العبادة ومفهومها
(1-4)
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، خلق الخلق ليعبدوه، ويسر لهم سبل الهدف الأكبر من خلقهم، فجعل لهم الليل سكناً والنهار معاشاً والأرض فراشاً، وقال لهم بعد كل تلك النعم:{اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُه{ وأشهد أن محمداً رسول الله، خير من صلّى وسجد، وصام وعبد، ووضح العبادة كما هي، وأفردها لله عن الشريك والنديد- صلى الله عليه وسلم- تسليماً كثيراً، أما بعد:-
فمن نظر في آيات الله الكونية وما خلق الله –تعالى- مما يراه بأم عينيه، وجد أن ذلك الخلق كائن من قوة عظيمة فاعلة، لها القوة المطلقة، والقدرة الكبيرة على التصرف في هذا الكون، وهو الله جل في علاه.
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ}
ولما كان الله –تعالى- هو صاحب القدرة المطلقة، التي لا يقف دونها شيء اقتضى العقل الصحيح باتفاق مع النقل الصحيح الصريح أن يكون هو المعبود المطاع؛ لأنه أعلم بخلجات قلوب الكائنات في هذا الكون الفسيح...
وعبادة الله هي الغرض من خلق الجن والإنس في هذا الكوكب الصغير.. فكان لا بد من بيان العبادة، وما مفهومها؟ وكيف أصبح الناس تجاهها بين سابق إلى الخيرات، ومقتصد، وظالم لنفسه.. ولا حول ولا قوة إلا بالله..
وقبل أن نشرع في بيان أنواع العبادات لا بد أن نفهم: ما هي العبادة؟ هل هي ما يظنه كثير من الناس اليوم من صلاة وصيام وزكاة وحج، أم أن لها مدلولات إضافية أخرى.. وهل هي محصورة في ما سبق، أم أنها تشمل كافة مناحي الحياة؟! كل ذلك ما سنعرفه في السطور القادمة..
تعريف العبادة: لغة: الخضوع والذل والانكسار، يقال: طريق معبَّد، أي مذلّل للمارين عليه، ومنه سمي الأسير من الكفار عبد؛ لأنه ذليل، قال ابن منظور:( والعبادة: الطاعة، وقوله تعالى:{وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} أي دائنون، وكل من دان لملك فهو عابد له، قال ابن الأنباري: فلان عابد وهو الخاضع لربه المستسلم المنقاد لأمره، وقوله -عز وجل-:{اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ} أي أطيعوا أمره، والمتعبد: المنفرد بالعبادة).[1]
قال الزبيدي: ( والعبادة الطاعة، وقال بعض أئمة الاشتقاق: أصل العبودية الذل والخضوع، وقال آخرون: الرضا بما يفعل الرب، والعبادة فعل ما يرضى به الرب).[2]
يقول ابن فارس- وهو من أقدم من ألف في المعاجم العربية، وهو قبل ابن منظور والزبيدي-:
(عبد: العين والباء والدال أصلان صحيحان، كأنهما متضادان، والأول من ذينك الأصليين يدل على لين وذُلّ، والآخر على شدة وغِلط، قال الخليل: وأما عبد يعبد عبادة فلا يقال إلا لمن يعبد الله تعالى، يقال منه: عبد يعبد عبادة، وتعبَّد يتعبَّد تعبداً، فالمتعبِّد: المتفرد بالعبادة، واستعبدتُ فلاناً: اتخذته عبداً.. ثم قال ابن فارس رحمه الله: ومن الباب البعير المعبَّد أي المهنوء – المطلي- بالقطِران، وهذا أيضاً يدل على ما قلناه؛ لأن ذلك يُذله ويخفض منه، قال طرفة بن العبد:
إلى أن تحامَتْني العشيرة كلها وأُفرِدتُ إفراد البعير المعبَّد
والمعبَّد؛ الذلول، يوصف به البعير أيضاً، ومن الباب: الطريق المعبَّد، وهو المسلوك المذَلّل...)[3]، ثم ذكر الأصل الآخر الذي يدل على الصلابة والقوة.
