كثيرة هي الظواهر والقضايا التي يتم تجاهلها، أو نسيان تأريخها من الباحثين والمؤرخين، وتتعدد الأهداف وتختلف الدوافع بين من يرى أنها مظاهر لا تستحق الاهتمام، أو أنها عديمة الأثر في مجرى التاريخ، وقد يكون التجاهل مقصودًا لهدف معين.
ولا يخفى أن كلا النهجين في العمل البحثي يؤدي إلى إغفال العديد من الحقائق التاريخية المهمَّة، التي يكون الإلمام بمعرفتها ضرورة ملحة لتكوين صورة واضحة المعالم ومتكاملة الأبعاد؛ لفهم هذه الظواهر والوقوف على حيثياتها، ولاستشراف أبعادها في المستقبل.
وقد شكل المغرب على مرِّ العصور أرضَ اللِّقَاء مع مختلف الشعوب والحضارات، أتاح لها كل الظروف الملائمة لممارسة أنشطتها الدينية والثقافية المختلفة؛ ولذلك تميز بوضعية ضاهت وضعية بعض البلدان في المشرق الإسلامي حريةً وتعايشًا، وهو ما نطقت به مختلف التفاعُلات الحضاريَّة المتبادلة، وتشهَد لذلك الوثائق والنصوص التاريخية، التي تؤكد على مصداقيَّة طابع التعايش السلمي، والتسامح الذي سادَ بين المغاربة مع مختلف الأجناس، وهو ما عبَّرت عنه النوازل الفقهية التي رسَمَت بعض فتاويها إطارًا عامًا للتعامل.
وفي المقابل أيضًا كانت البلاد محطة للاحتكاك الحضاري والصراع العسكري، تَرَتَّب عليه تحركات لبعثات دينية غايتها افتكاك الأسر من الجانبين عن طريق مبادلتهم أو شرائهم، ولا شك أن على رأس هذه البعثات كان رجال الدين، هم الأكثر حنكة ودهاء؛ لتولي هذه المهمة التي لم تكن تخلو من صعوبة وخطورة، راحت بعض البعثات ضحيةً لها، الشيء الذي دفع بالسلطة البابوية في بعض الفترات التاريخية إلى اشتراط تحصيل ثقافة محترمة، وعدم الاقتصار فقط على الحماس الديني، الذي كانت حصيلته نتائج كارثية.
وعليه، سأحاول في هذا المقال الوقوف على مفهوم التنصير.
فهو في اللغة: من التنصُّر، وهو الدخول في النصرانية[1] ونصَّره تنصيرًا جعله نصرانيًّا.[2].
وفي الاصطلاح هو: "حركة دينية سياسية استعمارية، تهدف إلى نشر النصرانية بين الأمم المختلفة عامة، وبين المسلمين خاصة"[3]، أو هو الجهد الكَنَسِي[4] الهادف إلى إدخال الشعوب في النصرانية، وتكون هذه الدعوة بين أبناء الديانات الأخرى[5]، وفي أوساط الوثنيين واللادينيين[6]، وتكون مقرونة بنبذ غيرها من الديانات الأخرى، سواء أكانت سماوية أم غير سماوية[7]، واضعة نصب عينيها هدفًا محددًا: هو "تنصير المجتمعات"، ونشر المسيحية في كل بقاع الأرض، والاستمرار في ذلك النشاط حتى نهاية الخليقة[8].
ويقول ساسي سالم الحاج بأن التنصير: "هو الدعوة إلى اعتناق الديانة النصرانية، ونبذ غيرها من الديانات الأخرى، سواء أكانت سماوية أم غير سماوية، كما أن بعض الديانات الأخرى لا تعرف التنصير، خاصةً اليهودية المنغلقة على نفسها[9].
إذن هو نشاط ديني يهدف إلى تنصير غير المسيحيين، وقد عرَّف صموئيل بوم ات Samuel Boom Itt من سيام التبشيرَ كما يلي: "العيش والعمل والحديث من أجل المسيح"[10]، وقد ذهب الدكتور رويو هيكو كاواوا Royohiko Kawawa إلى أبعد من ذلك، معتبرًا التبشير مطلبًا دينيًّا أساسيًّا، فقال:"التنصير يعني تحويل الناس عن الأمور الدنيوية إلى ملكوت السموات، وهذا التحويل ضرورة مطلقة؛ لأنه بدون إيقاظ الجوع الروحي، فليس هناك أمل للفرد أو المجتمع أو الجنس أو الأمة"[11].
