جالب الأسقام
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران: 102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}[النساء: 1].
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}[الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن خير الحديث كلام الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون عباد الله: ها هي السنين تمر, والأعمار تنقضي, ومصائب الزمان متجددة لا تنقضي, ما من يوم يمر إلا وهو يحمل بين ثناياه دروساً عظيمة وعبراً كبرى, ولكن يا تُرى إلى مَن يحملها؟ ويا تُرى مَن يفهمها عنه؟ فيتعظ بها!! قال رب العزة والجلال: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ}[النور: 44], عبر تسجلها الأيام على مر الزمان, وكأنها تقول للإنسان: يا مسكين اقرأ إن كنت تفهم وتعتبر, أفلا تفيق من غفلتك {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ}, وقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}[ق: 37],كم مسكين هذا الإنسان! يفتح عينه كل صباح على آمال كاذبة, وينسى أنه مهما سعى لتحصيلها فلن يدرك منها إلا ما كُتِب له, أحلام ذهبية مزيفة, وآمال رديئة كاذبة, وأخيلة شهية, ثم لا يكون إلا القدر, ولا ينزل إلا قضاء ربّ البشر تبارك وتعالى كم من آمال في هذه الدنيا عقدت عليها حبائل فكرك عبد الله؟ وكم من أمانٍ أفنيت عمرك في تحصيلها؟, وأهدرت فيها من أوقات؟ وأضعت فيها من أموال!!! إنه داءٌ عضال, ومرض فتاك, أتدري ما هو الداء العضال؟ الذي حار الحكماء والأطباء في دوائه, وأطال العلماء في وصفات شفائه.
عبد الله أتدري ما هو هذا الداء؟
إنه داء طول الأمل, وحقيقة الأمل كما قال القرطبي رحمه الله في تفسيره: "الحرص على الدنيا والانكباب عليها، والحب لها والإعراض عن الآخرة"1, وقال رحمه الله: "وطول الأمل داء عضال ومرض مزمن، ومتى تمكن من القلب فسد مزاجه واشتد علاجه، ولم يفارقه داء ولا نجع فيه دواء، بل أعيا الأطباء ويئس من برئه الحكماء والعلماء"2.
أيها المؤمنون عباد الله: لقد ذم الله تبارك وتعالى أعدائه بطول الأمل, وذلك لأنه سببٌ في إعراضهم عن الهٌدى, فقد قال الله تبارك وتعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}[الحجر: 3], وقال الله تبارك وتعالى في ذم اليهود عليهم من الله ما يستحقون: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}[البقرة: 96], أفلا يعجب الإنسان من إنسان لا تزال الآمال تلعب به يمنة ويسرة, تصعد به وتنزل, ثم يهرم ويشيخ وتأكل الأيام والسنون شبابه, ومع ذلك يبقى أمله غضاً قوياً طرياً, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يزال قلب الكبير شابا في اثنتين: في حب الدنيا وطول الأمل))3, وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنتان: حب المال وطول العمر))4, فكلما تقدم العمر بالإنسان زاد حبه للمال, وزاد أمله, أما علمت يا عبد الله: أن طول الأمل كان سببٌ في هلاك كثير من الأمم؟
وهل تعلم أن قصر الأمل والزهد في الأماني سببٌ في صلاح ذلك الجيل الطاهر من أول هذه الأمة رضي الله عنهم؟, عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده لا أعلمه إلا رفعه قال: ((صلاح أول هذه الأمة بالزهادة واليقين وهلاكها بالبخل والأمل))5, وقال بعض الحكماء: "احذر طول الأمل فإنه سبب هلاك الأمم"6, إن طول الأمل يا عباد الله: حِبالة من حِبالات الشيطان الرجيم يقذفها في طريق ابن آدم فيأسره بها, ليتحكم بعدها في أمره فيسيره كما يشاء.
قال بعض الحكماء: "الأمل سلطان الشيطان على قلوب الغافلين"7, وقال الحسن رحمه الله: "ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل", وقال: "إذا سرك أن تنظر إلى الدنيا بعدك، فانظر إليها بعد غيرك"8, مساكين الذين يظنون أن الآمال من السعادة, وهم قد تركوا السعادة حيث يكرهون, وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "إن من الشقاء طول الأمل وإن من النعيم قصر الأمل"9, قال القرطبي رحمه الله: "أربعة من الشقاء؛ جمود العين، وقساوة القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا"10.
عباد الله: كم منينا هذه الأنفس؟ وكم عللناها بالآمال؟ ولكن هل حاسبناها؟ هل سألناها؟ ماذا تريدين من هذه الآمال؟, أتريدين بها وجه الله تبارك وتعالى والدار الآخرة؟ أم تريدين بها الركون إلى دار الغرور؟ قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[العنكبوت: 64], وقال: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}[الحديد: 20], وقال جل جلاله: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[يونس: 24], وقال: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا}[الكهف: 45], والآيات في ذم الدنيا كثيرة جداً نكتفي بما ذكرنا.