من خلال ما سبق يتبين لنا المعنى اللغوي لكلمة (عبادة) وعبودية، وهي مشتقة من أصولها الثلاثة (عبد) التي تدل على الذل واللين والخضوع، وهذا المعنى هو المستعمل في عامة المفردات.
العبادة شرعاً: لا نطيل في ذكر المعاني الشرعية للعبادة؛ لأن الشيء يعرف من أصله، فإذا عرفنا أصل معنى العبادة أنه الخضوع والذل... فمعناها في الشرع: الخضوع والذل الكامل لله –تعالى- في كافة شؤون الحياة، وبجميع الآلات: القصد، والكلام، والفعل، حباً وخضوعاً ورجاءً وخوفاً من الله تعالى..
ومن هذا المعنى نأخذ أنه لا يجوز أن نخضع خضوع الذلة والمسكنة والعظمة إلا لله عز وجل..
وقد عرف شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- العبادة تعريفاً جامعاً مانعاً يدل على فقه الرجل ومعرفته بعامة العلوم الشرعية، يقول:
العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة والصيام والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل، والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء، والذكر، والقراءة وأمثال ذلك من العبادة).[4] وعدد أنواعاً أخرى من العبادة..
وبهذا التعريف يتضح لنا أن الحياة كلها لله، مصداقاً لقوله –تعالى- عن إبراهيم: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (79) سورة الأنعام، وقوله في آخر السورة: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (162-163) سورة الأنعام.
ومن عظمة هذا التوجه الشامل لنبينا إبراهيم -عليه السلام- كان النبي-صلى الله عليه وسلم- يجمع بين هذه الآيات في دعاء الاستفتاح؛ حيث ورد في الحديث: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين). رواه مسلم وأحمد.
وفي رواية: (وأنا أول المسلمين) كما في الآية.
والمقصود أن العبادة شاملة لجميع حياة الإنسان، وذلك يظهر من قوله-تعالى-:{وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فجعل البداية (محياي) والنهاية (مماتي) وما بينهما كله لله رب العالمين.. وسيأتي بيان ذلك واضحاً جلياً – إن شاء الله- في فصل مفهوم العبادة الشامل...
وشيخ الإسلام قد قال: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.. فالأقوال هي عبادات اللسان كالذكر والدعاء.. والأعمال الظاهرة كالصلاة والصيام والحج وغيرها.. والأعمال الباطنة هي أعمال القلب كالحب والخوف والرجاء وغيرها.. فجمع التعريف كل ما تقوم به العبادة من: القلب واللسان والجوارح...
حاجة الناس إلى العبادة:
حاجة الناس إلى العبادة متعلقة بأن العبد مفطور على حب الله وعبادته واللجوء إليه، ولهذا قال-صلى الله عليه وسلم-: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) متفق عليه، فالأصل أن الناس مفطورون على حب الله وعبادته {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (30) سورة الروم.
