الرواية بالمعنى
قال أبورية (ص8): ((ولما رأى بعض الصحابة أن يرووا للناس من أحاديث النبي، ووجدوا أنهم لا يستطيعون أن يأتوا بالحديث عن أصل لفظه استباحوا لأنفسهم أن يرووا على المعنى))
أقول: أنزل الله تبارك وتعالى هذه الشريعة في أمة أ مية، فاقتضت حكمته
ورحمته أن يكفلهم الشريعة، ويكلفهم حفظها وتبليغها، في حدود ما يتيسر لهم. وتكفل سبحانه أن يرعاها بقدره ليتم ماأرده لها من الحفظ إلى قيام الساعة. وقد تقدم شيء من بيان التيسير ص2و21و22. ومن تدبر الأحاديث في إنزال القرآن على سبعة أحرف وما اتصل بذلك، بان له أن الله تعالى أنزل القرآن على حرف هوالأصل، ثم تكرر تعليم جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم لتمام سبعة أحرف، وهذه الأحرف الستة الزائدة عبارة عن أنواع من المخالفة في بعض الألفاظ للفظ الحرف الأول بدون اختلاف في المعنى [المراد بالاختلاف في المعنى هوالاختلاف المذكور في قول الله تعالى (ولوكان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا] فأما أن يدل أحد الحرفين على معنى والآخر على معنى آخر وكلا المعنيين معاً حق. فليس باختلاف بهذا المعنى] فكان النبي صلى الله عليه وسلم يلقن أصحابه فيكون بين ما يلقنه ذا وما لقنه ذاك شيء من ذاك الاختلاف في اللفظ، فحفظ أصحابه كل بما لقن، وضبطوا ذلك في صدورهم ولقنوه الناس، ورفع الحرج مع ذلك عن المسلمين، فكان بعضهم ربما تلتبس عليه كلمة مما يحفظه أويشق عليه النطق بها فيكون له أن يقرأ بمرادفها. فمن ذلك ماكان يوافق حرفاً آخر ومنه ما لا يوافق، ولكنه لا يخرج عن ذاك القبيل، وفي فتح الباري ((ثبت عن غير واحد من الصحابة أنه كان يقرأ بالمرادف ولولم يكن مسموعاً له)). فهذا ضرب محدود من القراءة بالمعنى رخص فيه لأولئك وكتب القرآن بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم في قطع من الجريد وغيرهوتكون في القطعة الآية والآيتان أوأكثر، وكان رسم الخط يومئذ يحتمل - والله أعلم - غالب الاختلافات التي في الأحرف السبعة، إذ لم يكن له شكل ولا نقط، وكانت تحذف فيه كثير من الألفات ونحوذلك كما تراه في رسم المصحف، وبذلك الرسم عينه نقل ما في تلك القطع إلى صحف في عهد أبي بكر، وبه كتبت المصاحف في عهد عثمان، ثم صار على الناس أن يضبطوا قراءتهم، بأن يجتمع فيها الأمران: النقل الثابت بالسماع من النبي صلى الله عليه وسلم، واحتمال رسم المصاحف العثمانية.
وبذلك خرجت من القراءات الصحيحة تلك التغييرات التي كان يترخص بها بعض الناس وبقي من الأحرف الستة المخالفة للحرف الأصلى ما احتمله الرسم/ ولعله غالبها إن لم يكن جميعها مع أنه وقع اختلاف يسير بين المصاحف العثمانية، وكأنه تبعاً للقطع التي كتب فيها القرآن بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، كأن توجد الآية في قطعتين كتبت الكلمة في إحداهما بوجه وفي الأخرى بالآخر، فبقي هذا الاختلاف في القراءات الصحيحة. 53
ونخرج مما تقدم بنتيجتين: الأولى أن حفظ الصدور لم يكن كما يصوره أبورية بل قد اعتمد عليه في القرآن وبقي الاعتماد عليه وحده بعد حفظ الله عزوجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعمر وسنين من عهد عثمان، لأن تلك القطع التي كتب فيها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت مفرقة عند بعض أصحابه لا يعرفها إلا من هي عنده، وسائر الناس غيره يعتمدون على حفظهم، ثم لما جمعت في عهد أبي بكر لم تنشر هي ولا الصحف التي كتبت عنها، بل بقيت عند أبي بكر ثم عند عمر ثم عند ابنته حفصة أم المؤمنين حتى طلبها عثمان، ثم اعتمد عليه في عامة الواضع التي يحتمل فيها الرسم وجهين أوأكثر، واستمر الاعتماد عليه حين استقر تدوين القراءات الصحيحة.
