قياس التوسل بذات النبي صلى الله عليه وآله وسلم على التبرك بآثاره ..
وهذه شبهة أخرى لم تكن معروفة فيما مضى من القرون، ابتدعها ورَوّجها الدكتور البوطي ذاته، إذ قرر في كتابه "فقه السيرة" (ص344-455) خلال حديثه عن الدروس المستفادة من غزوة الحديبية مشروعية التبرك بآثاره النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قاس على ذلك التوسل بذاته بعد وفاته، وأتى نتيجة لذلك برأي غريب وعجيب لم يقل به أحد من المشتغلين بالعلم، حتى من المغرقين في التقليد والجمود والتعصب والابتداع في الدين.
ولكي لا يظن أحد أننا نتقول عليه أو نظلمه ننقل نص كلامه بتمامه، ونعتذر إلى القراء لطوله، قال: ( وإذا علمت أن التبرك بالشيء إنما هو طلب الخير بواسطته ووسيلته علمت أن التوسل بآثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر مندوب إليه ومشروع، فضلاً عن التوسل بذاته الشريفة، وليس ثمة فرق بين أن يكون ذلك في حياته صلى الله عليه وآله وسلم أو بعد وفاته، فآثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفضلاته لا تتصف بالحياة مطلقاً، سواء تعلق التبرك والتوسل بها في حياته أ, بعد وفاته، ولقد توسل الصحابة بشعراته من بعد وفاته كما ثبت ذلك في صحيح البخاري في باب شيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومع ذلك فقد ضل أقوام لم تشعر أفئدتهم بمحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وراحوا يستنكرون التوسل بذاته صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته، بحجة أن تأثير النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد انقطع بوفاته، فالتوسل به إنما هو توسل بشيء تأثير له البتة. وهذه حجة تدل على جهل عجيب جداً، فهل ثبت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تأثير ذاتي في الأشياء في حال حياته حتى نبحث عن مصير هذا التأثير بعد وفاته؟ إن أحداً من المسلمين لا يستطيع أن ينسب أي تأثير ذاتي في الأشياء لغير الواحد الأحد، ومن اعتقد خلاف ذلك يكفر بإجماع المسلمين كلهم... فمناط التبرك والتوسل به أو بآثاره صلى الله عليه وآله وسلم ليس هو إسناد أي تأثير إليه، وإنما المناط كونه أفضل الخلائق عند الله على الإطلاق، وكونه رحمة من الله للعباد، فهو التوسل بقربه صلى الله عليه وآله وسلم إلى ربه وبرحمته الكبرى للخلق، وبهذا المعنى توسل الأعمى به صلى الله عليه وآله وسلم في أن يرد عليه بصره، فرده الله عليه، وبهذا المعنى كان الصحابة يتوسلون بآثاره وفضلاته دون أن يجدوا منه أي إنكار. وقد مر بيان استحباب الاستشفاع بأهل الصلاح والتقوى وأهل بيت النبوة في الاستسقاء وغيره، وأن ذلك مما أجمع عليه جمهور الأئمة والفقهاء بما فيهم الشوكاني وابن قدامة والصنعاني وغيرهم.
والفرق بعد هذا بين حياته وموته صلى الله عليه وآله وسلم خلط عجيب وغريب في البحث لا مسوغ له).
ولنا على هذا الكلام مؤاخذات كثيرة نورد أهمها فيما يلي:
1 – لقد أشرنا (ص77-78) إلى تعريض البوطي بالسلفيين، واتهامه إياهم بأن أفئدتهم
لا تشعر بمحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والاستدلال على ذلك بإنكارهم التوسل به صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته.
وهذه فرية باطلة، وبهتان ظالم لا شك أن الله تعالى سيحاسبه عليه أشد الحساب ما لم يتبْ
إليه التوبة النصوح. ذلك لأن فيها تكفيراً لآلاف المسلمين دونما دليل أو برهان إلا الظن والوهم
اللذين لا يغنيان من الحق شيئاً.
2 – إنه قد خلط في كلامه السابق بين الحق والباطل خلطاً عجيباً، فاستدل بحقه على باطله، فوصل من جرّاء ذلك إلى رأي لم يسبقه إليه أحد من العالمين.
وإذا أردنا أن نميز بين نوعي كلامه فإننا نقول:
إن الحق الذي تضمنه هو:
أ – أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قريب إلى الله تبارك وتعالى، وأنه كان رحمة من الله تعالى للخلق.
