العبادة
(2-4)
عبادة العالمين
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
غير خاف على ذي لب من المؤمنين أنه لابد في العبادة من معرفة أصلها اللغوي ومعناها الشرعي علماً وعملاً، واضطرار الناس إليها ، وأنه لا غنى لأحد عنها طرفة عين ، وأن من ظن أنه يستغني عن الله وعبادته في الدنيا فقد أفحش الوهم ، وأعرق في الجهل ، ونصيبه في الدنيا الهموم والأكدار والضنك وفي الآخرة عذاب أليم شديد..!
الخلق كلهم عبيد الله:
فالخلق كلهم عبيد الله مؤمنهم وكافرهم، حتى من عصى الله وكفر به وحجد هذه العبودية ، فإنَّ حاله يشهد بأنه عبد مذلل لله، إليه يرجع، لا مفر له منه إلا إليه –سبحانه- وبهذا الاعتبار (أي أن العبد يراد به المعبَّد المذلل لله ، فالمخلوقون كلهم عباد الله: الأبرار منهم والفجار، والمؤمنون والكفار، وأهل الجنة وأهل النار، إذ هو ربهم كلهم ومليكهم، لا يخرجون عن مشيئته وقدرته، وكلماته التامات التي لا يجاوزها بر ولا فاجر، فما شاء كان وإن لم يشاؤوا، وما شاؤوا إن لم يشأه لم يكن، كما قال –تعالى-: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (83) سورة آل عمران, فهو سبحانه رب العالمين، وخالقهم ورازقهم، ومحييهم ومميتهم، ومقلب قلوبهم، ومصرف أمورهم، لا رب لهم غيره، ولا مالك لهم سواه، ولا خالق لهم إلا هو، سواء اعترفوا بذلك أو أنكروه، وسواء علموا ذلك أو جهلوه، لكن أهل الإيمان منهم عرفوا ذلك، وآمنوا به، بخلاف من كان جاهلاً بذلك، أو جاحداً له، مستكبراً على ربه، لا يُقر ولا يخضع له، مع علمه بأن الله ربه وخالقه، فالمعرفة بالحق إذا كان مع الاستكبار عن قبوله والجحد له كان عذاباً على صاحبه؛ كما قال –تعالى-: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (14) سورة النمل. وقال –تعالى-: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (146) سورة البقرة. وقال –تعالى-: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} (33) سورة الأنعام. فإذا عرف العبد أن الله ربه وخالقه، وأنه مفتقر إليه محتاج إليه، عرف العبودية المتعلقة بربوبية الله) أ.هـ من كتاب العبودية لشيخ الإسلام ص47.
اتصاف الأنبياء بالعبادة ودعوتهم إليها:-
ووهذه العبودية هي عبودية الطاعة والانقياد وخير من اتصف بها من الناس الأنبياء عليهم السلام ، فكلهم اتصف بها ووصفهم الله بها ودعوا إليها وحققها :
1. آدم عليه السلام: أبو البشر، وهو أول من حقق ذلك، حيث خلق الله آدم عليه السلام وذريته لعبادته، ومن عبادته لجوؤه إلى الله بعدما أزله الشيطان وزوجته، حيث قال الله عنه:{قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (23) سورة الأعراف. فالدعاء والتوبة من أنواع العبادة وأجلها... والأنبياء جميعاً كانت لهم عبادات يتقربون بها إلى الله من صلاة وصيام ، كما قال تعالى في الصوم أنه كان مكتوباً على الذين من قبلنا، فدخل فيهم آدم وبنيه عليهم السلام:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (183) سورة البقرة.
2. نوح عليه السلام:
وقد دعا نوح عليه السلام قومه إلى عبادة الله حيث جاء في كثير من آيات القرآن قوله –تعالى-:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (59) سورة الأعراف, وكذا قوله في سورة نوح:{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} ودعا ذريته بأصل العبادة وهي كلمة التوحيد ، فعن سليمان بن يسار رضي الله عنه عن رجل من الأنصار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال نوح لابنه إني موصيك بوصية وقاصرها لكي لا تنساها أوصيك باثنتين وأنهاك عن اثنتين أما اللتان أوصيك بهما فيستبشر الله بهما وصالح خلقه وهما يكثران الولوج على الله أوصيك بلا إله إلا الله فإن السموات والأرض لو كانتا حلقة قصمتهما ولو كانتا في كفة وزنتهما وأوصيك بسبحان الله وبحمده فإنهما صلاة الخلق وبهما يرزق الخلق وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا وأما اللتان أنهاك عنهما فيحتجب الله منهما وصالح خلقه أنهاك عن الشرك والكبر رواه النسائي واللفظ له والبزار والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو وقال الحاكم صحيح الإسناد 1.