النتيجة الثانية: أن حال الأميين قد اقتضت الترخيص لهم في الجملة في القراءة بالمعنى، وإذا كان ذلك في القرآن مع أن ألفاظه مقصودة لذاتها لأنه كلام رب العالمين بلفظه ومعناه، معجر بلفظه ومعناه، متعبد بتلاوته، فما بالك بالأحاديث التي مدار المقصود الديني فيها على معانيها فقط؟ وإذا علمنا ما تقدم أول هذا الفصل من التيسير مع ما تقدم ص2 , 21و32، وعلمنا ما دلت عليه القواطع أن النبي صلى الله عليه وسلم مبين لكتاب الله ودينه بقوله وفعله، وأن كل ما كان منه مما فيه بيان للدين فهوخالد بخلود الدين إلى يوم القيامة، وأن الصحابة مأمورون بتبليغ ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته (راجع ص12و36و45و49) وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بكتابة الأحاديث وأقرهم على عدم كتابتها، بل قيل إنه نهاهم عن كتابتها كما مر بما فيه، ومع ذلك كان يأمرهم بالتبليغ لما علموه وفهموه، وعلمنا أن عادة الناس قاطبة فيمن يلقى إليه كلام المقصود منه معناه ويؤمر بتبليغه أنه إذا لم يحفظ لفظه على وجهه وقد ضبط معناه لزمه أن يبلغه بمعناه ولا يعد كاذباً ولا شبه كاذب، علمنا يقيناً أن الصحابة إنما أمروا بالتبليغ على ماجرت به العادة: من بقي منهم حافظاً على وجهه فليؤده كذلك، ومن بقي ضابطاً للمعنى ولم يبق ضابطاً للفظ فليؤده بالمعنى. هذا أمر يقيني لا ريب فيه، وعلى ذلك جرى عملهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته.
فقول أبي رية ((لما رأى بعض الصحابة .. استباحوا لأنفسهم)) إن أراد أنهم لم يؤمروا بالتبليغ ولم يبح لهم أن يرووا بالمعنى إذا كانوا ضابطين له دون اللفظ، فهذا كذب عليهم وعلى الشرع/ والعقل كما يعلم ما مر. وتشديده صلى الله عليه وسلم في الكذب عليه إنما المراد به الكذب في المعاني، فإن الناس يبعثون رسلهم ونوابهم ويأمرونهم بالتبليغ عنهم. فإذا لم يشترط عليهم المحافظة على الألفاظ فبلغوا المعنى فقد صدقوا: ولوقلت لابنك اذهب فقل للكاتب: أبي يدعوك. فذهب وقال له: والدي- أوالوالد - يدعوك، أويطلب مجيئك إليه، أوأمرني أن أدعوك له، لكان مطيعاً صادقاً، ولواطلعت بعد ذلك على ما قال فزعمت أنه عصى أوكذب وأردت أن تعاقبه لأنكر العقلاء عليك ذلك. وقد قص الله عزوجل في القرآن كثيراً من أ قوال خلقه بغير ألفاظهم، لأن من ذلك ما يطول فيبلغ الحد المعجز، ومنه ما يكون عن لسان أعجمي، ومنه ما يأتي في مواضع بألفاظ وفي آخر بغيرها، وقد تتعدد الصور كما في قصة موسى، ويطول في موضع ويختصر في آخر. فبالنظر إلى أداء المعنى كرر النبي صلى الله عليه وسلم بيان شدة الكذب عليه، وبالنظر إلى أداء اللفظ اقتصر على الترغيب فقال ((نصر الله امرءاً سمع منا شيئاً فأداه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع)) جاء بهذا اللفظ أومعناه مطولا ومختصرا من حديث ابن مسعود وزيد بن ثابت وأنس وجبير بن مطعم وعائشة وسعد وابن عمر وأبي هريرة وعمير بن قتادة ومعاذ بن جبل والنعمان بن بشير وزيد بن خالد وعبادة بن الصامت، منها الصحيح وغيره. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى معونتهم على الحفظ والفهم كما مر ص43