يَا مَنْ بِدُنْيَاهُ اشْتَغَلْ *** وَغَرَّهُ طُولُ الأَمَلْ
الموت يأتي بغتةً *** والقبر صندوق العمل11
قال الحجاج: "فأما بعد فإن الله كتب على الدنيا الفناء وكتب على الآخرة البقاء ولا بقاء لما كتب عليه الفناء ولا فناء لما كتب عليه البقاء فلا يغرنكم شاهد الدنيا عن غائب الآخرة وأقصروا طول الأمل بقصر الأجل"12, وقال أبو العتاهية:
إِنما الدنيا كظلٍ زائلٍ *** أو كضيفٍ باتَ ليلاً فارتحلْ
أو كطيفٍ قد يراهُ نائمٌ *** أو كبرقٍ لاحَ في أفقِ الأملْ
وقال الآخر:
تأملْ في الوجودِ بعينِ فكرٍ *** ترى الدنيا الدنيَّةَ كالخيالِ
ومن فيها جميعاً سوفَ يفْنى *** ويبقى وجهُ رَبِّكَ ذي الجلالِ
ولو سألنا هذه النفس المسكينة الأمارة بالسوء: أما تدرين يا نفس إن الأجل بالمرصاد؟ فقد يأخذك قبل تحقيق آمالك؟ وما أكثر هذا يا نفس هل غفلت؟ قال رب العزة والجلال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}[آل عمران: 185]، وقال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[الأنبياء: 35], وقال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[العنكبوت: 57].
ولقد ضرب لنا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لذلك مثلاً فهلا تأملناه يا عباد الله؟
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خط النبي صلى الله عليه وسلم خطاً مربعاً، وخط خطاً في الوسط خارجاً منه، وخط خططاً صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، وقال: ((هذا الإنسان وهذا أجله محيط به - أو: قد أحاط به - وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا))13, وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)), وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك"14, وعلى الإنسان أن يطمئن فلن يأخذ رزقه أحد, فلن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب, فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها. فاتقوا الله وأجملوا في الطلب))15, قال عون بن عبد الله رحمه الله: "أنه كان يقول كم من مستقبل يوما لا يستكمله ومنتظر غدا لا يبلغه لو تنظرون إلى الأجل ومسيره لا بغضتم الأمل وغروره"16, كم يا عباد الله ركنا إلى أماني الدنيا الكاذبة وغرورها الزائفة؟ ما ذكرها الله تبارك وتعالى في كتابه إلا ذاماً لها قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم مبيناً حقيقة الدنيا, مُخبراً لهم بأن الدار الآخرة هي خير لهم: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}[الأنعام: 32], وقال: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[العنكبوت: 64], وقال منبهاً لمن فرح واغتر: {اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ}[الرعد: 26], وقال مبيناً حقيقتها لعباده المؤمنين: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}[الحديد: 20], وبين حقيقتها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم كما هو ثابت عنه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه فقلنا: يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء فقال: ((ما لي وما للدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها))17.
إنما الدنيا كظل في غداة *** جاءت الشمس عليه فاضمحل
أو سرابا خال للظمآن ماء *** شرع القصد إليه في عجل
كل نفس فإلى الموت تصير *** فلعمري هذه الدنيا دول
غرت الدنيا أناسيا كثيرا *** من صغير وكبير وكهل
لم تبقي الدنيا على عشاقها *** قد سقتهم سمها بطعم العسل
كيف يصفو العيش في اكدارها *** كيف يسعي لغرور من عقل
فحذارى يا فتي منها حذارى *** خالف الدنيا واخلص في العمل
طلق الدنيا ثلاثا يا أخي *** إنما المغبون من نال الكسل18
أيها المؤمنون عباد الله: ولكم أن تقفوا مع أنفسكم وقفة حساب وسؤال: ما الذي جناه أهل الآمال الطويلة؟ هل أدركوا أمانيهم؟ التي طال ما ألهتهم عن ذكر ربهم تبارك وتعالى, ثم هبهم وصلوا إلى ما أملوه هل سيدركونها صافية خالية من الأكدار والأحزان؟ ثم سلوا أنفسكم يا عباد الله: هل سيدوم لهم ما أدركوه أم أنه مهما طال معهم فمصيره إلى الفناء والزوال؟ ثم له أنهم سيقنعون بما أدركوه أم لهم آمال أخر وصدق القائل:
يا ذا المؤمل آمالاً وإن بعدتُ *** منه ويزعم أن يحظى بأقصاها
أنى تفوز بما ترجُوهُ ويكَ وما *** أصبحت في ثقةٍ من نيل أدناها19
عبد الله: هي نفسك وأنت أعلم الناس بها، سلها، قف معها وقفات, فإذا وقفت معها وحاسبتها عرفت دواءها, فإذا عرفت الدواء فلزمه لتخلص من هذا الداء الفتاك, ألا ترى ما في القلوب من قسوة وغفلة؟ لا الوعيد يخوفها، ولا الوعد يصلحها، كسولة إذا دُعيت إلى الطاعات، نشيطة خفيفة إذا دعيت إلى الشهوات, أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}[الإنفطار: 6-8], بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، قلت ما سمعتم وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الكريم الوهاب الغفور الرحيم، عز فارتفع وعلى فامتنع وذل كل شيء لعظمته وخضع، لا شريك له في ملكه وسلطانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم الداعي إلى رضوانه.
