤمن في الدنيا والآخرة.
قال رسول الله
:
{ إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية وعلم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له }.
وكل أب كانت لديه في صلاح ابنه يد فإنه ينال بصلاحه أجر التربية.. ثم يلحقه دعاؤه الصالح.. أما إذا كان الأب سبباً في فتنة ولده، فإنه يأثم على ذلك إثماً عظيماً.. ويسأل عن ذلك يوم القيامة.
ولو كنت اعتنيت بي صغيراً.. لكنت تجاوزت محناً خطيرة.. ولكن قدّر الله وما شاء فعل، فأفضل ما تكون التربية الصالحة.. حالة الصغر.. فإنها أسهل وأيسر.
قد ينفع الأدب الأحداثَ في صغر *** وليس ينفعهم في بعده الأدبُ
إن الغصونَ إذا عدّلتها اعتدلت *** ولا يلينُ إذا قوّمتَهُ الحطبُ
وإليك يا أبتي نص الرسالة:
لولدك عليك حق!
أجل يا أبي! وحقه أن تحسن تربيته وتأديبه.. ليكون لك ذخراً وثواباً عند الله، ولكي ترفع عن نفسك مغبة السؤال!
قال رسول الله
:
{ إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، [ ولولدك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه } [رواه مسلم].
وقال النبي
في بيان مسؤولية التربية:
{ كلكم راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله، ومسؤول عن رعيته } [رواه البخاري ومسلم].
وقد حمّل رسول الله
من فرط في تلك الأمانة إثماً عظيماً فقال:
{ ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة } [رواه البخاري].
وقال
:
{ كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت }.
يقول ابن القيّم رحمه الله: ( وكم ممن أشقى ولده وفلذة كبده في الدنيا والآخرة، بإهماله، وترك تأديبه وإعانته على شهواته، ويزعم أنه يكرمه وقد أهانه، وأنه يرحمه وقد ظلمه، ففاته انتفاعه بولده، وفوت عليه حظه في الدنيا والآخرة، وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد رأيت عامته من قبل الآباء ) [تحفة المودود بأحكام المولود].
وفي هذا المعنى قال رسول الله
:
{ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه }.
أبي.. تذكر!ليس اليتيم من انتهى أبواه *** من همّ الحياة وخلّفاه ذليلاً
إن اليتيم هو الذي تلقى له *** أمّا تخلّت أو أباً مشغولاً
لا يا أبتي!
لا يا أبتي.. فما أراك بنيت بيتنا على أساس صلب من التقوى والإيمان والطاعة.. بل مكنت فيه للشيطان.. ومن وسائل تمكينه:
الغناء: ذلك الشر المستطير الذي كان يؤزني إلى المنكرات أزاً.. ويدعوني إلى المخالفات.. بما ينطوي عليه من المجون.. والمعاني السافرة.. وتذيبه في مضاميها كما يذوب الملح في الماء!
ألم تدرك يا أبتي أن الغناء ينبت النفاق في القلوب.. وأنه رقية الزنى.. فلا ترى غالب أهله إلا قد جانبوا الحياء ووقعوا في المحظور.. وقد حرمه الله تعالى بنص قوله تعالى:
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ [لقمان:6].
الفضائيات: فما يبقى من الحياء نهاراً.. كانت الفضائيات في بيتنا تجهز عليه.. بما فيها من سفول الغناء.. وأفلام مشينة.. ومسلسلات ذميمة تتنافس على قتل العفة والحياء فيها مئات المحطات.. بل ومنها من يهدف إلى إيقاع الشباب في المنكرات كالزنى وشرب الخمر، والمخدرات والجريمة المنظمة.. وكل ذلك كان يؤثر في شخصيتي بشكل كبير.. ويجعل مني شخصية ممتلئة إلا من الحياء والعفة والطاعة..
قلة الالتزام في البيت: فبالإضافة إلى الغناء الذي يجمع في البيت حشوش الشياطين.. فهناك الاختلاط الذي تنتهك به الحرم.. وقد نهى عنه رسول الله فقال:
{ إياكم والدخول على النساء! }قالوا: أفرأيت الحمو؟ قال:
{ الحمو الموت }.
وكم دمر هذا الاختلاط من بيوت.. وكم أفقدها العفة.. وقطع الأرحام والمودة والألفة..
يا أبتي! فلا تتبع خطوات الشيطان..
وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ [النور:21].
وجنّب بيتك المعاصي والمخالفات.. فإن ذلك من أسباب البركة في البيوت وفي الذرية.. وفي الألفة.. قال تعالى:
فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124،123].