ب – أنه لا تأثير لأحد حتى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم تأثيراً ذاتياً في الأشياء، وإنما التأثير كله لله الواحد الأحد.
ج – أنه يشرع التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن الصحابة فعلوا ذلك في حياته صلى الله عليه وآله وسلم وبإقرار منه.
هذه النقاط الثلاثة صحيحة لا خلاف فيها، ولو وقف الكاتب عندها لما كان ثمة حاجة للتعليق عليه.
وأما الباطل الذي تضمنه كلامه وفيه الخلاف العريض فهو:
أ – أن التوسل بآثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم جائز، وأن الصحابة كانوا يتوسلون بآثاره صلى الله عليه وآله وسلم وفضلاته.
ب – تسويته بين التبرك والتوسل.
ج – أن التوسل بذاته صلى الله عليه وآله وسلم جائز كجواز التبرك بفضلاته.
د – أن مناط التوسل به صلى الله عليه وآله وسلم هو كونه أفضل الخلائق عند الله على الإطلاق.
ه - جهله بمعنى كلمة الاستشفاع مما حمله على الاستدلال بها على التوسل المبتدع.
و – افتراؤه على السلفيين بأنهم يرون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان له تأثير ذاتي في الأشياء خلال حياته، وقد انقطع ذاك التأثير بوفاته، وأن هذا هو سبب إنكارهم التوسل به صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته!
ز – ادعاؤه أن الأعمى توسل بقربه صلى الله عليه وآله وسلم من ربه.
ح – ادعاؤه أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الخلائق على الإطلاق.
وننتقل بعد هذا الإجمال إلى الشرح والتفصيل فنقول:
1 – تخليط البوطي في التسوية بين التبرك والتوسل:
لقد قال الدكتور البوطي: (ان التوسل بآثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر مندوب إليه ومشروع فضلاً عن التوسل بذاته الشريفة) . وظاهر كلامه أن يقيس التوسل بذاته صلى الله عليه وآله وسلم قياساً أولوياً على التبرك بآثاره، ويسمى هذا التبرك توسلاً، ويؤكد ما ذكرناه قوله في (ص196) من كتابه المذكور حيث ذكر بعض الروايات التي فيها تبرك بعض الصحابة بآثاره صلى الله عليه وآله وسلم، ثم قال: (فإذا كان هذا شأن التوسل بآثاره المادية، فكيف بالتوسل بمنزلته عند الله جل جلاله؟ وكيف بالتوسل بكونه رحمة للعالمين؟).
ولكنه سرعان ما تراجع عن كل ذلك زاعماً أن التبرك والتوسل معناهما واحد، منكراً أنه يقيس التوسل على التبرك، وأن المسألة لا تعدو أن تكون استدلالاً بالقياس، فإن التوسل والتبرك كلمتان تدلان على معنى واحد، وهو التماس الخير والبركة عن طريق المتوسل به، وكل من التوسل بجاهه صلى الله عليه وآله وسلم عند الله والتوسل بآثاره أو فضلاته أو ثيابه أفراداً وجزئيات داخلة تحت نوع شامل هو مطلق التوسل الذي ثبت حكمه بالأحاديث الصحيحة، وكل الصور الجزئية له يدخل تحت عموم النص بواسطة ما يسمى بتنقيح المناط عند علماء
الأصول).
والحقيقة أن ظاهر كلام الدكتور الأول كان أهون بكثير من كلامه الأخير هذا، لأن التوسل يختلف اختلافاً بيناً عن التبرك، ومن يسوي بينهما فإنه يكون قد ارتكب خطأ شنيعاً، ووقع في جهل فظيع بالحقائق الشرعية، مما لا يجوز أن يقع في طالب علم يحترم نفسه.
إن التبرك هو التماس من حاز أثراً من آثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم حصول خير به خصوصية له صلى الله عليه وآله وسلم، وأما التوسل فهو إرفاق دعاء الله تعالى بشيء من الوسائل التي شرعها الله تعالى لعباده، كأن يقول: اللهم إني أسألك بحبي لنبيك صلى الله عليه وآله وسلم أن تغفر لي، ونحو ذلك. ويتبدى هذا الفرق في أمرين:
أولهما: أن التبرك يرجى به شيء من الخير الدنيوي فحسب، بخلاف التوسل الذي يرجى به أي شيء من الخير الدنيوي والأخروي.