وللإشارة أن هناك من يرفض استخدام كلمة التبشير بين المسلمين[12]، اعتمادًا على قولهم أن النصوص القرآنية هي الفيصل في هذه المسألة، ويُورِدون بعض الآيات مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 45-47]، وغيرها من الآيات.
ولتفصيل المصطلح أكثر عرَّفه الشيخ سلمان العوده بقوله: "يُقصَد به ذلك الجهد الكنسي، الذي يقوم به الدعاة النصارى في الدعوة والعمل، والذي يهدفون من خلاله إلى إدخال الشعوب في الديانة النصرانية"[13]، وتتم هذه الدعوة وَفْق منهج يُسمَّى: "التخطيط التنصيري"، ويشرف عليه البابا في روما، ويُصَرِّف أموره تصريفًا مباشرًا.[14].
والتبشير بالمعنى الاصطلاحي يطلق على دعوة إلى النصرانية، ومحاولة دفع الناس إلى الدخول فيها بشتى الوسائل المشروعة وغير المشروعة[15].
وهو تعبير أطلقه رجال الكنيسة النصرانية على الأعمال التي يقومون بها؛ لتنصير الشعوب غير النصرانية لا سيما المسلمين، ثم يتحوَّل هدف التنصير داخل الشعوب المسلمة إلى غاية التكفير، وإخراج المسلمين عن دينهم، ولو إلى الإلحاد والكفر بكل دين[16].
ويزعم النصارى أن هذا الأمر صدر لهم من المسيح حين قال: "فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعَمِّدوهم باسم الأب والابن والروح القدس"[17]، فبموجب هذا الأمر كان لا بد لهم أن يسيروا لتبليغ النصرانية إلى الأمم، وهكذا خرج دعاة النصرانية يكرزون الأمم؛ لتنتشر في ربوع أوربا وبعض مناطق أفريقيا كالحبشة ومصر.
وهناك من يقول: إن "الأناجيل التي يتداولها النصارى، وردت فيها الإشارة واضحة بتكليف المؤمنين بها للانطلاق إلى كل أنحاء العالم؛ لنشر تعاليم الإنجيل والدعوة إلى ما جاء به، أي: دعوة الناس إلى اعتناق النصرانية، وتعليمهم أصول هذه العقيدة وشرائعها"[18].
وقد جاء في إنجيل متَّى: "فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس، وعلِّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به، وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر"[19]، وجاء في إنجيل مرقس على لسان المسيح قوله: "اذهبوا إلى العالم، واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها، فمَن آمن واعتمد خلص، ومن لم يؤمن يدن"[20].
من هذه الأصول استمدت النصرانية مبررات ومقومات الدعوة إلى ما جاء في الإنجيل، وأطلق على هذا النشاط مصطلح "التبشير"، مشتقًا من كلمة إنجيل في اللغة اليونانية، والتي تعني "البشرى"؛ لأنه أتى ببشرى الخلاص على يد المسيح الفادي"[21]، ومن ثَمَّ فإن تقديم هذه البشرى، ونشر ما جاء فيها من تعاليم يُعَدُّ "بشارةً" و"تبشيرًا" للآخرين في رأيهم.
وعلى هذا الأساس خرجت البعثات "التنصيرية" منذ فجر المسيحية الأول، متوجِّهةً إلى كل مكان يمكنها الوصول إليه، واضعةً نصب عينيها هدفًا محددًا: هو "تنصير المجتمعات غير النصرانية"، ونشر النصرانية في كل بقاع الأرض، والاستمرار في ذلك النشاط حتى نهاية الخليقة[22].
وقد أطلق بعض الباحثين على هذه الحركة لفظ التبشير أو التبشير الصليبي، ومثال ذلك عمر فروخ ومصطفى خالدي في كتابَيْهما: "التبشير والاستعمار في البلاد العربية"[23]، ومحمد أمين السماعلي في كتابه: "جوانب من الغزو الفكري المعاصر"[24].