عدم التحريض على الطاعة والالتزام: وقد علمت يا أبتي أن الله جل وعلا قد أمرك بتحريض أهلك وأبنائك وقرابتك على طاعة الله جلّ وعلا فقال:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6].
( وجلي من هذه النصوص وجوب تربية الأولاد على الإسلام، وأنها أمانة في أعناق أوليائهم، وأنها من حق الأولاد على أولياؤهم من الآباء والأوصياء، وغيرهم، وأنها من صالح الأعمال التي يتقرب بها الوالدان إلى ربهم، ويستمر ثوابها كاستمرار الصدقة الجارية.
وقد ثبت عن النبي
أنه قال:
{ إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية }، وأن المفرط في هذه الأمانة آثم عاص لله تعالى. يحمل وزر معصيته أمام ربه، ثم أمام عباده! ) [حراسة الفضيلة:128].
أبتي! وتذكّر أن نشر الطاعة والالتزام في بيتك هو مفتاح البركة فيه قال تعالى:
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ [الأعراف:96].
كما أنه مفتاح السعادة والسكينة قال تعالى:
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:97].
أبتي: لا تغفل عنا.. فبغيابك عن البيت تغيب الرعاية.. ويسود الفراغ.. وتنحدر هيبة البيت في هوة سحيقة! فأنت في البيت عزه وهيبته.. بك نقتدي.. وإياك نستشير.. وبنصائحك نسترشد.. ولتوجيهاتك نطمئن.. فإذا تركتني وإخوتي لأجل كماليات تافهة.. أو تجارات لا تقف بك عند حد.. أو أسفار للمتعة، فاعلم أن بيتك آيل لا محالة إلى الخراب والسقوط..
وكما أن لنفسك عليك حقاً.. فإن لولدك وأهلك عليك حقاً.. وحقهم أكبر من مجرد كسرة خبز.. وشراب ومأوى!
فأنت كل ما يريدون لو تعلم!
لمَ لمْ تأمرني بالصلاة؟
أبتي: هذا نبي الله يخاطبه ربه ويأمره بأن يحض أهله على الصلاة..
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132].
وامتدح الله سبحانه نبياً من أنبيائه بالحرص على الصلاة فقال:
وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ [مريم:55].
أبتي ومع أني بلغت سن السابعة لم أرك تحمسني وتشجعني على الصلاة... بل وحتى لما بلغت سن العاشرة لم تنهرني ولو مرة واحدة على تركي للصلاة... وكم من المرات نهرتني على أشياء أخرى أقل شأناً كنظافة ثيابي مثلاً ألم تسمع حديث رسول الله، وهو يقول:
{ علموا أبناءكم الصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع } [رواه أبو داود]؟
أبتي ليتك غرست في نفسي حب المسجد في الصغر... وليتك عودتني على الذهاب إليه... وأذقتني حلاوة الصلاة والعبادة!
وهذا - طبعاً - ليس عذراً لي.. أو مسوغاً لي كي أترك الصلاة بعدما صرت شاباً يافعاً.. لكنني أتقطع أسفاً على أن حرمت لذة الصلاة يوماً من دهري.. وكنت لا أحظى بأجر النشأة على الهداية والصلاة على يديك يا أبتي!
فالصلاة نور وضياء ورفعة وسناء.. وهي عهد الإسلام الذي إذا تركه العبد كفر، كما قال رسول الله
:
{ العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر } [رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح].
وقال
أيضاً:
{ من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً ولا برهاناً ولا نجاة يوم القيامة، وكان يوم القيامة مع فرعون وقارون وهامان وأبي بن خلف } [رواه أحمد].
لم لم تسل عن رفقتي؟
أبتي رافقت الأشرار.. وتلاعبت بي أفكارهم.. واستهوتني شهواتهم.. وأضلتني شبهاتهم.. فلم أدر بحالي إلا وأنا أتمرغ في ألوان من الرذائل الهالكة، والمعاصي القاتلة فلم تركتني بين أيديهم!
تعلمت من بعضهم ترك الصلاة.. وجاريت بعضهم في فعل المنكرات.. فهذا يحثني على المعاكسات.. وذاك يشجعني على الأفلام والمسلسلات.. وآخر يرغبني في الرذائل والسيئات.. وكلهم أعوان لي على المعصية.. يجتالون الضحية كما تنفرد السباع بالفريسة.. فلم سمحت لي بمصاحبتهم!
لقد تركتني في بحر الحياة وحيداً.. تتقاذف بي الأمواج في دربها الوعر.. بينما كنت تدرك أنني أضعف من أن أقود مركب حياتي وحدي!