واعلم أن الأحاديث الصحيحة ليست كلها قولية، بل منها ما هوإخبار عن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وهي كثيرة. ومنها ما أصله قولي، ولكن الصحابي لا يذكر القول بل يقول: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بكذا، أونهانا عن كذا، أوقضى بكذا، أوأذن في كذا .. وأشباه هذا. وهذا كثير أيضاً. وهذان الضربان ليسا محل نزاع، والكلام في مايقول الصحابي فيه: قال رسول الله كيت وكيت، أونحوذلك. ومن تتبع هذا في الأحاديث التي يرويها صحابيان أوأكثر ووقع اختلاف فإنما هوفي بعض الألفاظ، وهذا يبين أن الصحابة لم يكونوا إذا حكوا قوله صلى الله عليه وسلم يهملون ألفاظه البتة، لكن منهم من يحاول أن يؤديها فيقع له تقديم وتأخير أوإبدال الكلمة بمرادفها ونحوذلك. ومع هذا فقد عرف جماعة من الصحابة كانوا يتحرون ضبط الألفاظ، وتقدم ص42 قول أبورية: إن الخلفاء الأربعة وكبار الصحابة وأهل الفتيا لم يكونوا ليرضوا أن يرووا بالمعنى. وكان ابن عمر ممن شدد في ذلك، وقد آتاهم الله من جودة الحفظ ما آتاهم. وقصة ابن عباس مع عمر بن أبي ربيعة مشهورة. ويأتي في ترجمة أبي هريرة ما ستراه، فعلى هذا ما كان من أحاديث المشهورين بالتحفظ فهوبلفظ النبي صلى الله عليه وسلم وما كان من حديث غيرهم فالظاهر ذلك، لأنهم كلهم كانوا يتحرون ما أمكنهم، ويبقى النظر في تصرف من بعدهم.
/ الحديث ورواته ونقد الأئمة للرواة
قال أبورية ((ثم سار على سبيلهم كل من جاء من الرواة بعدهم. فيتلقى المتأخر عن المتقدم ما يرويه عن الرسول بالمعنى، ثم يؤديه إلى غيره بما استطاع أن يمسكه ذهنه معه)).
أقول: هذه حكاية من يأخذ الكلمات من هنا وهناك، ويقيس بذهنه بدون خبره بالواقع، فإن كثيراً من الأحاديث الصحيحة إن لم نقل غالبها يأتي الحديث منها عن صحابيين أوأكثر، وكثيراً ما يتعدد الرواة عن الصحابي ثم عن التابعي، وهلم جرا
فأما الصحابة فقد تقدم حالهم
وأما التابعون فقد يتحفظون الحديث كما يتحفظون القرآن كماجاء عن قتادة أنه ((كان إذا سمع الحديث أخذه العويل والزويل حتى يحفظه)) هذا مع قوة حفظه، ذكروا أن صحيفة جابر على كبرها قرئت عليه مرة واحدة- وكان أعمى - فحفظها بحروفها، حتى قرأ مرة سورة البقرة فلم يخطيء حرفاً ثم قال: لأنا الصحيفة جابر أحفظ مني لسورة البقرة)) وكان غالبهم يكتبون ثم يتحفظون ما كتبوه، ثم منهم من يبقى كتبه- راجع ص28 - ومنهم من إذا أتقن المكتوب حفظاً محا الكتاب، وهؤلاء ونفر لم يكونوا يكتبون، غالبهم ممن رزقوا جودة الحفظ وقوة الذاكرة كالشعبي والزهري وقتادة. وقد عرف منهم جماعة بالتزام رواية الحديث بتمام لفظه كالقاسم بن محمد بن أبي بكر ومحمد بن سيرين ورجاء بن حيوة.