ثانيهما: أن التبرك هو التماس الخير العاجل كما سبق بيانه، بخلاف التوسل الذي هو مصاحب للدعاء ولا يستعمل إلا معه.
وبياناً لذلك نقول: يشرع للمسلم أن يتوسل في دعائه باسم من أسماء الله تبارك وتعالى الحسنى مثلاً، ويطلب بها تحقيق ما شاء من قضاء حاجة دنيوية كالتوسعة في الرزق، أو أخروية كالنجاة من النار، فيقول مثلاً: اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بأنك أنت الله الأحد، الصمد، أن تشفيني أو تدخلني الجنة...، ولا أحد يستطيع أن ينكر عليه شيئاً من ذلك، بينما لا يجوز لهذا المسلم أن يفعل ذلك حينما يتبرك بأثر من آثاره صلى الله عليه وآله وسلم، فهو لا يستطيع
ولا يجوز له أن يقول مثلاً: ( اللهم إني أسألك وأتوسل إليك بثوب نبيك أو بصاقه أو بوله أن تغفر لي وترحمني.. ومن يفعل ذلك فإنه يعرّض نفسه من غير ريب ليشك الناس في عقله وفهمه فضلاً عن عقيدته ودينه. وظاهر كلام الدكتور أنه يجيز هذا التوسل العجيب، ويعده هو والتبرك بأثر من آثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً واحداً، وهو بهذا يخلط خلطاً قبيحاً، ومع ذلك
لا يخجل من اتهام السلفيين بأنهم يخلطون خلطاً عجيباً لا مسوغ له، فقد علم القراء من الذين يخلط ويخبط خبط عشواء.
إن هذا ليذكرنا حقاً بالمثل العربي القائل: رمتني بدائها وانسلّت. وصدق النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم حيث يقول:صلى الله عليه وآله وسلم إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تسنح فاصنع ما شئت i(1).
وثمة ملاحظة هامة وخطيرة في كلام الدكتور السابق، وهي أنه يدعي ثبوت مطلق التوسل بالأحاديث الصحيحة، وهذا باطل، لأنه ليس أكثر من افتراض ودعوى مجردة لا حقيقة لها إلا في ذهنه، إذ لم يثبت من التوسل المتعلق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا دعاؤه صلى الله عليه وآله وسلم كما تقدم في ثنايا هذه الرسالة، واما التوسل بجاهه صلى الله عليه وآله وسلم أو آثاره فلم يثبت منه شيء البتة في كتاب أو سنة، ونحن نطالب الدكتور أن يدلنا على حديث واحد ثابت، فيه هذه الدعوى، ونحن على يقين أنه لن يجد شيئاً من ذلك، فقد عوّدنا على تقرير أحكام ضخمة دونما دليل (خبط لزق)! وادعاء دعاوى عريضة لا تقوم على أساس إلا أنها بدت له هكذا، وحسب القارىء له أن يؤمن بما يقول ويسلم له تسليماً، وإياه ثم إياه أن يسأله عن الدليل، لأن ذلك من قلة الأدب، ورقة الدين، وطريقة السلفيين، والعياذ بالله. فتأمل!
2 – بطلان التوسل بآثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
وبعد إثبات الفرق بين التوسل والتبرك نعلم أن آثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يتوسل بها إلى الله تعالى وإنما يتبرك بها فحسب، أي يرجى بحيازتها حصول بعض الخير الدنيوي كما سبق بيانه.
إننا نرى أن التوسل بآثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير مشروع البتة، وأن من الافتراء على الصحابة رضوان الله عليهم الادعاء بأنهم كانوا يتوسلون بتلك الآثار، ومن ادعى خلاف رأينا فعليه الدليل، بأن يثبت أن الصحابة كانوا يقولون في دعائهم مثلاً: اللهم ببصاق نبيك اشفِ مرضانا، أو: اللهم ببول نبيك أو غائطه اجرنا من النار!! إن أحداً من العقلاء لا يستسيغ رواية ذلك مجرد رواية فكيف باستعماله، وإذا كان الدكتور البوطي ما يزال في شك من ذلك، وإذا كان يرى جواز ذلك فعليه أن يثبته عملياً بأن يدعو من على منبره بمثل الدعوات السابقة، وإن لم يفعل – ولن يفعل إن شاء الله ما بقي فيه عقل، وفي قلبه ذرة من إيمان – فذلك دليل على أنه يقول بلسانه ما لا يعتقد في قلبه.