ومن ركب الأمواج العاتية من غير أن يتقن فن الإبحار.. غرق! وها أنا غريق بين رفقاء السوء.. أتجرع سمومهم في صمت سحيق!
أبتي أنت عيني التي أرى بها الصالح من الفاسد.. لا سيما وأنا في مرحلة الرشد وما بعدها.. وقد قال رسول الله
:
{ المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل }.
فهذا توجيه نبوي كريم إلى كل مصاحب أن ينظر قبل مرافقته في دينه وخلقه، فإن وجده ديناً على خلق حسن رافقه وصاحبه، وإن لم يجده كذلك تركه ولم يرافقه حتى لا يتأذى بأخلاقه.
أبتي ولا شك أنني أقصر نظراً من أن أميز الصالح من الأصدقاء من الفاسد.. وأحوج ما أكون في مطلع شبابي إليك لتدفع عني رفقاء السوء.. وتتابع أحوالي.. وتسأل عن أخلاقي وأصحابي.. وتوجهني إلى الطرق المرضية لاختيار الرفيق الصالح.
فالناس يا أبتي.. كالمفاتيح.. فمنهم مفاتيح للخير، ومنهم مفاتيح للشر كما قال رسول الله
:
{ إن من الناس ناساً مفاتيح للخير مغاليق للشر } [رواه ابن ماجه وحسنه الألباني في الصحيحة:1332].
فإن تركتني أرافق الناس مع فقداني لأهلية النظر.. فكأنما تركتني أدخل الشر من أوسع أبوابه..
فليتك ترى كم من شاب بريء أوقعه رفقاء السوء في التدخين.. بل في المخدرات والمسكرات!
وليتك تدري كم لعب رفقاء السوء بعقول الأبرياء حتى أوقعوهم في المخالفات والجنايات.
وليتك تدري ما لرفقة السوء من تأثير على المرء في دراسته وإيمانه وخلقه!
ويكفي لبيان ضررها البالغ تشبيه رسول الله لها بأقبح الأمثلة حيث قال
:
{ مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة } [رواه البخاري].
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه *** فكل قرين بالمقارن يقتدي
إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم *** ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
فلله در أب لم تشغله نفسه ولا ماله.. ولا كمالياته عن تتبع أحوال ابنه.. يسأل عن حاله مع الله.. وحاله مع الدراسة.. وحاله مع أصحابه.. وحاله في البيت فإن وجد في أحواله خللاً سده.. وإن وجد خيراً حمد الله حمداً كثيراً.. وكان لابنه أباً صالحاً.. وصاحباً وفياً.. وصار له قدوة يحاكيها في الأخلاق والمعاملات..
أين حظي من تعلم القرآن؟
أبتي وكم يتحسر قلبي.. وتعتصر نفسي إذا رأيت شاباً في سني قد حفظ القرآن الكريم أو أوشك من ذلك.. وليست تلك الحسرة حسداً لذاك الشاب.. وإنما هي حسرة على حالي، إذ لم أجد من يحرضني على الجلوس في حلقات التحفيظ.. ولم أجد من يأخذ بيدي لتلك المجالس الطيبة لأتشرف بتلاوة وحفظ القرآن.. وأتلذذ بقرآته وتجويده.
أبتي لقد كان المسجد على بعد خطوات من بيتنا.. وكنت أتمنى أن ألتحق بالحلقات الإيمانية حلقات التحفيظ.. لكن - هداك الله - كنت تتجاوز المسجد بمسافات لتأتيني بالأفلام.. وأشرطة الغناء.. واللهو والمرح.. ولم أجدك لي معيناً ولا محفزاً على الالتزام بتلك الحلقات!
أين أنت من الوقوف على فضائل حفظ القرآن وتلاوته.. كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من عزيز حميد.. من قال به صدق.. ومن حكم به عدل.. ومن استعصم به عصم..
قال رسول الله
:
{ إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين } [رواه مسلم].
وهذه الرفعة - يا أبتي - تشمل الآباء والأبناء ما حضوا على القرآن وعلموه وعملوا به.. وكان لينالك منها حظ عظيم لو أنك بذلت وسعك في تنشئتي على كتاب الله..
فإن الدال على الخير كفاعله.. ثم إن التحريض على حفظ القرآن وتلاوته يجعل من ابنك فتى صالحاً وولداً طيباً، ذكره في الأرض وفي السماء ندي، فيصيبك الخير به.. وترزق به.. وتحفظ به.. وتنالك دعواته الصالحة في حياتك ومماتك.
فعن أبي موسى الأشعري
قال: قال رسول الله
:
{ مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأُترجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو } [متفق عليه].
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.