السؤالالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نسأل الله أن يوفِّقكم لما يحبه ويرضاه.عندما
أشرَع في قراءة كتابٍ؛ سواء أكان كتابًا يخص دراستي، أو كتابًا دينيًّا،
أجد همَّة في البداية، لكن سرعان ما تَفتُر هذه الهِمَّةُ وتتلاشى، خصوصًا
عندما أعزم على وضْع منهجٍ لقراءة كُتبٍ في العقيدة والفقه وغيرها من
العلوم الشرعية، فأجد نفسي في البداية متحمِّسًا، وأبدأ بداية جيدة، لكن
بعد مدة من الزمن أترك الجدول الذي وضَعتُه لنفسي، وأتكاسل عن القراءة؛ لذا
ألجَأ إلى حُضُور المحاضرات والدورات الشرعية في المسجد؛ لكي أعوِّض
النقص. فأرجو أن ترشدوني إلى نصيحةٍ تجعلني مُواظبًا على القراءة، وجزاكم الله خيرًا. الجواببسم الله الموفق للصواب
وهو المستعان
أيها الأخ الفاضل، إن لم
تتحوَّل القراءةُ إلى تجربةٍ ماتعة، فكلُّ الوسائل الإجبارية ستحوِّلها إلى
استعبادٍ ذهنيٍّ، ينتظر فيه القارئ لحظة الفراغ مِن القراءة بشوقٍ؛ للخلاص
من ألَم هذا الربق! وسأعرض هنا بعض الأفكار المُعينة على القراءة من واقع
تجربتي القرائية، وعسى الله أن يَنفعك بها، وبالله التوفيق:
أولًا: أخلِص النية واقْرأ باسم ربك:القراءةُ بابٌ عظيمٌ مِن أبواب
العلم، والعلمُ عبادةٌ، فإن أنتَ قرأتَ كتابًا في العقيدة أو قرأتَ رواية
رفيعة، بديلًا عن مشاهدة مسلسل، فأنتَ في عبادة! والعبادةُ بلا نيَّة لا
يُعتَدُّ بها، فانْوِ التعبُّد بالقراءة، واستفتِح باسم الله قبل الشُّروع
في القراءة.
ثانيًا: افْهَم أسلوب الكاتب:في الترجمة الكاملة لرواية "
البؤساء"،
ضمَّن فيكتور هوجو أحداثَ الثورة الفرنسية روايتَه، وحين قرَأت المجلد
الأول لأول مرة، استثقَلتُ القراءة كثيرًا؛ إذ لم أكنْ أُميِّز الجزء
التاريخي "أحداث الثورة الفرنسية" من الجزء الأدبي "أحداث الرواية"، ثم
لَمَّا فَهِمت الأسلوب الذي ألَّف فيه هوجو روايته الشهيرة، وميَّزتُ
مَواضِع الخيال الأدبي من مواضع الحقائق التاريخية في الرواية، أمكَنني
ساعتئذٍ عزْل الجزء التاريخي عن أحداث الرواية نفسها أثناء القراءة في بقية
المجلدات، وبهذه الطريقة تمكَّنت من قراءة الرواية باستمتاعٍ.
ثالثًا: خُذ برأي مَن تثق به:قرأتُ مرة معلومةً تفيد أنَّ
علم النفس الحديث قد استفاد كثيرًا مِن روايات الأديب الروسي ديستوفسكي،
فاقْتَنيتُ روايته الشهيرة "الجريمة والعقاب"، إلا أني سَرعان ما ضجِرتُ من
الرواية بعد قراءة الفصل الأول! فأَعطيتُ الرواية لشقيقتي لتَقرأها قبلي،
على أن تُخبرني بعنوان الفصل الذي ابتدَأتْ فيه أحداث التشويق! وكان رأيها
أن الرواية قد أصبحتْ مشوِّقة بعد نهاية الفصل الثاني! وعندئذٍ أَلقيت نظرة
سريعة على الفصل الثاني للإحاطة بمضمونه، ثم شرَعتُ في قراءة الفصل الثالث
بتركيزٍ! وبهذه الطريقة تخلَّصتُ من الفصل المُمل الذي كاد أن يَحول بيني
وبين متعة القراءة.