أما أتباع التابعين فلم يكن فيهم راومكثر إلا كان عنده كتب بمسموعاته يراجعها ويتعاهدها ويتحفظ حديثه منها. ثم منهم من لم يكن يحفظ، وإنما يحدث من كتابه، ومنهم من جرب عليه الأئمة أنه يحدث من حفظه فيخطيء، فاشترطولصحة روايته أن يكون السماع منه من كتابه. ومنهم من عرف الأئمة أنه حافظ، غير أنه قد يقدم كلمة أويؤخرها، ونحوذلك مما عرفوا أنه لا يغير المعنى، فيوثقونه ويبينون أن السماع منه من كتابه أثبت.
فأما من بعدهم فكان المتثبتون لا يكادون يسمعون من الرجل إلا من أصل كتابه. كان عبد الرزاق الصنعاني ثقة حافظاً، ومع ذلك لم يسمع منه أحد بن حنبل
ويحيى بن معين إلا من أصل كتابه
هذا، وكان الأئمة يعتبرون حديث كل راوفينظرون كيف حدث به في الأوقات المتفاوته فإذا وجدوه يحدث مرة كذا ومرة كذا بخلاف لا يحتمل ضعفوه. وربما سمعوا الحديث من الرجل ثم يدعونه مدة طويلة ثم يسألونه عنه. ثم يعتبر حرف مرواياته برواية من روى عن شيوخه وعن شيوخ شيوخه، فإذا رأوا في روايته مايخالف رواية الثقات حكموا عليه بحسبها. وليسوا يوثقون الرجل لظهور صلاحه في دينه فقط.، بل معظم اعتمادهم علىحاله في حديثه كما مر، وتجدهم يجرحون الرجل بأنه يخطيء ويغلط، وباضطرابه في حديثه، / وبمخالفته الثقات، وبتفرده، وهلم جرا. ونظرهم عند تصحيح الحديث أدق من هذا، نعم، إن هناك من المحدثين من يسهل ويخفف، لكن العارف لا يخفى عليه هؤلاء من هؤلاء. فإذا رأيت المحققين قد وثقوا رجلاً مطلقاً فمعنى ذلك أنه يروي الحديث بلفظه الذي سمعه، أوعلى الأقل إذا روى المعنى لم يغير المعنى، وإذا رأيتهم قد صححوا حديثاً فمعنى ذلك أنه صحيح بلفظه أوعلى الأقل بنحولفظه، مع تمام معناه، فإن بان لهم خلاف ذلك نبهوا عليه كما تقدم ص18.
56
وذكر أبورية ص54 فما بعدها كلاماً طويلاً في هذه القضية. وذكر اعتقاد شيوخ الدين أن الأحاديث كآيات القرآن ((من وجوب التسليم لها وفرض الإذعان لأحكامها بحيث يأثم أويرتد أويفسق من خالفها ويستتاب من أنكرها أوشك فيها))
أقول: أما ما لم يثبت منها ثبوتاً تقوم به الحجة فلا قائل بوجوب قبوله والعمل به. وأما الثابت فقد قامت الحجج القطعية على وجوب قبوله والعمل به، وأجمع علماء الأمة عليه كما تقدم مراراً، فمنكر وجوب العمل بالأحاديث مطلقاً تقام عليه الحجة، فإن أصر بأن كفره، ومنكر وجوب العمل ببعض الأحاديث إن كان له عذر
من الأعذار المعروفة بين أهل العلم وما في معناها فمعذور، وإلا فهوعاصٍ لله ورسوله، والعاصي آثم فاسق. وقد يتفق ما يجعله في معنى منكر وجوب العمل بالأحاديث مطلقاً وقد مر.