أما بعد:
أيها المؤمنون عباد الله: إنه داء طول الأمل، سبب كل داء, وداعية الأهواء, فبئس الداء داء طول الأمل، ويتولد من طول الأمل الكسل عن طاعة الرحمن سبحانه وتعالى، والتسويف بالتوبة، والرغبة في الدنيا وزخرفها، ونسيان للآخرة وما أعد الله تبارك وتعالى فيها من النعيم المقيم، والقسوة في القلب، لأن رقته وصفاءه إنما يقع بتذكر الموت، والقبر، والثواب، والعقاب، وأهوال القيامة، كما قال الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}[الحديد: 16], فالكسل عن طاعة الرحمن, والانهماك في زخرف الدنيا, نسيان الآخرة, ما هي إلا بسبب نسيان طول الأمل, فكم قلوب قد دنسها, وأقواماً في أوحال الذنوب رست أقدامهم, فعجباً لمن أيقن أن الموت حق ولم يستعد له, وعجباً لمن علم أن الجنة قد هيئت لعباد الله تبارك وتعالى المؤمنين الطائعين له فلم نرى لها عاملاً, عجباً لمن أيقن بأن النار دار عقاب من تنكب الصراط وعصى رب العباد لكن لم نرى لها خائفاً, بل نرى الناس يعملون الأعمال التي تقودهم إليها ولا تخلصهم منها, عجباً لهم هل سيخلدون في هذه الحياة؟ أم أنهم يموتون؟ ويحهم ما ينتظرون؟
أليس من العجيب أن تفنى الأعمار وتنقضي، ولا تنقضي الآمال، فكل يوم له أمل، وكل شهر له أمل، وكل سنة لها أمل، وهكذا يحيا صاحب الآمال في رحلة لا نهاية لها, يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله: "وقال بعض الحكماء: كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره, وشهره يهدم سنته, وسنته تهدم عمره؟ كيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله, وتقوده حياته إلى موته؟ وقال الفضيل بن عياض لرجل: كم أتت عليك؟ قال: ستون سنة, قال: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ, فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون, فقال الفضيل: أتعرف تفسيره تقول: إنا لله وإنا إليه راجعون فمن عرف أنه لله عبد وأنه إليه راجع فليعلم أنه موقوف, ومن علم أنه موقوف فليعلم أنه مسئول ومن علم أنه مسئول فليعد للسؤال جوابا فقال: الرجل فما الحيلة, قال: يسيرة قال: ما هي؟ قال: تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضي، فإنك إن أسأت فيما بقي أخذت بما مضي وما بقي"20
وما هذه الأيام إلا مراحل *** يحث بها داعٍ إلى الموت قاصد
وأعجبُ شيء لو تأملت أنها *** منازل تطوى والمسافر قاعد
قال الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: "للعبد رب هو ملاقيه وبيت هو ساكنه فينبغي له أن يسترضى ربه قبل لقائه, ويعمر بيته قبل انتقاله إليه, إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة, والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها, الدنيا من أولها إلى آخرها لا تساوى غم ساعة, فكيف بغم العمر, محبوب اليوم يعقب المكروه غداً, ومكروه اليوم يعقب المحبوب غداً, أعظم الربح في الدنيا أن تشغل نفسك كل وقت بما هو أولى بها, وأنفع لها في معادها, كيف يكون عاقلاً من باع الجنة بما فيها بشهوة ساعة, يخرج العارف من الدنيا ولم يقض وطره من شيئين بكاؤه على نفسه, وثناؤه على ربه؛ المخلوق إذا خفته استوحشت منه وهربت منه, والرب تعالى إذا خفته أنست به وقربت إليه, لو نفع العلم بلا عمل لما ذم الله سبحانه أحبار أهل الكتاب, ولو نفع العمل بلا إخلاص لما ذم المنافقين, دافع الخطرة فإن لم تفعل صارت فكرة فدافع الفكرة, فإن لم تفعل صارت شهوة, فحاربها فإن لم تفعل صارت عزيمة وهمة، فإن لم تدافعها صارت فعلاً، فإن لم تتداركه بضده صار عادة, فيصعب عليك الانتقال عنها, التقوى ثلاث مراتب إحداها: حمية القلب والجوارح عن الآثام والمحرمات, الثانية: حميتها عن المكروهات, الثالثة: الحمية عن الفضول وما لا يعنى, فالأولى تعطى العبد حياته, والثانية تفيده صحته وقوته, والثالثة تكسبه سروره وفرحه وبهجته"21.