في الختام:
إن دراسة ظاهرة التنصير لا تخلو من أهمية نابعة بالأساس من ارتباطها بالدين، والدين في حياة الأمة ليس مسألةً فرديةً ولا أمرًا شخصيًّا، بل هي قضية وجودية للأمة ككل؛ لأنه غزو يسخر أحدث الإمكانيات وآخر المبتكرات، من أجل هدف واحد: هو السعي لزعزعة عقيدة المسلم، وتشكيكه في دينه وهُوِيَّته.
وعليه، فالتنصير لا يقل أهمية عن حسابات الأمن الإستراتيجي، على اعتبار أنه يهدد بشكل مباشر الأمن الروحي والديني، والتيقظ ومواجهة مثل هذه الظواهر هي مسؤولية يشترك فيها الجيمع دون استثناء، كل من موقعه وزاوية عمله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] "لسان العرب"، ابن منظور، ج: 14، مادة: نصر، ص: 161.
[2] "القاموس المحيط"، الفيروز آبادي، ص: 436.
[3] "الموسوعة الميسرة في المذاهب والأديان"، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، ص: 159، بتصرف.
[4] مذكرة حول التنصير، سلمان بن فهد العودة: الموقع في الإنترنيت:
www.Alsalafyoon.com/salman/aldah/Tanseer.htm[5] معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام، محمد عمارة، ط: 1997، دار نهضة مصر - القاهرة، ص: 60 بتصرُّف.
[6] "مدخل إلى تاريخ حركة التنصير"، ممدوح حسين - دار عمَّار: عمَّان، 1416هـ - 1995م - ص 21 -30.
[7] "الظاهرة الاستشراقية وأثرها على الدراسات الإسلامية"، ساسي سالم الحاج، مركز دراسات العالم الإسلامي، مالطا، الطبعة الأولى:1991، ج: 1 ص: 55، "الجذور التاريخية لإرساليات التنصير الأجنبية في مصر"، خالد نعيم، مكتبة المختار الإسلامي - القاهرة 1988 - ص: 13، بتصرف.
[8] التبشير النصراني في جنوب السودان "وادي النيل"، إبراهيم عكاشة، دار العلوم - القاهرة - ط: 1982، ص: 20.
[9] "الظاهرة الاستشراقية وأثرها على الدراسات الإسلامية"، ساسي سالم الحاج، م س، ج: 1 ص:55.
[10] "التبشير في منطقة الخليج العربي"، عبدالمالك خلف التّميمي، ص: 62.
[11] المرجع نفسه.
[12] "الجذور التاريخية لإرساليات التنصير الأجنبية في مصر"، خالد نعيم، مكتبة المختار الإسلامي - القاهرة 1988 - ص: ،13 بتصرف.
[13] مذكرة حول التنصير، سلمان بن فهد العودة، الموقع في الإنترنيت:
www.Alsalafyoon.com/salman/aldah/Tanseer.htm[14] جوانب من الغزو الفكري المعاصر، محمد أمين السماعلي، ط: 1997 - ص: 105، بتصرف.
[15] "التبشير الصليبي"، سعد الله بن السيد صالح، ص:39.
[16] "أجنحة المكر الثلاثة"، عبدالرحمن بن حبكنة الميداني، ص: 49.
[17] إنجيل متَّى، الإصحاح: 28، الفقرة 20.
[18] "الإذاعات التنصيرية الموجهة إلى المسلمين العرب"، كرم شلبي، مكتبة التراث الإسلامي - مصر، الطبعة: الأولى، 1412- 1991، ص: 17.
[19] إنجيل متَّى، الإصحاح: 28.
[20] إنجيل مرقس، الإصحاح: 16.
[21] "في الغزو الفكري"، نذير حمدان، مكتبة الصديق - الطائف (السعودية) - بدون تاريخ، ص: 98.
[22] "التبشير النصراني في جنوب السودان"، إبراهيم عكاشة - م س، ص: 20.
[23] "التبشير والاستعمار في البلاد العربية"، عمر فروخ ومصطفى خالدي - م س، ص: 42.
[24] "جوانب من الغزو الفكري المعاصر"، محمد أمين السماعلي، ط: 1997م، ص: 34.