وذكر (ص55فما بعدها) الخلاف في جواز الرواية بالمعنى
أقول: الذين قالوا لا تجوز إنما غرضهم ما ينبغي أن يعمل به في عهدهم وبعدهم: فأما ما قد مضى فلا كلام فيه، لا يطعن في متقدم بأنه كان يروى بالمعنى ولا في روايته، لكن إن وقع تعارض بين مرويه ومروي من كان يبالغ في تحرى الرواية باللفظ فذلك مما يرجح الثاني. وهذا لا نزاع فيه.
ومدار البحث هوأن الرواية بالمعنى قد توقع في الخطأ، وهذا معقول، لكن لا وجه للتهويل، فقد ذكر أبورية (ص59): ((قال ابن سيرين: كنت أسمع الحديث من عشرة، المعنى واحد والألفاظ مختلفة)) وكان ابن سيرين من المتشددين في أن لا يروى إلا باللفظ ومع هذا شهد للذين سمع منهم أنهم مع كثرة اختلافهم في اللفظ لم يخطيء أحد منهم المعنى- ولهذا لما ذكر له أن الحسن والشعبي والنخعي يروون بالمعنى اقتصر على قوله ((إنهم لوحدثوا كما سمعوا كان أفضل)) انظر الكفاية للخطيب ص26
57
ومن تدبر ما تقدم من حال الصحابة وأنهم كانوا كلهم يراعون الرواية باللفظ، ومنهم من كان يبالغ في تحري/ ذلك. وكذا في التابعين وأتباعهم، وأن الحديث الواحد قد يرويه صحابيان أوأكثر، ويرويه عن الصحابي تابعيان فأكثر وهلم جرا، وأن التابعين كتبوا، وأن أتباعهم كتبوا ودونوا، وأن الأئمة اعتبروا حال كل راوفي روايته لأحاديثه في الأوقات المتفاوته فإذا وجدوه يروي الحديث مرة بما يحيل معناه في روايته له مرة أخرى جرحوه، ثم اعتبروا رواية كل راوٍ برواية الثقات فإذا وجدوه يخالفهم بما يحيل المعنى جرحوه، ثم بالغ محققوهم في العناية بالحديث عند التصحيح،
فلا يصححون ما عرفوا له علة نعم قد يذكرون في المتابعات والشواهد ما وقعت فيه مخالفة ما وينبهون عليه، من تدبر هذا ولم يعمه الهوى اطمأن قلبه بوفاء الله تعالى بما تكفل به من حفظ دينه، وبتوفيقه علماء الأمة للقيام بذلك، ولله الحمد، ويؤكد ذلك أن أبا رية حاول أن يقدم شواهد على اختلاف ضار وقع بسبب الرواية فكان أقصى جهده ما يأتي: قال (ص6): ((صيغ التشهدات))، وذكر اختلافها. أقول: يتوهم أبورية - أويوهم - أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما علمهم تشهداً واحداً، ولكنهم أوبعضهم لم يحفظوه فأتوا بألفاظ من عندهم مع نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهذا باطل قطعاً فإن التشهد يكرر كل يوم بضع عشرة مرة على الأقل في الفريضة والنافلة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحفظ أحدهم حتى يحفظ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقريء الرجلين السورة الواحدة هذا بحرف وهذا بآخر، فكذلك علمهم مقدمة التشهد بألفاظ متعددة، هذا بلفظ وهذا بآخر، ولهذا أجمع أهل العلم على صحة التشهد بكل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ذكر عمر التشهد على المنبر، وسكوت الحاضرين فإنما وجهه المعقول تسليمهم أن التشهد الذي ذكره صحيح مجزيء. وقد كان عمر يقرأ في الصلاة وغيرها القرآن ولا يرد عليه أحد، مع أن كثيراً منهم تلقوا عن النبي صلى الله عليه وسلم بحرف غير الحرف الذي تلقى به عمر، ومثل هذا كثير. ومن