هذا ولابد من الإشارة إلى أننا نؤمن بجواز التبرك بآثاره صلى الله عليه وآله وسلم، ولا ننكره خلافاً لما يوهمه صنيع خصومنا، ولكن لهذا التبرك شروطاً منها الإيمان الشرعي المقبول عند الله، فمن لم يكن مسلماً صادق الإسلام فلن يحقق الله له أي خير بتبركه هذا، كما يشترط للراغب في التبرك أن يكون حاصلاً على أثر من آثاره صلى الله عليه وآله وسلم ويستعمله، ونحن نعلم أن آثاره صلى الله عليه وآله وسلم من ثياب أو شعر أو فضلات قد فقدت، وليس بإمكان أحد إثبات وجود شيء منها على وجه القطع واليقين، وإذا كان الأمر كذلك فإن التبرك بهذه الآثار يصبح أمراً غير ذي موضوع في زماننا هذا(1)، ويكون أمراً نظرياً محضاً، فلا ينبغي إطالة القول فيه، ولكن ثمة أمر يجب تبيانه، وهو أن النبيصلى الله عليه وآله وسلم وإن أقر الصحابة في غزوة الحديبية وغيرها على التبرك بآثاره والتمسح بها، وذلك لغرض مهم وخاصة في تلك المناسبة، وذلك الغرض هو إرهاب كفار قريش وإظهار مدى تعلق المسلمين بنبيهم، وحبهم له، وتفانيهم في خدمته وتعظيم شأنه، إلا أن الذي لا يجوز التغافل عنه ولا كتمانه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد تلك الغزوة رغّب المسلمين بأسلوب حكيم وطريقة لطيفة عن هذا التبرك، وصرفهم عنه، وأرشدهم إلى أعمال صالحة خير لهم منه عند الله عز وجل، وأجدى، وهذا ما يدل عليه الحديث الآتي:
عن عبد الرحمن بن أبي قراد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توضأ بوماً، فجعل أصحابه يتمسحون بوضوئه، فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يحملكم على هذا؟ i قالوا: حب الله ورسوله. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم من سره أن يحب الله ورسوله، أو يحبه الله ورسوله فليصدق
حديثه إذا حدث، وليؤد أمانته إذا اؤتمن، وليحسن جوار من جاوره i (1).
3 – افتراء عريض:
والظاهر أن الدكتور لا يطيب له عيش، ولا يهنأ له بال إلا إذا افترى على السلفيين، وكذب عليهم، كذباً مكشوفاً حيناً ومغطى حيناً آخر. وها هو هنا يفتري علينا حين يزعم أننا نحتج على منع التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته بالقول بأن تأثيره صلى الله عليه وآله وسلم في الحوادث قد انقطع بعد وفاته، ويتطوع بأن يثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سواء في حياته أو بعد وفاته ليس له تأثير ذاتي في الأشياء في كل ظرف وفي كل حين، وأن المؤثر الوحيد فيها هو الله وحده سبحانه.
وواضح من هذا بجلاء أنه يتهم السلفيين بأنهم يعتقدون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان له تأثير ذاتي في الأشياء حال حياته. وهذا كذب صراح، وافتراء مكشوف، لم يقل به سلفي قط، بل ولا خطر في بال أحد من السلفيين البتة، وكيف يقولونه وهم دعاة التوحيد الخالص، والدين الصحيح، والذين جعلوا أكبر همهم دعوة الناس إلى إخلاص عبوديتهم لله تعالى وحده، وتخليص عقائدهم من كل شائبة من شوائب الشرك، والتنديد بكل ما يخدش جناب التوحيد، ولو كان ذلك خطأ لفظياً. وقد تحملوا في سبيل ذلك الأذى من الناس والتشهير بهم والافتراء عليهم واتهامهم بأقبح التهم، وما نقم الناس – وفيهم الدكتور البوطي – عليهم إلا لدعوتهم الحقة هذه، ومع ذلك فلا يخجل من أن يرميهم بهذه التهمة الباطلة التي يعلم هو
– فيما نرجح – قبل غيره أنها باطلة مفتراة، وإلا فليبين لنا – إن استطاع – مصدر هذا القول المزعوم، ومن قاله من السلفيين، وفي أي كتاب ورد من كتبهم أو نشراتهم، فإن لم يفعل
– وهيهات أن يفعل – فإنه يكون قد ظهر لكل أحد كذبه وافتراؤه.