وكذا يتضح لنا حاجة الناس إليها من خلال تكوين العبد الخلقي، فهو مكون من جسد وروح، فالجسد يحتاج إلى التغذية المستمرة، وغذاؤه الأكل والشرب ، والروح لا بدَّ له من غذاء، وغذاء الروح هو الغذاء الإلهي التعبدي، ولهذا لما كان الجسد من الطين الدال على السفل والدنو والثقل، كان غذاؤه من الأسفل ومن الطين، ولما كانت الروح من أمر الله ومن روحه كان الغذاء لا بد أن يأتي من علو من عند الله –تعالى-، فإذا اجتمع الأمران وامتزجا في بدن العبد حصلت الصحة والاعتدال والراحة في الإنسان، وإذا اختل الغذاء الروحي الإيماني تكدرت الحياة، وأصبحت جحيماً لا يطاق!! وإذا ارتفع الغذاء الروحي وبلغ ذروته فإن قلة أو ضعف الغذاء الجسدي يعوضه ذلك الغذاء الروحي.. ومن هذا يتضح لنا السبب في كون النبي -صلى الله عليه وسلم- يمسك عن الأكل ويواصل صيامه يومان فأكثر، ولما سأله الصحابة عن ذلك قال: ( وأيكم مثلي! إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني)رواه مسلم, ولهذا كان كثير من العارفين بالله يصومون جل أيام عمرهم، ولا يأكلون إلا قليلاً، ومع هذا يجدون من لذة الذكر والقرآن لذة لا تقارنها لذة أصلاً!! فقلة الغذاء الجسدي ناب عنه الغذاء الروحي الإلهي، لكن المشكلة عندما يضعف أو يعدم الغذاء الروحي الإلهي فإن الحياة تتكدر على العبد، بقدر ما نقص من ذلك الغذاء العظيم. فعلى قدر قوة ذلك الغذاء الإلهي في قلب العبد وجسمه توجد السعادة والحياة الطيبة، فلو ضعف ذلك الزاد تكدرت الحياة بقدر الضعف.. فتجد العبد تصيبه الهموم والمشاكل النفسية.. والناس درجات ودركات في ذلك، فمنهم من يصيبه الهم والغم ولكنه يتذكر لذلك؛ فإذا استخدم من الغذاء الروحي حظه ونصيبه رفع عنه ذلك الهم والغم، ولهذا أرشد النبي-صلى الله عليه وسلم- من أصابه الهم والغم والكرب أن يذكر الله، وهو بهذا يستخدم السلاح الإلهي لدفع الهم والغم- فعن عبد الله بن مسعود قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما أصاب عبداً هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك، ماض فيَّ حكمك عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحاً) قالوا: يا رسول الله أفلا نتعلمهن؟ قال: (بلى! ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن).رواه أحمد وأبو حاتم وصححه الألباني.
سبحان الله.. إنه يذكِّر العبد بانحرافه عن الهدف العظيم في جزئية من حياته، فكان ذلك هو السبب في الهم والغم، فأراد أن يعيد الأمور إلى نصابها، وأن يعيد الغذاء إلى الجسد بالاعتراف بحقيقة الأمر والشأن، وهو عبودية الإنسان لله، ولجوئه إلى الذي لا يستغني عنه طرفة عين-سبحانه وتعالى-.
ومن الناس من يصيبه الهم والغم فلا يتذكر ولا يتفكر في سببه، فيعالجه باللجوء إلى من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً! فيزداد الأمر سوءً، حيث يذهب العبد إلى أطباء الأمراض النفسية – مع أنه لا حرج في ذلك من حيث العموم – لكنه لو رجع إلى بارئه، ومن لا غنى له طرفة عين عن رحمته من أول الأمر لاستدرك ما فاته من خير اللجوء والأوبة والتوبة..
ولا غرابة ولا عجب أن نرى كثيراً من أمم الأرض اليوم تصاب بالاكتئاب والقلق الدائم، والجحيم الذي لا يفارق أنفاسهم لحظة من الزمن.. فإنهم قد غلطوا غلطاً كبيراً، حيث انحرفوا عن هذا المبدأ العظيم، وهذا الأصل الكبير في الحياة، وهو حتمية الجمع بين الغذاءين ولا بد.. فإن من أعرض عن غذاء الروح تكدرت عليه حياته مهما ملك من الأموال، ومهما فرح بكثير من الأحوال، فإن الهم والقلق لا يفارق قلبه، ولا قوة إلا بالله.. ولهذا يلجأ كثير من هؤلاء المعرضين عن الله إلى (الإنتحار)، ومحاولة الخروج من هذا الإحباط والقلق الدائم بأي طريقة كانت! حتى لو وصل الحد به إلى قتل نفسه، وكم من حوادث مؤلمة نسمع عنها!!.. وهذا يدلنا على أن هؤلاء فقدوا عنصراً كبيراً وخطيراً في الحياة، وهو الفطرة التي فطروا عليها وهي حاجتهم إلى عبادة الله، وميلهم الفطري إليها، وعلى هذا الأساس فليعلم كل عبد رزقه الله الفقه والفهم في أمور دينه: أن كل ما يصيب الناس من مشاكل وقلق وهموم، سببها نقص في هذا الأصل إما نقص جزئي أو كلي حيث يصبح العبد كالبهيمة، فعليه أن يعالج هموم نفسه بالرجوع إلى الله، وتحقيق ما اختل من العبادة التي هو محتاج إليها كل حين.. ولهذا صدق الله العظيم القائل:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (124) سورة طـه, والقائل:{فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} (125) سورة الأنعام, وهذا كناية عن ضيق النفس وتكدر الحياة..