أيها المؤمنون عباد الله: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم فلينظر بم يرجع؟))22, قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "شبه الدنيا في جنب الآخرة بما يعلق على الإصبع من البلل حين تغمس في البحر, قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو أن الدنيا من أولها إلى آخرها أوتيها رجل ثم جاءه الموت لكان بمنزلة من رأى في منامه ما يسره ثم استيقظ فإذا ليس في يده شيء, وقال مطرف بن عبد الله أو غيره: نعيم الدنيا بحذافيره في جنب نعيم الآخرة أقل من ذرة في جنب جبال الدنيا, ومن حدق عين بصيرته في الدنيا والآخرة علم أن الأمر كذلك, فكيف يليق بصحيح العقل والمعرفة أن يقطعه أمل من هذا الجزء الحقير عن نعيم لا يزول ولا يضمحل فضلا عن أن يقطعه عن طلب من نسبة هذا النعيم الدائم إلى نعيم معرفته ومحبته والأنس به, والفرح بقربه كنسبة نعيم الدنيا إلى نعيم الجنة, قال الله تعالى: {وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ}[النور: 72], فيسير من رضوانه ولا يقال له يسير أكبر من الجنات وما فيها"23.
أيها المؤمنون عباد الله: عليكم أن تجعلوا الموت نصب أعينكم, تذكرونه دائماً ليكون لكم حافزاً إلى عمل الطاعات, ومخلصاً لكم من المنكرات, وعليكم بالتزود ليوم المعاد يوم لا ينفع الإنسان فيه إلا ما قدم من الصالحات: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ}[المؤمنون: 102-103], ويقول: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ}[غافر: 40], وقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ}[فصلت: 46], وقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ}[الجاثية: 15], وعليك عبد الله أن تجعل الدنيا في يدك, وحذر كل الحذر أن تدخل الدنيا إلى قلبك فإذا دخلت القلب, انهمك في شهواتها ولا حول ولا قوة إلا بالله, فهي متاع زائل لا تدوم لأحد.
عباد الله: هذا وصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[الأحزاب: 56]، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً))24, فاللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك اللهم من النار وما قرب إليها من قول أو عمل, اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا، برحمتك يا أرحم الراحمين, اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار يا عزيز يا غفار, {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الأعراف: 23]، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}[الحشر: 10]، {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[البقرة: 201]، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 تفسير القرطبي (10/3).
2 تفسير القرطبي (10/3).
3 رواه البخاري برقم (6057).
4 وروه البخاري برقم (6058).
5 رواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (7650)؛ والبيهقي في شعب الإيمان برقم (10845)؛ وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (3845)؛ وقال في السلسلة الصحيحة: حسن لغيره برقم (3339).
6 قصر الأمل لابن أبي الدنيا (79).
7 قصر الأمل (82).
8 قصر الأمل (82).
9 مفتاح دار السعادة، لابن القيم (40)؛ قصر الأمل (76), ومختصر تاريخ دمشق (1/2786).
10 اللباب في علوم الكتاب (11/427).
11 ديوان علي بن أبي طالب (124).
12 غرر الخصائص الواضحة (1/83).
13 رواه البخاري برقم(6054).
14 رواه البخاري برقم (6053).
15 رواه ابن ماجه برقم (2144)؛ والشافعي في مسنده برقم (1153)؛ وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة برقم (1743)؛ وفي صحيح الجامع برقم (2742).
16 حلية الأولياء (4/243).
17 رواه الترمذي برقم (2377) وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح؛ وابن ماجة برقم (4109)؛ وأحمد في المسند برقم (2744) وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح, وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة برقم (3317)؛ وفي السلسلة الصحيحة برقم(439).
18 موقع امام المسجد.
19 الأبيات منقولة من تفسير القرطبي (10/3).
20 جامع العلوم والحكم (1383).
21 الفوائد (31).
22 رواه مسلم برقم (2858).
23 مدارج السالكين (3/93).
24 رواه مسلم برقم (384).