وشيء آخر نذكره هنا، وهو أن كلام البوطي السابق (ومن ادعى شيئاً من ذلك يكفر بإجماع المسلمين) يفيد لمن تأمله تكفير السلفيين عموماً، وهذا كذب آخر واتهام ظالم، لا شك أن الله تعالى سيحاسبه عليه، لأن السلفيين هم مسلمون، بل هم أحق الناس بصفة الإسلام، وهم يعلمون حق العلم أن نسبة التأثير الذاتي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لغيره هو من الشرك في الربوبية المخرج من الملة، وهم من أشد الناس تنبهاً له وتحذيراً منه، بينما البوطي وأمثاله يلتمسون
للواقعين فيه مختلف الأعذار والتبريرات.
ولا يفوتنا هنا أن نذكره وأمثاله بما بيناه في ثنايا هذه الرسالة من أن السبب الذي يدعونا إلى منع التوسل بذوات الصالحين ومكانتهم وجاههم إنما هو كونه لم يرد في الشريعة الغراء،
ولم يستعمله النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا أصحابه، فهو لذلك محدَث مبتدع، وما ورد من النصوص التي يحتج بها المخالفون بعضها ثابت ولكنه لا يدل على ما يدعون، وبعضها الآخر غير ثابت، وقد مضى تفصيل ذلك.
إن هذا هو السبب الذي يحملنا على إنكار ذلك التوسل، وتقول بصراحة: إنه لو ورد في الشرع لقلنا به، ولم يمنعنا منه مانع، لأننا أسرى في يد الشريعة، فما أجازته أجزناه، وما منعته منعناه، والغريب أن الدكتور تغافل عن هذا السبب الأساسي، واختلق من عنده سبباً تخيله كما شاء له هواه قاصداً بذلك أن يتمكن من الطعن فينا والتشهير بنا، وإثارة الغوغاء علينا، فانظر – رحمك الله – إلى هذا الأسلوب الغريب المنافي للدين والعلم، واشتكِ معنا إلى الله عز وجل من غربة الحق وأهله في هذا الزمان.
4 - خطؤه في ادعائه أن مناط التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كونه أفضل الخلائق:
وهذا خطأ آخر وقع فيه الدكتور نتيجة لتهوره وعدم تفكيره فيما يكتب، حيث ادعى أن مناط التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم هو كونه أفضل الخلائق عند الله على الإطلاق، وكونه رحمة من الله للعباد كما تقدم من كلامه.
ونقول له: ان معنى ذلك عندك أن من لم يكن كذلك ( أي أفضل الخلائق عند الله ..)
فلا يجوز التوسل به، لأنه لم يتحقق فيه المناط المزعوم، ذلك لأن المناط أصلاً هو علة الحكم التي يوجد بوجودها، وينعدم بعدمها، وعلى هذا فمعنى عبارة الدكتور – لو كان يعقل
ما يقول – إنه لا يجوز التوسل بأحد مطلقاً إلا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن نعلم علم اليقين أنه يعتقد خلاف ذلك، ويرى جواز التوسل بكل نبي أو ولي أو صالح، وبهذا يكون هو نفسه قد قال ما لا يعتقد، وناقض نفسه بنفسه، والسبب في ذلك أحد أمرين، فإما أن يكون غير فاهم لاصطلاح المناط عند العلماء، وإما أن يكون غير متأمل فيما ينتج عنه من كلامه، وهذا هو الأقرب، والله أعلم.
وأمر آخر نذكره في هذه المناسبة وهو أن من المقرر لدى علماء الأصول أنه لابد لاعتبار المناط في حكم ما من أن يكون قد ورد تعيينه في نص من كتاب أو سنة، ولا يكفي فيه الاعتماد على الظن والاستنباط.
وإذا عدنا إلى ما ذكره الدكتور وجدنا أنه قد ادعى مناطاً ليس عليه شبة دليل من الكتاب والسنة، وإنما عمدته في ذلك مجرد الظن والوهم، فهل هكذا يكون العلم وإثبات الحقائق الشرعية عند الدكتور الذين يُعَنْون لبعض كتبه بأنها (أبحاث في القمة)؟
وأمر ثالث وأخير وهو أن الدكتور قد ادعى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الخلائق عند الله على الإطلاق. وهذه عقيدة، وهي لا تثبت عنده(1)، إلا بنص قطعي الثبوت قطعي الدلالة(2)، أي بآية قطعية الدلالة، أو حديث متواتر قطعي الدلالة، فأين هذا النص الذي يثبت كونه صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الخلائق عند الله على الإطلاق؟
ومن المعلوم أن هذه القضية مختلف فيها بين العلماء، وقد توقف فيها الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى، ومن شاء التفصيل فعليه بشرح عقيدة الإمام أبي جعفر الطحاوي الحنفي رحمه الله، (ص337-348، طبعة المكتب الإسلامي بتحقيقي).
