المجلسي يؤلف بحار الأنوار ..
"اقترن اسم المجلسي بالدولة الصفوية، واقترن كتاب بحار الأنوار به". هكذا يمكن أن نلخص حديثنا عن محمد باقر المجلسي أشهر علماء الشيعة الإمامية الاثنى عشرية في العصر الصفوي، وعن كتابه الكبير في حجمه "بحار الأنوار في أحاديث النبي والأئمة الأطهار".
فالدولة الصفوية التي قامت في إيران سنة 907هـ (1502م) وتبنت مذهب الشيعة الاثنى عشرية، وفرضته بالقوة، كانت حريصة على رفعة هذا المذهب ونشره في عموم إيران والمناطق المجاورة، وأنفقت الكثير لدعم حركة التأليف والترجمة، بل واستقدام العلماء الشيعة من خارج إيران وبشكل خاص من جبل عامل في لبنان، ليقوموا بتعليم العقائد الشيعية ونشرها، والتأليف فيها، وأصبح لعلماء الشيعة مكاناً مرموقاً في العهد الصفوي، وقد كان المجلسي نتاجاً لهذا العصر.
ولد محمد باقر بن محمد تقي المجلسي سنة 1037هـ (1627م) في أصفهان التي كانت آنذاك عاصمة للصفويين، ويعرف محمد باقر بالمجلسي الثاني في حين يطلق على والده المجلسي الأول.
ينظر الشيعة إلى محمد باقر المجلسي نظرة احترام كبيرة، وإجلال، ويعتبرونه أحد الذين حفظوا مذهب الشيعة الإمامية، وحُفظ المذهب بهم، بل ويعتبرونه الذي حمى إيران، والدولة الصفوية التي لم تسقط إلاّ بعد وفاته!
وترجم له صاحب كتاب "المرجعية الدينية ومراجع الإمامية" ص 58 بقوله: "..كان شيخ الإسلام المطاع من قبل السلاطين الصفويين في أصفهان حينما كانت هذه المدينة حاضرة لبلاد إيران، وكان من موقعه الديني المتميز يباشر بنفسه جميع المرافعات وشؤون القضاء وإجراء الحدود الإسلامية.. وقال عنه المحدث النوري في كتابه "دار السلام"" لم يوفق أحد في الإسلام مثل ما وُفّق هذا الشيخ المعظم والبحر الخضم والطود الأشم من ترويج المذهب بطرق عديدة أجلها وأبقاها التصانيف الكثيرة التي شاع ذكرها في الأنام..
وبلغ من ترويجه لمذهب الإمامية حدّاً بحيث أن عبد العزيز الدهلوي من كبار علماء السنة وصاحب كتاب "التحفة الإثنى عشرية في الرد على الإمامية" صرح بأنه: لو سمي دين الشيعة بدين المجلسي لكان في محله".
وأما دوره في الدولة الصفوية الشيعية ومكانته، فينقل مؤلف كتاب "الهجرة العاملية إلى إيران" ص195 بعض ما جاء في كتب التاريخ الإيراني عن المجلسي "الذي، وإن لم يجلس فعلاً على العرش، لكنه بشخصيته القوية القادرة، استطاع أن يقبض على الأمور، وسط الظروف الحالكة، التي كانت تمر بها البلاد، حيث كان الأفغانيون يهدّدون باجتياحها، مستغلين ضعف الشاه حسين الأول. وفعلاً حفظ البلاد طيلة حياته، ولم ينجح الأفغانيون في اجتياح إيران إلاّ بعد وفاته".
وأطلق على المجلسي "شيخ الدولة الصفوية"، وكانت له الكلمة المسموعة، وقد عاش في المرحلة الصفوية الأخيرة([1]) عيشة ترف وأبهة. وكان شديد التعصب لمذهبه فأغرى الدولة باضطهاد جميع مخالفيه.
وفي مقابل ما كان يحظى به المجلسي من مكانة، كان يكيل المدح والإطراء لسلاطين الدولة الصفوية، رغم ما عرف عنهم من بطش وفساد، حتى أن الشاه حسين الذي كان يبيح الخمور في عصره وكان لعبة بيد الحريم كما ذكر صاحب كتاب "الهجرة العاملية" يثني عليه المجلسي ثناءً لا حدود له.كما سطر ذلك المجلسي نفسه في مقدمة كتابه "زاد المعاد" إذ يقول:
ونظراً لأن إتمام هذه الرسالة وإنجازها على عجالة تم في زمان دولة العدالة، وأوان سلطنة السعادة صاحب الحضرة العليا سيد سلاطين الزمان ورئيس خواقين العصر، شيرازة أوراق الملّة والدين، وصفوة أحفاد سيد المرسلين..، السلطان الذي خدمه جمّ، والخاقان الذي الملائكة له حشم.. يا من جبين غضبه يفك العقد التي لا تحلّ، وراحة يده الكريمة سحاب مطر على مزارع الأيسين،مؤسس قواعد الملة والدين، مروّج شريعة الآباء الطاهرين، ومَن حياض بلاطه تفيض من كثرة تقبيل شفاه سلاطين الزمان وخواقين العصر... أعني السلطان الأعظم، والخاقان الأعدل الأكرم، ملجأ الأكاسرة، وملاذ القياصرة، محيي مراسم الشريعة الغراء.. الشاه سلطان حسين الموسوي الحسيني الصفوي.. لا زالت رايات دولته مرفوعة...".