ولقد ذكر الله تعالى منتّه على أنبياءه بالعبودية وأنها من أجل نعمه على هؤلاء الانبياء -عليهم السلام- بعد أن عدد صفات من اجتباهم من الأنبياء مادحاً لهم فقال بعد ذلك :{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا*} (58) سورة مريم . فهؤلاء المشار إليهم ومن حققوا تلك العبادات ،في أجل نعمة أنعمها الله عليهم ، وقد جمع الله بين ذكر الذرية وخصِ نوح بالعبودية وبالشكر في قوله:{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} (3) سورة الإسراء.
ومما زادني شرفا وتيهــا وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي .......................
3. إبراهيم عليه السلام: لقد وصف الله الخليل إبراهيم بأنه عبد من عباده المؤمنين، فقال:{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} (111) سورة الصافات، وقال-تعالى-:{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ* إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} (45-46) سورة ص . وإبراهيم هو أبو الأنبياء وقدوتهم في التوحيد والعبادة... وكما جاء في الآية السابقة :{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا*} (58) سورة مريم .
4. إسماعيل عليه السلام، قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} (54-55) سورة مريم . والصلاة والزكاة أجل العبادات الظاهرة.
ومن أظهر العبادات والقربات اللاتي عملها إسماعيل مع أبيه إبراهيم شرف بناء الكعبة، طاعة لله تعالى في أمره عز وجل.
وموسى-عليه السلام- كان من عباد الله المقربين وأنبيائه المخلصين، حيث قال الله عنه وعن هارون: {سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}(120-122) سورة الصافات
وهكذا جميع الرسل من عهد آدم إلى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- كانوا عباداً لله مخلصين. شرع الله لكل منهم عبادة وشرعة تناسب زمانه ومكانه وقومه؛ كما قال تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (48) سورة المائدة
فكانت العبادة هي الزاد العظيم للأنبياء والمرسلين في حياتهم قاطبة وما يواجهون به أعداءهم وأزماتهم، وقد حققوها وقاموا بها أتم قيام، ودعوا قومهم إليها، وأدوا الأمانة فيها فآمن من قومهم من آمن وكفر منهم من كفر.. وهكذا الحال في خاتم الأنبياء -عليهم السلام- محمد بن عبد الله -صلوات الله عليه وسلامه- فإنه كان أعظمهم تحقيقاً للعبادة، وحياته وسيرته في بطون الكتب تبين لنا الغاية العظمى التي وصل إليها صلى الله عليه وسلم في تحقيق عبادة ربه سبحانه، ويكفينا من ذلك أنه كان صلى الله عليه وسلم يصلي حتى ترم، أو تنتفخ قدماه ويقول : (أفلا أكون عبدا شكورا). صحيح البخاري 1062
اتصاف الملائكة بالعبادة:
والملائكة خلق من خلق الله الكبير المتعال –سبحانه-. وقد خلقهم الله من نور، كما أنه خلق الجن من نار، والإنس من طين.. ، وهم عباد الله المقربون الذين يسبحون له الليل والنهار لا يسأمون من تلك العبادة؛ لأنهم ركبوا وخلقوا على تلك الغاية، ولم تخلق فيهم شهوة، ولا تعرض لهم شبهة، فعبادتهم متواصلة لا يعصون الله -عز وجل- ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، فهم قيام بما وكلوا به من المهام والوظائف ؛ منهم الموكل بنفخ الأرواح ، ومنهم الموكل بقبضها وهو ملك الموت، ومنهم الموكل بكتابة أعمال العباد {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} ومنهم الموكل بحفظ الإنسان من بين يديه ومن خلفه{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ} وقد قال علماء التفسير :هم الملائكة ، ومنهم الموكل بإنزال الوحي على الأنبياء وهو جبريل الروح الأمين عليه جميع الملائكة السلام .. وهكذا فكل ملك من الملائكة الكرام الطيبين له وظيفة هي عبادته وقربته التي يتقرب بها إلى الله –تعالى- وقد ذكرهم الله تعالى في القرآن العظيم بأنهم { لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} (19-20) سورة الأنبياء . وقال –تعالى-:{إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ*} (206) سورة الأعراف ). وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ* }سورة الأنبياء. وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}. وقال –سبحانه-: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ*}. وغيرها من الآيات
أما الأحاديث النبوية ، صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إني أرى ما لا ترون ، وأسمع ما لا تسمعون ، أطت السماء وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع قدر أربع أصابع إلا ملك واضع جبهته ساجداً لله ، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ، ولبكيتم كثيراً ، وما تلذذتم بالنساء على الفرش ، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون )2, وغيره من الأحاديث التي تصف لنا عبادة الملائكة لله عز وجل ، وتحقيقهم لها كما أراد الله تعالى منهم، كل بحسب قربته وطاعته - عليهم سلام الله-.