ولعل مستند الدكتور في تقرير تلك العقيدة ما ورد في قصة المعراج المنسوبة كذباً وعدواناً إلى الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، مع أنه هو نفسه يقول(1) عن هذه القصة: (إنه كتاب ملفق من مجموعة أحاديث باطلة لا أصل لها ولا سند)!
والحقيقة أن كلامه هذا بهذا الإطلاق هو الباطل، إذ يوجد في الكتاب المذكور كثير من الأحاديث الصحيحة، وبعضها مما رواه الشيخان، ولكن المؤلف خلطها بأحاديث أخرى
بعضها موضوع وبعضها لا أصل له، وبعضها ضعيف، وقد بينت ذلك في ردي على الدكتور البوطي الذي نشر في مجلة التمدن الإسلامي أولاً، ثم في كتاب مستقل، كما سبق بيانه قريباً (ص121) .
5 – جهلة بالمعنى اللغوي لكلمة الاستشفاع:
وهذه غلطة شنيعة أخرى وقع فيها الدكتور – اصحله الله وهداه – إذ استدل بالاستشفاع الوارد في أحاديث الاستسقاء على التوسل المبتدع، فقال: (وقد مر بيان استحباب الاستشفاع بأهل الصلاح والتقوى، وأهل بيت النبوة الوارد في الاستسقاء وغيره، وأن ذلك مما أجمع عليه جمهور الأئمة والفقهاء بما فيهم الشوكاني وابن قدامة والصنعاني وغيرهم) وما كان للدكتور أن يقع في هذا الخطأ لو كان يفقه معنى الاستشفاع في اللغة، ورغبة في تنوير القراء وإفادتهم نورد بعض ما ذكرته كتب اللغة في بيان معنى الشفاعة والاستشفاع.
قال صاحب "القاموس المحيط" : (الشَفْع خلاف الوتر وهو الزوج، والشفعة هي أن تشفع فيما تطلب، فتضمه إلى ما عندك فتشفعه أي تزيده، وشاة شافع: في بطنها ولد يتبعها آخر، سميت شافعاً لأن ولدها شفعها أو شفعته، واستشفعه إلينا: سأله أن يشفع).
وفي "المعجم الوسيط" الذي أصدره مجمع اللغة العربية في مصر: (شفع الشيء شفعاً: ضم مثله إليه وجعله زوجاً، والبصرُ الأشباحً: رآها شيئين، واستشفع: طلب الناصر والشفيع، والشفائع: المزدوجات، والشفاعة: كلام الشفيع، والشفيع: ما شفع غيره، وجعله زوجاً).
وفي "النهاية" لابن الأثير: (الشُفْعة مشتقة من الزيادة، لأن الشفيع يضم المبيع إلى ملكه، فيشفعه به، كأنه كان واحداً وتراً، فصار زوجاً شفعاً، والشافع هو الجاعل الوتر شفعاً..).
فمن هذه النقول وأمثالها يظهر معنى الاستشفاع بوضوح، وهو أن يطلب إنسان من آخر أن يشاركه في الطلب، فيزيد به ويكونا شفعاً أي زوجاً، وقد أخذ من هذا الأصل اللغوي المعنى الشرعي للاستشفاع حيث أريد به الطلب من أهل الخير والعلم والصلاح أن يشاركوا المسلمين في الدعاء إلى الله في الملمات، فيشفعوهم بذلك ويزيدوا الداعين، فيكون ذلك أرجى لقبول الدعاء.
وبهذا يمكننا فهم الشفاعة العظمى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة، فهي باتفاق العلماء دعاء النبيصلى الله عليه وآله وسلم للناس بعد مجيئهم إليه، وطلبهم منه أن يدعو الله تعالى ليعجّل لهم الحساب، ولم يفهم أحد من أهل العلم من ذلك أن يقول الناس مثلاً: اللهم بمنزلة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندك عجّل لنا الحساب.
ومن الغريب حقاً أن يتجرأ الدكتور البوطي فيدعي إجماع الأئمة والفقهاء بما فيهم الشوكاني وابن قدامة والصنعاني على فهمه الشاذ المبني على جهل فظيع بمعاني الألفاظ المستعملة في اللغة والشرع.