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- حاجة العبد إلى عبادة الله فقال: (واعلم أن فقر العبد إلى أن يعبد الله لا يشرك به شيئاً ليس له نظير فيقاس به، لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب وبينهما فروق كثيرة.. فإن حقيقة العبد قلبه وروحه[5] وهي لا صلاح لها إلا بإلهها الذي لا إله إلا هو، فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره) ثم شرع ابن تيمية يبين سبب ذلك اللجوء والاحتياج إلى عبادة الله وطاعته، وقد ذكر ذلك في عدة وجوه وأسباب فقال:
(أحدها:[6] أن نفس الإيمان بالله وعبادته ومحبته وإجلاله هو غذاء الإنسان وقُوْتُه وصلاحه وقوامه، كما عليه أهل الإيمان، وكما دل عليه القرآن..) ثم ذكر نفي المشقة والتكليف وإطلاق ذلك على العمل الصالح والإيمان، وأن السلف لم يطلقوا ذلك عليهما، وإنما أطلقه المتكلمون، وقد ذكر في القرآن بالنفي:{لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} قال: (أي وإن وقع في الأمر تكليف فلا يكلف إلا قدر الوسع، لا أنه يسمي جميع الشريعة تكليفاً، مع أن غالبها قرة العيون، وسرور القلوب، ولذات الأرواح، وكمال النعيم).[7]
ثم قال: (الأصل الثاني: أن النعيم في الدار الآخرة أيضاً به – أي بالله وبعبادته- مثل النظر إليه..) كما في الدعاء المأثور (أسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة) رواه النسائي وصححه الألباني[8]. وفي صحيح مسلم وغيره عن صهيب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى منادٍ: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار! قال: فيكشف الحجاب فينظرون إليه سبحانه! فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، وهو الزيادة).
والمقصود بالزيادة ما ذكر في قوله-تعالى-:{لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}، ثم قال ابن تيمية: (فبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أنهم مع كمال تنعمهم بما أعطاهم الله في الجنة، لم يعطهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه).
ثم ذكر أن هذين أصلان ثابتان في الكتاب والسنة، وعليهما أهل العلم والإيمان قاطبة.. والمقصود أن العبد محتاج إلى عبادة الله والقرب منه، والاستئناس بجواره-عز وجل- فمن فقد ذلك شقي، وهو الضنك المذكور في قوله:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}.
قال: (الوجه الثالث: أن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضر ولا منع ولا عطاء، ولا هدى، ولا ضلال، ولا نصر، ولا خذلان، ولا خفض، ولا رفع، ولا عز، ولا ذل، بل ربه هو الذي خلقه، ورزقه، وبصّره، وهداه، وأسبغ عليه نعمه، فإذا مسه الله بضر لم يكشفه عنه غيره، وإذا أصابه بنعمة لم يرفعها عنه سواه..)انتهى كلامه.
وخلاصة القول هنا: أن الله خالق العبد والمتصرف في أموره، فالحاجة تجعل العبد يرجع إلى الله، وينيب إليه في كثير من مشاكل الحياة، حتى أنك لترى كثيراً من الناس إذا أصيبوا بكارثة رفعوا أيديهم إلى الله -عز وجل... حتى أني سمعت قصة عجيبة عن رجل روسي وكان يتدرب على القفز المظلي (من الطائرة) فلما قفز من الطائرة لم تنفتح المظلة وهو يهوي في السماء وهي مغلقة، فدعا بلغته: يا الله! فانفتحت ونزل إلى الأرض بسلام، فهذا مع بعده عن الله، وكفره بآيات الله قبل ذلك في دولة اشتراكية ملحدة، لما ضاقت السبل وانقطعت الأسباب البشرية الضعيفة التي تشبه خيوط العنكبوت في الهوان نادى: يا الله! اتجهت الفطرة إلى الله -سبحانه وتعالى-.. وهكذا فالعبد مجبول على عبادة الله، وحبه، ودعائه، ولكن كما جاء في الحديث القدسي: (وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً..) رواه مسلم.
