شرح حديث أنا وكافل اليتيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونَستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يَهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
أمَّا بعدُ:
فسأشرح في هذا المقال حديث ((أنا وكافل اليتيم))، معتمدًا على أقوال كبار شُرَّاح الحديث من السلف الصالح، ومستعينًا بقول أحد أساتذة الشريعة المعاصرين.
عن سهل بن سعد، قال: رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا))، وأشار بالسبَّابة والوسطى، وفرَّج بينهما شيئًا؛ أخرجه البخاري، رقْم 4892.
أولاً: تعريف اليُتم في اللغة:
قال ابن منظور في "لسان العرب": اليُتْم واليَتَم: فِقدان الأب؛ وقال ابن السِّكيت: اليُتم في الناس من قِبَل الأب، وفي البهائم من قِبَل الأمِّ، ولا يُقال لِمَن فقَد الأمَّ من الناس يتيمًا، ولكن منقطعًا؛ قال ابن بري: اليتيم الذي يموت أبوه، والعَجِيُّ الذي تموت أمُّه، واللَّطيم الذي يموت أبواه، وقال ابن خالويه: ينبغي أن يكون اليُتم في الطير من قِبَل الأب والأم؛ لأنهما كليهما يَزُقَّان فِراخَهما، وقد يَتِمَ الصبيُّ، بالكسر، يَيْتَم يُتْمًا ويَتْمًا، بالتسكين فيهما، ويقال: يَتَم ويَتِم وأيْتَمَه الله، وهو يتيم حتى يبلغ الحُلُم.
قال الليث:
اليتيم الذي مات أبوه، فهو يتيم حتى يَبلغ، فإذا بلَغ زال عنه اسم اليُتم، والجمع أيتام ويتامَى ويَتَمَة، فأمَّا يتامى فعلى باب أسارى، أدْخَلوه في باب ما يكرهون؛ لأن فعالَى نظيره فَعْلى، وأمَّا أيتام فإنه كُسِّر على أفعال، كما كسَّروا فاعلاً عليه، حين قالوا: شاهد وأشهاد، ونظيره شريف وأشراف، ونصير وأنصار، وأمَّا يَتَمَة، فعلى يَتَم فهو ياتِم، وإن لَم يُسمَع.
يقول د. وجيه الشيمي:
"معنى الكفالة الواردة في الحديث: القيام بأمره ومصالحه، وقد زادَ مالك من مرسل صفوان بن سُليم: ((كافل اليتيم له أو لغيره))، ووصَله البخاري في الأدب المفرد، والطبراني من رواية أمِّ سعيد بنت مُرَّة الفِهريَّة عن أبيها.
ومعنى قوله: ((له)): أن يكون جدًّا أو عمًّا أو أخًا، أو نحو ذلك من الأقارب، أو يكون أبو المولود قد مات، فتقوم أمُّه مقامه، أو ماتَت أُمُّه، فقام أبوه في التربية مقامها.
أخرَج البزَّار من حديث أبي هريرة موصولاً: ((مَن كفَل يتيمًا ذا قرابة، أو لا قرابة له، فأنا وهو في الجنة كهاتين، وضمَّ أُصبعيه))، وهذه الرواية تُفسِّر الرواية التي قبلها: رواية مالك من مراسيل صفوان بن سُليم".
وقد قامَت الإشارة بدور كبير في إبراز أهميَّة وأفضليَّة مَن يقوم على أمر اليتيم، وكذا قُرب منزلته من النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن طريق قول الراوي: "وأشار بأُصبعيه".
يقول ابن حجر:
"قوله وأشار بأصبعيه السبَّابة في رواية الكشميهني السبَّاحة بمهملة بدل الموحَّدة الثانية، والسبَّاحة هي الأصبع التي تلي الإبهام، سُمِّيت بذلك؛ لأنها يُسبَّح بها في الصلاة، فيشار بها في التشهُّد لذلك، وهي السبَّابة أيضًا؛ لأنها يُسَبُّ بها الشيطان حينئذٍ.
قال ابن بطَّال:
حقٌّ على مَن سَمِع هذا الحديث أن يعمل به؛ ليكون رفيقَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الجنة، ولا منزلة في الآخرة أفضل من ذلك، قلت: قد تقدَّم الحديث في كتاب اللعان وفيه: وفرَّج بينهما؛ أي: بين السبَّابة والوسطى، وفيه إشارة إلى أنَّ بين درجة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكافل اليتيم قدر تفاوت ما بين السبَّابة والوسطى، وهو نظير الحديث الآخر: ((بُعثت أنا والساعة كهاتين))؛ الحديث.