الجائز أن يكونوا - أوبعضهم - لم يعرفوا اللفظ الذي ذكره عمر، ولكنهم قد عرفوا أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أصحابه بألفاظ مختلفة وعمر عندهم ثقة، وأما قول بعضهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ((السلام على النبي، بدل ((السلام عليك أيها النبي)) فقد يكون النبي صلى الله عليه وسلم خيره بين اللفظين، وقد يكون فعل ذلك باجتهاد خشية أن يتوهم جاهل أن الخطاب على حقيقته، أما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فالتحقيق أنها موجودة في التشهدات كلها بلفظ ((ورحمة الله)) والقائل بوجوبها عقب التشهد بلفظ الصلاة لم يجعلها من التشهد بل هي عنده أمر مستقل، والكلام في ذلك معروف، لا علاقة له بالرواية بالمعنى
58
/ قال أبورية (ص64): ((وكلمة التوحيد))، وذكر ما لا علاقة له بالرواية بالمعنى ثم قال (66): ((حديث الإسلام والإيمان)) فذكر عن صحيح مسلم حديث طلحة ((جاء رجل من أهل نجد)) وحديث جبريل برواية أبي هريرة، وحديث أبي أيوب ((جاء رجل إلى النبي فقال دلني على عمل الخ))،وحديث أبي هريرة ((أن اعرابياً جاء الخ)) ثم ذكر عن النووي ((اعلم أنه لم يأت في حديث طلحة ذكر الحج، ولاجاء ذكره في حديث جبريل من رواية أبي هريرة، وكذا غير هذه الأحاديث لم يذكر في بعضها الصوم ولم يذكر في بعضها الزكاة، وذكر في بعضها صلة الرحم، وفي بعضها أداء الخمس، ولم يقع في بعضها ذكر الإيمان ... وقد أجاب القاضي عياض وغيره رحمهم الله بجواب لخصه أبوعمروبن الصلاح وهذبه فقال (( .. . هومن ثقات الرواة في الحفظ والضبط، فمنهم من قصر فاقتصر على ما حفظه .. .)) 59
أقول: أما هذه الأحاديث فلا يتعين فيها ذاك الجواب بل لا يتجه، فإن واقعة حديث جبريل لا علاقة لما ببقية الأحاديث، وذكر الإيمان فيه لأن جبريل أراد بيان جمهرة الدين، وبقية الأحاديث ليس بواجب أن يذكر فيها الإيمان اكتفاء بعلم السائل به مع أن ما في ذكر له ما يستلزمه، وحديث طلحة وحديث أبي هريرة في الأعرابي يظهر أنها واقعة واحدة يحتمل أنها وقعت قبل أن ينزل فرض الحج فلذلك لم يذكر، وحديث أبي أيوب يحتمل أن يكون واقعة أخرى وقعت قبل فرض الحج والصوم فلذلك لم يذكرا فيه، وأما صلة الرحم وأداء الخمس فليسا من الأركان العظمى فلا يجب ذكرهما في كل حديث. هذا وحديث جبريل قد ورد من رواية عمر بن الخطاب وثبت في بعض طرقه ذكر الحج، وصحح ابن حجر ذلك في الفتح بأنه قد جاء في رواية أن الواقعة كانت في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم. فعلى هذا فسقوطه من رواية أبي هريرة من عمل بعض الرواة كأنه كان عنده أيضاً حديث أبي هريرة مع الأعرابي وليس فيها ذكر الحج فحمل هذه عليها، والله أعلم. ومثل هذا ليس من الرواية بالمعنى، إنما هومن ترك الراوي شيئاً من الحديث نسيه أوشك فيه، ولا يقتضي تركه إحالة لمعنى الحديث، وكثيراً ما يقع في الكتاب والسنة ترك بيان بعض الأمور في موضع لائق به اعتمادا على بيانه في موضع آخر، وليس هذا بأكثر من مجيء عموم أوإطلاق في القرآن ومجيء تخصيصه أوتقييده في السنة.