الجن والعبادة:
الجن خلق من خلق الله –تعالى- وهم أيضاً عالم آخر غير عالمنا لا نراه، ولهم خصوصياتهم وسلوكياتهم ، وهناك شبه كبير بين عالمهم و عالم الإنس، مع أن هيئتهم وصفة خلقتهم تختلف تماماً عن بني آدم، وهم عالم خفي لا نراه كما قال –تعالى-:{إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} (27) سورة الأعراف, فقد منحهم الله القدرة على التشكل بصور وأشكال مختلفة, في صورة حيوانات ، أو حتى في صورة الإنس..
ولولا حفظ الله –تعالى- للإنسان وحراسته بالملائكة كما قال:{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ} (11) سورة الرعد، لسعت المشياطين في إكمال تخطفها لنا في كل طريق وفي كل شارع وسهل وجبل، لكن من تمام حكمة الله ورحمته وعدله أن جعل في مخلوقاته موازنة عجيبة ! فإذا كان الجن يروننا ولا نراهم، وذلك أقرب إلى الإيقاع والإضرار بنا؛ فإن الله جعل للعبد حفظا كلاء يحفظه ويكلؤه به من ملائكة وأوراد وأذكار وآيات ونحوها ...
والجن مأمورون بالعبادة كذلك كما أمر بها الإنس، و مأمورون بتحقيقهاكما حققتها الملائكة -عليهم السلام- قال:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (56) سورة الذاريات , وقد وردت آيات وأحاديث تبين استجابة رجال من الجن لدعوات الأنبياء، منهم ومحمد صلى الله عليهما وسلم كما قال تعالى : {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ }(الأحقاف : 30) : أي القرآن وكانوا مؤمنين بموسى قال عطاء كانوا يهودا فأسلموا ولذلك قالوا أنزل من بعد موسى وعن ابن عباس أن الجن لم تكن سمعت بأمر عيسى فلذلك قالت : " أنزل من بعد موسى "3 وقال في الآية قبلها عن محمد صلى الله عليه وسلم : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} (الأحقاف : 29) وهم في استجابتهم هذه فرق وأشتات حالهم كحال الإنس , منهم الصالحون ومنهم دون ذلك ،كما قالوا هم عن أنفسهم {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا } (لجن : 11) قال القرطبي : " أي قال بعضهم لبعض لما دعوا أصحابهم إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وإنا كنا قبل استماع القرآن منا الصالحون ومنا الكافرون وقيل: ومنا دون ذلك أي: ومن دون الصالحين في الصلاح وهو أشبه من حمله على الإيمان والشرك كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا أي فرقا شتى قاله السدي . الضحاك : أديانا مختلفة . قتادة : أهواء متباينة ومنه قول الشاعر
القابض الباسط الهادي بطاعته في فتنة الناس إذ أهواؤهم قدد
والمعنى : أي لم يكن كل الجن كفارا بل كانوا مختلفين منهم كفار ومنهم مؤمنون صلحاء ومنهم مؤمنون غير صلحاء . وقال المسيب : كنا مسلمين ويهود ونصارى ومجوس . وقال السدي في قوله تعالى: كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ، قال : في الجن مثلكم قدرية ومرجئة وخوارج ورافضة وشيعة وسنية وقال قوم : أي وإنا بعد استماع القرآن مختلفون منا المؤمنون ومنا الكافرون أي ومنا الصالحون ومنا المؤمنون لم يتناهوا في الصلاح والأول أحسن ؛لأنه كان في الجن من آمن بموسى وعيسى وقد أخبر الله عنهم أنهم قالوا { إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } , وهذا يدل على إيمان قوم منهم بالتوراة وكان هذا مبالغة منهم في دعاء من دعوهم إلى الإيمان وأيضا لافائدة في قولهم نحن الآن منقسمون إلى مؤمن وإلى كافر .