وزَعَم بعضهم أنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - لَمَّا قال ذلك، استَوَت أصبعاه في تلك الساعة، ثم عادَتا إلى حالهما الطبيعيَّة الأصليَّة؛ تأكيدًا لأمر كفالة اليتيم، قلت: ومثل هذا لا يَثبت بالاحتمال، ويكفي في إثبات قُرب المنزلة من المنزلة، أنه ليس بين الوسطى والسبَّابة أصبع أخرى، وقد وقَع في رواية لأُمِّ سعيد المذكورة عند الطبراني: ((معي في الجنة كهاتين))؛ يعني: المسبِّحة والوسطى، إذا اتَّقى، ويُحتمل أن يكون المراد قُرب المنزلة حالة دخول الجنة؛ لِما أخرَجه أبو يعلى من حديث أبي هريرة رفَعه: ((أنا أوَّل مَن يفتح باب الجنة، فإذا امرأة تُبادرني، فأقول: من أنتِ؟ فتقول: أنا امرأة تأيَّمت على أيتام لي))، ورُواته لا بأسَ بهم، وقوله: ((تُبادرني))؛ أي: لتدخل معي أو تدخل في أثَري، ويحتمل أن يكون المراد بمجموع الأمرين: سرعةَ الدخول وعُلو المنزلة، وقد أخرَج أبو داود من حديث عوف بن مالك رفَعه: ((أنا وامرأة سَفْعاء الخدَّين كهاتين يوم القيامة، امرأة ذات مَنصب وجمال حبَست نفسها على يتاماها، حتى ماتوا أو بانوا))، فهذا فيه قيد زائد، وتقييده في الرواية التي أشرْتُ إليها بقوله: ((اتَّقي الله))؛ أي: فيما يتعلَّق باليتيم المذكور، وقد أخرَج الطبراني في المعجم الصغير من حديث جابر قلت: يا رسول الله، مِمَّ أَضْرب منه يتيمي، قال: ((ممَّ كنت ضاربًا منه ولدَك، غير واقٍ مالك بماله))، وقد زادَ في رواية مالك المذكور: ((حتى يَستغني عنه))، فيُستفاد منه أنَّ للكفالة المذكورة أمدًا؛ قال شيخنا في شَرْح الترمذي: لعلَّ الحِكمة في كون كافل اليتيم يُشبه في دخول الجنة، أو شُبِّهت منزلته في الجنة بالقُرب من النبيِّ، أو منزلة النبي؛ لكون النبي شأنه أن يُبعث إلى قوم لا يعقلون أمرَ دينهم، فيكون كافلاً لهم ومُعلِّمًا ومرشدًا، وكذلك كافل اليتيم يقوم بكفالة مَن لا يعقِل أمرَ دينه، بل ولا دنياه، ويُرشده ويُعلِّمه، ويُحسن أدبه".
وعن أنس قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن ضمَّ يتيمًا فكان في نفقته، وكفَاه مؤونته، كان له حجابًا من النار يوم القيامة، ومَن مسَح برأس يتيم، كان له بكل شعرة حسنة)).
وقال أكثم بن صيفي: "الأذلاَّء أربعة: النمَّام، والكذَّاب، والمديون، واليتيم".
ثانيًا عقوبة آكل مال اليتيم:
قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [النساء: 10].
قال القرطبي: "رُوِي أنها نزَلت في رجل من غطفان يقال له: مرثد بن زيد، وَلِي مال ابن أخيه وهو يتيم صغير، فأكَله، فأنزَل الله تعالى فيه هذه الآية، قاله مقاتل بن حيَّان، ولهذا قال الجمهور: إنَّ المراد الأوصياء الذين يأكلون ما لَم يُبح لهم من مال اليتيم، وقال ابن زيد: نزَلت في الكفار الذين كانوا لا يُورِّثون النساء ولا الصِّغار، وسُمِّي أخْذُ المال على كلِّ وجوهه أكْلاً؛ لَمَّا كان المقصود هو الأكل، وبه أكثر إتلاف الأشياء، وخصَّ البطون بالذكر؛ لتبيين نقصهم، والتشنيع عليهم بضد مكارم الأخلاق، وسُمِّي المأكول نارًا بما يؤول إليه، كقوله تعالى: ﴿ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ﴾ [يوسف: 36]؛ أي: عنبًا، وقيل: نارًا؛ أي: حرامًا؛ لأن الحرام يوجب النار، فسمَّاه الله تعالى باسمه، وروى أبو سعيد الخدري، قال: حدَّثنا النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن ليلة أُسرِي به قال: ((رأيت قومًا لهم مشافر كمشافر الإبل، وقد وُكِّل بهم مَن يأخذ بمشافرهم، ثم يَجعل في أفواههم صخرًا من نار يخرج من أسافلهم، فقلت: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هم الذين يأكلون أموال اليتامى ظُلمًا)).
فدلَّ الكتاب والسُّنة على أنَّ أكْلَ مال اليتيم من الكبائر، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اجتنبوا السبع الموبقات))، وذكر فيها: ((وأكل مال اليتيم))".
يقول الدكتور وجيه الشيمي:
"وقد اقتضَت حكمة الله أن يولَد الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يتيمًا؛ ليكون ذلك شرفًا لليُتم، ومواساة للأيتام؛ قال تعالى: ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ﴾ [الضحى: 6]؛ لذا قال الحق - عزَّ وجلَّ - في نفس السورة: ﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ﴾ [الضحى: 9].
وقد أوصانا الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصيَّة جازمة بالحفاظ على حقِّ اليتيم، وحرَّج على مَن يتعدَّى أو يَظلم يتيمًا".