59
/ قال (ص68): ((حديث زوجتكها بما معك)) ذكر أنه روى على ثمانية أوجه: (1 - قد زوجتكها بما معك من القرآن، 2 - زوجتكها على ما معك الخ، 3 - أنكحتكها بما الخ، 4 - قد ملكتكها بما الخ، 5 - قد أملكتكها بما الخ، 6 - قد أمكتا كها الخ، 7 - أنكحتكها على أن تقرئها وتعلمها، 8 - خذها بما معك الخ)
أقول: الثامنة لم تذكر في فتح الباري، والسابعة سندها واه، السادسة صوابها على ما استظهره في الفتح أملكنا كها، والست الأولى معناها واحد، وكذا حكمها عند جمهور أهل العلم. وقال قوم: لا يصح العقد إلا بلفظ التزويج أوالإنكاح كما في الثلاث الأولى، فأما الثلاث التي تليها فلا يصح التزويج بها. وأجابوا عن هذه الروايات بأن أرجحها وأثبتها عن النبي صلى الله عليه وسلم هي التي بلفظ التزويج، فنحصل من هذا أن الرواية بالمعنى وقعت، ولكن لم يترتب عليها مفسدة، ولله الحمد. على أن المعنى الأهم في الحديث وهوالتزويج بتعليم القرآن لم تختلف فيه الروايات.
قال (ص68): ((حديث الصلاة في بني قريظة)) ذكر أنه وقع عند البخاري ((لا يصلين أحدكم العصر إلا .. .)) وعند غيره: لا يصلين أحدكم الظهر إلا .. .. )) مع اتحاد المخرج
أقول: في الفتح إن الذي عند أهل المغازي ((العصر)) وكذلك جاء من حديث عائشةومن حديث كعب بن مالك. ووراه جويرية بن أسماء عن نافع عن ابن عمر، قال أبوحفص السلمي عن جويرية: ((العصر)) وقال أبوغسان عن جويرية: ((الظهر)). ورواه أبوعبد الله بن محمد بن أسماء عن جويرية، فقال البخاري عنه: العصر وقال مسلم وغيره عنه: الظهر فذكر ابن حجر احتمالين: حاصل الأول بزيادة أن جويرية قال مرة ((العصر)) كما رواه أبوحفص السلمي، ومرة ((الظهر)) كما رواه عنه أبوغسان، وكتبه عبد الله بن محمد بن أسماء عن جويرية على الوجهين فسمعه البخاري من عبد الله على أحدهما، ومسلم وغيره على الآخر. وكأن البخاري راجع عبد الله في ذلك ففتش عبد الله أصوله فوجد الوجه الذي فيه العصر فأخذ به البخاري لعلمه أنه الصواب. الاحتمال الثاني أن يكون البخاري إنما سمعه من عبد الله بلفظ ((الظهر)) ولم يكتبه البخاري إلا بعد مدة من حفظه ((العصر)) أخطأ لفظ شيخه وأصاب الواقع
أما ما ذكر أن البخاري كان يحفظ ثم يكتب من حفظه فإن صح ذلك فهذا صحيحه فيه آلاف الأحاديث وقل حديث منها إلا وقد رواه جماعة غيره عن شيخه وعن شيخ شيخه، وقد تتبع ذلك المستخرجون عليه وشرا حه فإذا لم يقع له خطأ إلا هذا الموضع- على فرض أنه أخطأ- كان هذا من أدفع الحجج لتشكيك أبي رية
قال أبورية (ص69): ((وبلغ من أمرهم أنهم كانوا يروون الحديث بألفاظهم وأسانيدهم، ثم يعزونه إلى كتب السنة))
6
أقول: حاصله أن البيهقي يروى عن كتبه الأحاديث بأسانيده إلى شيخ البخاري أوشيخ شيخه ومن فوقه، ويقع/ في لفظه مخالفة للفظ البخاري مع اتفاق المعنى، ومع ذلك يقول ((أخرجه البخاري عن فلان)) ولا يبين اختلاف اللفظ، وكذا يصنع البغوي. وأقول: العذر في هذا واضح، وهواتفاق المعنى مع جريان العادة بوقوع الاختلاف في بعض الألفاظ، وكتاب البخاري متواتر فأقل طالب حديث يشعر بالمقصود