ونكتفي للرد عليه بنقل كلام أحد الأئمة الذين نص على أسمائهم، وادعى مشاركتهم إياه في فهمه لمعنى الاستشفاع، ونعني الإمام ابن قدامة المقدسي صاحب أكبر كتاب في الفقه الحنبلي
وهو "المغني" إذ قال فيه (2/295) ما نصه:
(ويستحب بأن يستسقي بمن ظهر صلاحه، لأنه أقرب إلى إجابة الدعاء، فإن عمر استسقى بالعباس عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال ابن عمر: استسقى عمر عام الرمادة بالعباس، فقال: اللهم إن هذا عم نبيك نتوجه إليك به، فاسقنا، فما برحوا حتى سقاهم الله، وروي أن معاوية خرج يستسقي، فلما جلس على المنبر قال: أين يزيد بن الأسود الجُرَشي؟ فقام يزيد، فدعاه معاوية فأجلسه عند رجليه، ثم قال: اللهم إنا نستشفع إليك بخيرنا وأفضلنا يزيد بن الأسود، يا يزيد ارفع يديك، فرفع يديه ودعا الله تعالى، فثارت في الغرب سحابة مثل الترس، وهبَّ لها ريح، فسقوا حتى كادوا لا يبلغون منازلهم، واستسقى به الضحاك مرة أخرى).
وواضح من كلام ابن قدامة هذا أنه يعني بالاستشفاع الوارد في الاستسقاء أن يطلب إمام المسلمين من بعض أهل العلم والصلاح أن يشترك مع المسلمين في التوجه إلى الله ودعائه سبحانه لكشف الشدة عن عبادة المؤمنين. ولم يقصد الإمام ابن قدامة بل ونجزم بأنه لم يخطر في باله ذاك المعنى الخاطىء الذي يحمله عليه البوطي وأمثاله من المبتدعين، ويريدون حمل الألفاظ الشرعية عليه.
ترى كيف يدعي البوطي مثل هذا الإجماع المزيف ويستشهد بابن قدامة وغيره، وها هو كلام ابن قدامة ينسف فهمه من الجذور؟ أم أنه لا يفهم ما في كتب القوم، أم لعله يدعي ما يروق له من الدعاوى الساقطة دون أن يراجع الكتب، أو يقرأ كلام العلماء اعتماداً منه على أن قارئيه مقلدون تقليداً أعمى وليسوا ممن يراجع أو يقرأ أو يتثبت مما يقال؟
إنه لأمر مؤسف والله، وبلية من أعظم البلايا التي نشهدها في واقع المسلمين، وهي من غير شك من الأسباب الكبرى في تأخر المسلمين وضعفهم وانحطاطهم، ومحال أن تتغير هذه الحال إلا إذا غيروا ما بأنفسهم من الجمود والتصوف والفقه المذهبي وعلم الكلام، وعادوا إلى هدي الله الحق المتمثل في الكتاب والسنة، والذي توضحه الدعوة السلفية الغراء.
6 – خطؤه في ادعائه أن توسل الأعمى كان بمنزلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند الله:
ونختم الرد على الدكتور البوطي بالإشارة إلى خطئه في ادعائه أن توسل الأعمى إنما كان بمنزلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبكونه أفضل الخلائق عند الله، لأن ذلك مجرد دعوى لا برهان عليها، ولم
يستطع الدكتور أن يأتي بشبه دليل على ذلك، وقد تقدم في هذه الرسالة إثبات أن توسل الأعمى إنما كان بدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد فندنا كل الشبهات فيما علمنا التي يوردها المخالفون، ويحتجون بها على رأيهم الخاطىء، كما بيَّنا (ص65) ضعف الزيادة التي أشار الدكتور إليها، وسكت عنها جهلاً أو تجاهلاً، وهي قوله: (فإن كان لك حاجة فافعل مثل ذلك). ورغبة في عدم الإطالة لا نعيد ذلك.
ومما سبق كله، يتبين لكل منصف مريد للحق بطلان تلك الشبهة البوطية وسقوطها، وصدق الله تبارك وتعالى إذ يقول: }بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه، فإذا هو زاهق، ولكم الويل مما تصفون{ ويقول: }ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا{.
والحمد لله أولاً وآخراً على توفيقه وهداه، وهو وحده المستعان، لا إله غيره، ولا رب سواه. وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
(1): من كلام العلامة الشيخ محب الدين الخطيب في مقدمته للقاعدة الجليلة.