واشتهر المجلسي بكثرة مؤلفاته التي تروج لمذهب الشيعة الاثنى عشرية، فمنها كتاب "زاد المعاد" الآنف الذكر في فضائل الأيام والليالي، وأعمال السنة، ومن كتبه كذلك "في أحوال الأنبياء من آدم إلى نبينا صلى الله عليه وسلم" و "في أحوال خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم من ولادته إلى وفاته" ,و "في الفتن الحادثة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم" و " في أحوال أمير المؤمنين من ولادته وفضائله ومعجزاته ووفاته" و "في أحوال الزهراء والحسنين عليهم السلام" و " في أحوال السجّاد والباقر والصادق والكاظم عليهم السلام" و"في أحوال الرضا والجواد والهادي والعسكري عليهم السلام" و"حق اليقين" و "مرآة العقول".
إلا أن كتاب " بحار الأنوار في أحاديث النبي والأئمة الأطهار" يظل أكبر كتبه وأهمها، ويقع في 25 مجلّداً ضخماً، كل مجلد منها يبلغ عدة مجلدات، حتى أن مجموعها بلغ 111 جزءاً، الأمر الذي جعل الشيعة يعتبرون هذا الكتاب "دائرة معارف شيعية لا مثيل لها" ومن أهم ما أضافه العصر الصفوي إلى المكتبة الشيعية وأوسع مصدر للثقافة الشيعية.
ويعتبر "بحار الأنوار" من أهم كتب الحديث عند الشيعة، وقد جمع فيه المجلسي ما هبّ ودبّ من الأخبار والأحاديث المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم والأئمة، وجمع فيه سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وفاطمة والأئمة الاثنى عشر، وأحوالهم ومناقبهم، وما نُسب إليهم من المواعظ، ورتبها من غير تهذيب ولا تحقيق.
ولم ينقل المجلسي في "بحاره" إلاّ القليل مما احتوته كتب الحديث الأربعة الكبرى عند الشيعة([2]) لأن هذه الكتب كانت تتناول بشكل كبير الفروع، وبحار الأنوار كان في غير الفروع، كما أن المجلسي كان يريد أن يجمع كل ما نسب إلى الإمامية بغض النظر عن صحته ، حتى أنه أدخل في مصادره مرجعاً لا يعرفه الشيعة، وينكرون صحته يعرف باسم "الفقه الرضوي" ، وقد ادّعي أن هذا الكتاب اكتشف في زمن المجلسي!
وقد أشار المجلسي إلى "بحاره" في مقدمة كتاب "زاد المعاد" بقوله:
"وقد وردت أعمال وأدعية جمّة عن رسول الله وأئمة الهدى (صلوات الله عليه وعليهم أجمعين) تزخر بها كتب الأدعية، وأنا الداعي خادم أخبار الأئمة الأطهار عليهم صلوات الملك الغفار قد جمعت أكثرها في كتاب بحار الأنوار، غير أن أكثر الناس لا يتيسّر لهم الاطلاع على ما في هذا الكتاب والعمل بجميع ما فيه نظراً لانشغالهم بأنواع الهموم الدنيوية..".
وقد ذكر عبد الله الجزائري أن المجلسي عندما عزم على تأليف "بحار الأنوار"، وكان يفتش عن الكتب القديمة، ويسعى للحصول عليها بَلَغه أن كتاب "مدينة العلم" لشيخ الشيعة المسمى عندهم "الصدوق" موجود في بلاد اليمن، فأبلغ السلطان بذلك، وعلى التو، أوفد السلطان سفيراً إلى ملك اليمن، وحمّله بهدايا وتحف كثيرة من أجل الحصول على ذلك الكتاب.
ومن جانب آخر أوقف الشاه سليمان الصفوي بعض أملاكه الخاصة في سبيل نسخ الكتاب وتوفيره للطلبة، وحين أدخلت المطبعة الحجرية إلى إيران في العهد القاجاري، كان هذا الكتاب من أوائل المؤلفات التي طبعت فيها على نطاق واسع، كما نشر فيما بعد، وأرسلت نسخ كثيرة منه إلى العراق ودول الخليج، وخاصة أن "بحار الأنوار" كتبه مؤلفه باللغة العربية، بينما كانت مؤلفاته الأخرى بالفارسية.