وذكر قول النووي في حديث الأئمة من قريش ((أخرجه الشيخان)) مع أن لفظها ((لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان)). أقول: المعنى قريب، وقد يكون النووي رحمه الله وهم، ومثل هذا لا يقدم ولا يؤخر، لأن الصحيحين متواتران
قال أبورية (ص7): ((ضرر رواية الحديث بالمعنى)) وساق عبارة طويلة لابن السيد البطليوسي في أسباب الاختلاف. وفيها (ص72 - 73) ما يخشى منها، وقد قدمنا ص21 - 22 - و55 ما فيه الكفاية
وذكر (ص74) حديث ((إن يكن الشؤم ففي ثلاث)) وسيأتي النظر فيه بعد النظر في عدالة الصحابة الذي ذكره أبورية في كتابه ص 31 - 327
وقال (ص75) ((ضرر الرواية بالمعنى من الناحية اللغوية والبلاغية ... )) أقول: قد قدمت ما يعلم منه أن من الأحاديث ما يمكن أن يحكم العارف بأنه بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها ما يمكن أن يحكم بأنه بلفظ الصحابي، ومنها ما يمكن أن يحكم بأنه على لفظ التابعي، فهذه يمكن الاستفادة منها في العربية، وما عدا ذلك ففي القرآن وغيره ما يكفي
وذكر (ص78): ((تساهلهم فيما يروي في الفضائل، وضرر ذلك))
أقول: معنى التساهل في عبارة الأئمة هوالتساهل بالرواية، كان من الأئمة من إذا سمع الحديث لم يروه حتى يتبين له أنه صحيح أوقريب من الصحيح أويوشك أن يصح إذا وجد ما يعضده، فإذا كان دون ذلك لم يروه البتة، ومنهم من إذا وجد
الحديث غير شديد الضعيف وليس فيه حكم ولا سنة، إنما هوفي فضيلة عمل متفق عليه كالمحافظة على الصلوات في جماعة ونحوذلك لم يمتنع من روايته، فهذا هوالمراد بالتساهل في عباراتهم. غير أن بعض من جاء بعدهم فهم منها التساهل فيما يرد في فضيلة لأمر خاص قد ثبت شرعه في الجملة كقيام ليلة معينة فإنها داخلة في جملة ما ثبت من شرع قيام الليل. فبنى على هذا جواز أواستحباب العمل بالضعيف، وقد بين الشاطبي في الاعتصام خطأ هذا الفهم، ولي في ذلك رسالة لا تزال مسودة.
61
على أن جماعة من المحدثين جاوزوا في مجامعيهم ذاك الحد، فأثبتوا فيهاكل حديث سمعوه ولم يتبين لهم عند كتابته أنه باطل، وأفرط آخرون فجمعوا كل ما سمعوه، معتذرين بأنهم لم يلتزموا إلا أن يكتبوا ما سمعوه ويذكروا سنده، وعلى الناس أن لا يثقوا بشيء من ذلك حتى يعرضوه على أهل المعرفة بالحديث ورجاله، ثم جاء المتأخرون فزادوا الطين بلة بحذف الأسانيد. والخلاص من هذا أسهل. وهوأن تبين للناس الحقيقة، ويرجع إلى أهل العلم والتقوى والمعرفة. لكن المصيبة حق المصيبة إعراض الناس عن هذا العلم العظيم، ولم يبق إلا أفراد يلمون بشيء من ظواهره، ومع ذلك فالناس لا يرجعون إليهم، بل في الناس من يمقتهم وببغضهم ويعاديهم ويتفنن في سبهم عند كل مناسبة ويدعي لنفسه ما يدعي، ولا ميزان عنده إلا هواه لا غيره، وما يخالف هواه لا يبالي به ولوكان في الصحيحين عن جماعة من الصحابة، ويحتج بما يحلوله من الروايات في أي كتاب وجد، وفيما يحتج به الواهي والساقط والموضوع، كما ترى التنبيه عليه في مواضع من كتابي هذا والله المستعان