(2): نقل هذا الكلام عن الحاكم وابن حبان أيضاً الحافظ ابن عبد الهادي في "الصارم المنكي" (ص29) والحافظ ابن حجر في "التهذيب".
(3): هذا نص من شيخ الإسلام على أن كلمة "يغلط كثيراً" صيغة جرح لا تعديل، ولا يخفى أنه لا فرق بينها وبين كلمة "يخطىء كثيراً" التي وصف الحافظ بها عطية العوفي كما سبق.
(1): أخرجه مسلم (1/7) وابن حبان في "صحيحه" (1/27) من حديث سمرة بن جندب، ومسلم من حديث المغيرة بن شعبة، وقال: (هو حديث مشهور).
(1): يحمل كلام شيخ الإسلام هنا على أحد وجهين: اولهما: ان يكون خاطب المخالفين بما يعتقدون من انقسام البدعة بحسب الاحكام الخمسة، ومنها الوجوب والاستحباب. وثانيهما: ان يكون اراد بالبدعة اللغوية منها، وهي ما حدث بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ودل عليها الدليل الشرعي. وإنما قلنا هذا لما هو معروف عنه رحمه الله انه يعد البدعة الشرعية كلها ضلالة، وتمام كلامه هنا يدل عليه.
(1): منها"قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة" و"الرد على البكري" لشيخ الإسلام ابن تيمية، ومن أجمعها "مجموعة التوحيد النجدية" فعليك بمطالعتها.
(1) : "البحر" (5/134).
(2) : (ج3/ص94).
(3) : ومن هذا القبيل ما اعتاده كثير من الناس من الإجابة بقولهم: "الله ورسوله اعلم" ! وما ورد من قول بعض الصحابة ذلك فإنما كان في حال حياته صلى الله عليه وآله وسلم، أما في حال وفاته فلا يجوز هذا بحال.
(1): وتغافل عن هذه العلة الشيخ الغماري في "المصباح" (43) كما تغافل عنها من لم يوفق للاصابة، ليوهموا الناس صحة هذا الأثر.
(1): قال الحافظ ابن كثير: (أي لا تجعلوا لله أنداداً وأشباهاً وأمثالاً).
(1) : منهم صاحب كتاب "التاج".
(1) : رواه أحمد والبخاري وغيرهما وهو مخرج في " الصحيحة" برقم (684).
(1) : لقد حاول الدكتور في هامش (ص197) من كتابه المذكور الرد على ما كنت بينته في رسالتي "نقد نصوص حديثية" للكتاني، ونقل أنني قلت فيها: (أنه لا فائدة ترجى من أحاديث التبرك بآثاره صلى الله عليه وآله وسلم في هذا العصر..) ومن المؤسف أن الدكتور قد ارتكب في هذا النقل الصغير خيانة علمية مكشوفة، وحرف كلامي تحريفاً سيئاً، والذي قلته حقاً هو: (لا يتعلق كبير فائدة في تقرير مشروعية التبرك بآثاره صلى الله عليه وآله وسلم في زماننا الحاضر) فانظر رحمك الله كيف غير الدكتور كلامي وحروفه، وما أرى له بذلك من غرض إلا أن يتاح له المجال للطعن في وإثارة العامة علي، فهل يتفق هذا الصنيع – أخي القارىء – مع تقوى الله عز وجل، والإخلاص في الوصول إلى الحق؟ وقد فصلت القول في الرد على هذه الفرية في أحدى مقالاتي التي تنشر في مجلة التمدن الإسلامي بعنوان "تعليق على أحاديث فقه السيرة"،وقد نشرت قريباً في رسالة خاصة تحت عنوان "دفاع عن ==
== الحديث النبوي والسيرة في الرد على جهالات الدكتور البوطي في كتاب فقه السيرة".
(1) : قلت: وهو حديث ثابت، له طرق وشواهد في معجمي الطبراني وغيرهما وقد أشار المنذري في "الترغيب"
(3/26) الى تحسينه، وقد خرجته في "الصحيحة" برقم (2998).
(1) : كما قرر ذلك في أكثر من كتاب من كتبه مثل "كبرى اليقينات الكونية" ط2 (ص26) و "اللامذهبية".
(2) : أنظر بيان خطأ هذا الرأي في رسالتنا "وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة".
(1) : في كتابه "فقه السيرة" (ص155).