ثم قال ابن تيمية -رحمه الله-: (الوجه الرابع: أن تعلق العبد بما سوى الله مضرة عليه إذا أخذ منه القدر الزائد على حاجته في عبادة الله، فإنه إن نال من الطعام والشراب فوق حاجته ضره وأهلكه، وكذلك من النكاح واللباس) انتهى كلامه..
يقول حاجة العبد إلى المخلوق قليلة وآنية، وحاجته إلى عبادة الله وطاعته دائمة، كما في الحديث: (أتاني جبريل فقال: يا محمد ! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس ) رواه الطبراني وحسنه الألباني.
ثم ذكر الوجه الخامس من وجوه وأسباب حاجة العبد إلى عبادة الله فقال:
أن اعتماده على المخلوق وتوكله عليه يوجب له الضرر من جهته، فإنه يخذل من تلك الجهة، وهذا أيضاً معلوم بالاعتبار والاستقراء، فما علق العبد رجاءه وتوكله بغير الله إلا خاب من تلك الجهة، ولا استنصر بغير الله إلا خذل) انتهى كلامه..
ونحن نجد هذا واقعياً.. فرحم الله ابن تيمية على إبراز هذا المعنى، حيث نجد كثيراً من الذين كان لهم العباد نصراء ووزراء أول من يخذلونهم.. فنحن نجد على سبيل المثال ابن العلقمي الذي كان الخليفة العباسي يقربه ويدنيه منه، كان أول من خذله! وأشد من قتله!! وهكذا على مدى التاريخ، كم من هزائم ونكبات كانت بسب أقرب المقربين! وفي العصر الحديث نجد: دولة صدام حسين زالت بسبب الخيانة الكبرى من أقرب أقربائه كما علم ذلك، وانتشر بين الناس... فسبحان الله ما أعظم وما أعزّ من استنصر به ولجأ إليه، وما أسرع خذلان من اعتز وعبد ولجأ إلى غيره!.
ثم ذكر وجوهاً إلى أن قال: (الوجه التاسع: أن الخلق لو اجتهدوا أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بأمر قد كتبه الله لك، ولو اجتهدوا على أن يضروك لم يضروك إلا بأمر قد كتبه الله عليك، فهم لا ينفعونك إلا بإذن الله، ولا يضرونك إلا بإذن الله، فلا تعلق بهم رجاءك ولا خوفك، قال تعالى:{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ }انتهى.
فهذه الوجوه والأسباب وغيرها اقتضت أن يكون العبد محتاجاً إلى الله: أُنساً به، وقرباً منه، ورجوعاً إليه وعبادة له -عز وجل-.
إلى هنا ننهي حديثنا عن هذه الفقرة.. وسيأتي في الدروس القادمة -إن شاء الله- ذكر ما يتعلق بالعبادة من مفاهيم وتاريخ حولها.. والله الموفق...
[1]- لسان العرب 3/372-374.
[2]- تاج العروس باب (عبد)
[3]- معجم مقاييس اللغة (4/205-206). ط/ دار الجيل.
[4]- العبودية ص38. ط/ المكتب الإسلامي/ الخامسة 1399هـ.
[5]- وهذا كما قال زهير بن أبي سلمى: لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ** فلم يبق إلا صورة اللحم والدم.
[6]- ذكر في الأصل (أحدهما) فهو ذكر وجهين ثم ذكر بقية الوجوه بعدهما، ونحن قلنا: ( أحدها ) للجمع، على ما سيأتي..
[7]- قاعدة جامعة في التوحيد (ص34-36). ط/ دار العاصمة – السعودية.
[8]- صحيح سنن النسائي (1237).