والطرائق : جمع الطريقة وهي مذهب الرجل أي كنا فرقا مختلفة ويقال القوم طرائق أي على مذاهب شتى والقدد نحو من الطرائق وهو توكيد لها " 4
وهم مكلفون بشريعتنا لا يخرجون عنها شأنهم شأننا ، وقد ذكر الله –تعالى- ذلك في قوله: { يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ( ) وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} سورة الأحقاف31- 32.
قال ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى : يا قومنا أجيبوا داعي الله : فيه دلالة على أنه تعالى أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين الجن والإنس حيث دعاهم إلى الله تعالى وقرأ عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين وتكليفهم ووعدهم ووعيدهم وهي سورة الرحمن ولهذا قال : أجيبوا داعي الله وآمنوا به وقوله تعالى : يغفر لكم من ذنوبكم ......
وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الجن المؤمنين لا يدخلون الجنة وإنما جزاء صالحيهم أن يجاروا من عذاب النار يوم القيامة ولهذا قالوا في هذا المقام وهو مقام تبجح ومبالغة فلو كان لهم جزاء على الإيمان أعلى من هذا لأوشك أن يذكروه .
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي قال حدثت عن جرير عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لا يدخل مؤمنوا الجن الجنة لأنهم من ذرية إبليس ولا تدخل ذرية إبليس الجنة . والحق أن مؤمنيهم كمؤمني الإنس يدخلون الجنة كما هو مذهب جماعة من السلف وقد استدل بعضهم لهذا بقوله عز وجل لم يطمثهن أنس قبلهم ولا جان وفي هذا الاستدلال نظر وأحسن منه قوله جل وعلا ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان فقد امتن تعالى على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة . وقد قابلت الجن هذه الآية بالشكر القولي أبلغ من الإنس فقالوا : ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد فلم يكن تعالى ليمتن عليهم بجزاء لا يحصل لهم5 وأيضا فإنه إذا كان يجازي كافرهم بالنار وهو مقام عدل فلأن يجازي مؤمنهم بالجنة وهو مقام فضل بطريق الأولى والأحرى ، ومما يدل أيضا على ذلك عموم قوله تعالى : " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا " وما أشبه ذلك
والإجارة من العذاب الأليم هو يستلزم دخول الجنة لأنه ليس في الآخرة إلا الجنة أو النار فمن أجير من النار دخل الجنة لامحالة ولم يرد معنا نص صريح ولا ظاهر عن الشارع أن مؤمني الجن لا يدخلون الجنة وإن أجيروا من النار ولو صح لقلنا به والله أعلم " 6
قال البيضاوي :" والأظهر أنهم في توابع التكليف كبني آدم "7
ولذلك لما استمعوا ووعوا ولّوا إلى قومهم منذرين، يبشرونهم بالرسالة والكتاب الجديد، وبالرسول العظيم صلى الله عليه عليه وسلم، دعاة إلى الله عز وجل فائزين بموعود الله تعالى في قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (33) سورة فصلت. فدعوا قومهم إلى عبادة الله، والإيمان به، فرضي الله عنهم وأرضاهم .
ونفق هنا مكتفين بهذا القدر من الحديث ، وإلى لقاء آخر – إن شاء الله- سائلين المولى تعالى أن ينفعنا بما نقول ونسمع ونقرأ ، و صلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمين ...
1 - صجيج الترغيب والترهيب
2- صححه الألباني انظر الصحيحة رقم (1722 ).
3 - تفسير القرطبي 16 /217
4 - تفسير القرطبي 19 /15
5 - ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه خرج على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمن من أولها إلى آخرها فسكتوا، فقال: (لقد قرأتها على الجن ليلة الجن، فكانوا أحسن مردوداً منكم، كنت كلما أتيت على قوله –تعالى-: (فبأي آلاء ربكما تكذبان) قالوا: لا شيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد) رواه الترمذي والبزار وابن جرير، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه. وحسنه الألباني صحيح جامع الترمذي 3291.
6 - تفسير ابن كثير 4 /171 - 172 بتصرف
7- البيضاوي 5 / 186