رابعًا: اقرأ بوعي الناقدِ المُنصف:منَ العوامل التي تؤثِّر سلبًا
أو إيجابًا في رغبة القارئ في القراءة: الأفكار السابقة التي نحملها
متأثِّرين بآراء غيرنا عنِ الكتاب أو الكاتب نفسه، وقد كان لهذه الأفكار
السابقة دورها الرئيس في تثبيط هِمَّتي لقراءة كتاب "الجمهورية"؛ لأفلاطون،
حتى قرَّرتُ أخيرًا شراء دفتر خاص لكتابة آراء أفلاطون كما أورَدها في
"الجمهورية"، فخصَّصتُ لآرائه الصحيحة الموافقة للشريعة الإسلامية بضع
صفحات، ولآرائه الخاطئة المخالفة للشريعة الإسلامية صفحات أُخر، وبهذه
الطريقة تمكَّنت من القراءة بنقدٍ وإنصافٍ واستمتاع أيضًا.
خامسًا: خصِّص وقتًا للقراءة كلَّ يوم، والْتَزِم به:من أنفع ما يُستعان به للتشجيع على القراءة: الالتزام بوقتٍ محدَّد للقراءة، ساعة واحدة مثلاً من كلِّ يوم تكفي لقراءة كتاب خارج إطار كتُب الدراسة.
سادسًا: أشْرِك معك غيرك في القراءة:مِن أنفع ما يُستعان به للتشجيع
على القراءة: أن تُلخِّص أفكار الفصل الذي انتَهيت مِن قراءته لشخصٍ
يُقاسمك الاهتمام بالفن الذي تقرأ فيه، وهذه الطريقة لا تشجِّع على القراءة
وحسب، بل تعين على حِفظ المعلومة وترسيخها في الذاكرة.
سابعًا: اقرأ ما يُوافق رغبتك الآنيَّة ومَسلكك الحاضر:اشتريتُ مرة كتاب "الرد على
الزنادقة والجهمية"؛ لإمام أهل السنة أحمد بن حنبل - رحمه الله ورضي عنه -
بيد أني كنتُ في فترة شرائه منقطعةً عن متابعة الحوارات والمناظَرات
القائمة بين أهل السنة وفِرَق البدعة، فبقِي الكتاب في مكتبتي الصغيرة مدةً
ليستْ باليسيرة قبل أن تَنشط هِمَّتي لمطالعة هذا الفنِّ من الكتب.
ثامنًا: اقرأ فهرس الكتاب قبل شرائه:تحمل بعضُ الكتب عناوين
برَّاقة، فإذا فتَحتها لتَقرأها، قفز الملَل المُستتر في صفحاتها مُتسللًا
إلى عينيك وفكرِك؛ مِن أجل ذلك ألْقِ نظرة سريعةً على فهرس الكتاب قبل
شرائه، فالفهرس يلخِّص لك فحوى الكتاب وموضوعه.
تاسعًا: اقرأ بتدرُّج:إذا تعدَّدت كتُب المؤلفِ،
فابتدأ بما هو أقربها لذهنك، منتهيًا إلى ما هو أصعب، على سبيل المثال:
سيَصعب البدء بقراءة كتاب "الصواعق المرسلة"؛ لابن قيِّم الجوزية - رحمه
الله ورضي عنه - فهو من الكتب التي لا يُكتفى فيها بالاطلاع؛ لِما في هذا
المبحث العظيم من الحُجج العقلية الدامغة على أهل التأويل والبدع والكلام،
ما لا يفهمها إلا من استكثَر النظر في كتب أهل الكلام والمنطق؛ لذلك أرى أن
"الصواعق المرسلة" من الكتب القيِّمة التي ينبغي أن تُؤخذ عن شيخٍ مُتبحر
في هذا الفن، وسيكون من المفضَّل لمن يُسرع إليهم الضجر الابتداء بكتاب
"روضة المحبين"، أو "الجواب الكافي"، ثم الْتَزِم بقراءة فصل واحد، أو عشر
صفحات مثلًا، واحتفظ بفاصلة كتابٍ أنيقة؛ لتُذكِّرك بالموضع الذي فرَغت فيه
من القراءة، ويُمكنك أن تكتب على الفاصلة نفسها عبارةً مُحفِّزة تُشجعك
على متابعة القراءة.
عاشرًا: أعْطِ الكتاب كليَّتك؛ قال الحسين بن المنصور في "
آداب العلماء والمتعلمين":
"يحذر في ابتداء طلبه - أي: طالب العلم - من المطالعات في تفاريق
المصنفات، فإنه يضيِّع زمانه، ويُفرِّق ذهنه، بل يعطي الكتاب الذي يقرؤه أو
الفن الذي يأخذه كليَّته؛ حتى يُتقنه، وكذلك يحذر من النقل من كتاب إلى
كتاب من غير موجب، فإنه علامة الضجر وعدم الفلاح".
والله - سبحانه وتعالى - أعلم بالصواب، والحمد لله وحده