لقد جمع المجلسي في كتابه هذا بحاراً من الجهالة والأباطيل التي نسبها للنبي صلى الله عليه وسلم وأئمة أهل البيت الكرام، وقد أصّل فيه لعقائد الشيعة الروافض، ففي كتابه يتضح بشكل لا لبس فيه القول بتحريف القرآن، وتأليه الأئمة، وتكفير الصحابة،.. ولعلنا ننقل هنا شيئاً يسيراً مما احتواه كتاب بحار الأنوار من أباطيل وروايات مكذوبة:
1ـ يقول المجلسي بعد أن ساق أقوالاً للصدوق، وروايات تكفّر من لا يؤمن بولاية الأئمة الاثنى عشر: "اعلم أن إطلاق لفظ الشرك والكفر على من لم يعتقد إمامة أمير المؤمنين والأئمة من ولده عليهم السلام، وفضل عليهم غيرهم يدل أنهم مخلدون في النار" البحار 23/390.
2ـ وضع المجلسي رواية في "بحاره" عن الإمام الباقر أنه قال: "والله يا أبا حمزة إن الناس كلهم أولاد بغايا ما خلا شيعتنا"! (ج24 ص311) .
3ـ أما فيما يتعلق بتأليه الأئمة وإضفاء صفات الربوبية عليهم من دون الله عز وجل فقد جاء في كتابه الشيء الكثير حول هذا نشير إلى عناوين تلك الأبواب:
ـ باب: أن الله تعالى يرفع للإمام عموداً ينظر به إلى أعمال العباد
ـ باب: أن عندهم جميع علوم الملائكة والأنبياء
ـ باب: أنهم يعلمون متى يموتون وأنه لا يقع ذلك إلاّ باختيارهم
ـ باب" أنهم يقدرون على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وجميع معجزات الأنبياء عليهم السلام.
والأغرب من ذلك أن المجلسي جعل الأئمة كل شيء في القرآن، ففي أبواب أخرى من كتابه جعلهم:
ـ الصلاة والزكاة والحج والصيام وسائر الطاعات، وأعداءهم الفواحش والمعاصي.
ـ السبع المثاني وكلمات الله.
ـ أهل الأعراف...
لذلك يقول الدكتور ناصر القفاري في كتابه "أصول مذهب الشيعة" ص199: "وكتاب البحار المعتمد عند الشيعة يكاد يجعل الأئمة هم كل شيء ورد به القرآن... فيمضي في هذه الأبواب ليقرر ما شاء له هواه وتعصبه..".
4ـ علّق المجلسي في بحاره على قصة امرأة لوط وامرأة نوح المذكورة في القرآن بقوله: "لا يخفى على الناقد البصير والفطن الخبير ما في تلك الآيات من التعريف بل التصريح بنفاق عائشة وحفصة وكفرهما"! (22/33).
5ـ وأورد المجلسي في كتابه "عن ابن عبد الحميد قال: دخلت على أبي عبد الله ـ رضي الله عنه ـ فأخرج إليّ مصحفاً، قال: فتصفحته فوقع بصري على موضع منه فإذا فيه مكتوب: "هذه جهنم التي كنتم بها تكذبان. فاصليا فيها لا تموتان فيها ولا تحييان". قال المجلسي: "يعني الأولين" أي أبو بكر وعمر. وهنا كما يتضح يورد المجلس كلاماً يزعم أنه من القرآن الذي تم إخفاؤه وحذفه كما تؤمن الشيعة، ويحكم من خلاله على أبي بكر وعمر رصي الله عنهما بالخلود في النار.
للاستزادة:
1ـ المرجعية الدينية ومراجع الإمامية ـ نور الدين الشاهرودي ص 85
2ـ التشيع العلوي والتشيع الصفوي ـ علي شريعتي ص204
3ـ التشيع بين مفهوم الأئمة والمفهوم الفارسي ـ محمد البنداري ص 63
4ـ ثقافة الوسط ـ علاء الدين المدرس ص 371
5ـ الشيعة والتشيع ـ الشيخ إحسان إلهي ظهير ص 327
6ـ الهجرة العاملية إلى إيران في العصر الصفوي ـ جعفر المهاجر ص 81
7ـ أصول مذهب الشيعة ـ الشيخ الدكتور ناصر القفاري ص 199
[1] ـ تأسست دولة الصفويين سنة 907هـ (1502م) على يد الشاه إسماعيل الصفوي، واستمرت حتى سنة 1148هـ (1736م) عندما قضى عليها نادر شاه مؤسساً دولة الأفشار. وكان آخر حكام الصفويين عباس الثالث.
[2] ـ الكافي للكليني، وكتاب من لا يحضره الفقية لابن بابويه القمي، وتهذيب الأحكام، والاستبصار، لأبي جعفر الطوسي. وقد ألفت هذه الكتب قبل المجلسي بقرون عديدة.
_____________________________
المصدر: مجلة الراصد