شهادة الجوارح
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران: 102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}[النساء: 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}[الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن خير الحديث كلام الله عز وجل، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون عباد الله: إن الله تبارك وتعالى خلق الخلق وأحصاهم عدداً, وأنعم عليهم بسائر النعم الظاهرة والباطنة قال الله تبارك وتعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}[النحل: 18], أرسل إليهم الرسل, وأنزل عليهم الكتب, ليعبدوه ويوحدوه, القائل في كتابه الكريم: {وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ}[هود: 7]، والقائل: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}[الملك: 2], قال الإمام الشنقيطي رحمه الله في تفسيره: "ولا شكّ أن العاقل إذا علم أن الحكمة التي خلق من أجلها هي أن يبتلى أي يختبر: بإحسان العمل فإنه يهتم كل الاهتمام بالطريق الموصلة لنجاحه في هذا الاختبار، ولهذه الحكمة الكبرى سأل جبريل النَّبي صلى الله عليه وسلم عن هذا ليعلمه لأصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أخبرني عن الإحسان"، أي: وهو الذي خلق الخلق لأجل الاختبار فيه، فبين النَّبي صلى الله عليه وسلم أن الطريق إلى ذلك هي هذا الواعظ، والزاجر الأكبر الذي هو مراقبة الله تعالى، والعلم بأنه لا يخفى عليه شيء مما يفعل خلقه، فقال له: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك))1"2, وقال العلامة ابن سعدي رحمه الله: "فإن الله خلق عباده، وأخرجهم لهذه الدار، وأخبرهم أنهم سينقلون منها، وأمرهم ونهاهم، وابتلاهم بالشهوات المعارضة لأمره، فمن انقاد لأمر الله وأحسن العمل، أحسن الله له الجزاء في الدارين، ومن مال مع شهوات النفس، ونبذ أمر الله، فله شر الجزاء"3, مادام وقد عرفنا الغاية التي خُلقنا من أجلها يا عباد الله وهي عبادته تبارك وتعالى في هذه الحياة, وأن الله تبارك وتعالى مطلع على أحوالنا وأعمالنا, لا تخفى عليه خافية قال الله: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء}[آل عمران: 5], وقال: {يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}[غافر: 16], ومن نعم الله تبارك وتعالى علينا نعمة الجوارح, نعمة العافية إذ الواجب على الإنسان أن يستعمل جوارحه في رضا الرحمن, لكن إذا سخرها في معاصي ربه تبارك وتعالى فستعود عليه بالندم, قال الحافظ الإمام ابن حجر رحمه الله تعالى: "من علم أن الله يراه حيث كان وأنه مطلع على باطنه وظاهره, وسره, وعلانيته, واستحضر ذلك في خلواته أوجب له ذلك ترك المعاصي في السر, وإلى هذا المعنى الإشارة في القرآن بقوله تعالى: {وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}[النساء: 1], كان بعض السلف يقول لأصحابه: زهدنا الله وإياكم في الحرام, زهد من قدر عليه في الخلوة فعلم أن الله يراه فتركه من خشيته, أو كما قال, وقال الشافعي: أعز الأشياء ثلاثة: الجود من قلة, والورع في خلوة, وكلمة الحق عند من يرجى أو يخاف, وكتب ابن السماك الواعظ إلى أخ له: أما بعد أوصيك بتقوى الله الذي هو نجيك في سريرتك ورقيبك في علانيتك, فاجعل الله من بالك على كل حال في ليلك ونهارك, وخف الله بقدر قربه منك, وقدرته عليك, واعلم أنك بعينه ليس تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره, ولا من ملكه إلى ملك غيره, فليعظم منه حذرك وليكثر منه وجلك والسلام, قال أبو الجلد: أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء قل لقومك: ما بالكم تسترون الذنوب من خلقي وتظهرونها لي؟ إن كنتم ترون أني لا أراكم فأنتم مشركون بي, وإن كنتم ترون أني أراكم فلم تجعلوني أهون الناظرين إليكم؟ وكان وهب بن الورد يقول: خف الله على قدر قدرته عليك, واستحي منه على قدر قربه منك, وقال له رجل: عظني فقال له: اتق الله أن يكون أهون الناظرين إليك, وكان بعض السلف يقول: أتراك ترحم من لم يقر عينيه بمعصيتك, حتى علم أن لا عين تراه غيرك, وقال بعضهم: ابن آدم إن كنت حيث ركبت المعصية لم تصف لك من عيني ناظرة إليك فلما خلوت بالله وحده صفت لك معصيته, ولم تستح منه حياءك من بعض خلقه, ما أنت إلا أحد رجلين إن كنت ظننت أنه لا يراك فقد كفرت, وإن كنت علمت أنه يراك فلم يمنعك منه ما منعك من أضعف خلقه, لقد اجترأت، دخل بعضهم غيضة ذات شجر فقال: لو خلوت ههنا بمعصية من كان يراني فسمع هاتفاً بصوت ملأ الغيضة: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الملك: 14], راود بعضهم أعرابية وقال لها: ما يرانا إلا الكواكب, قالت: أين مكوكبها؟ رأى محمد بن المنكدر رجلاً واقفاً مع امرأة يكلمها فقال: إن الله يراكما, سترنا الله وإياكما, وقال الحارث المحاسبي: المراقبة علم القلب بقرب الرب, وسئل الجنيد بم يستعان على غض البصر؟ قال: بعلمك أن نظر الله إليك أسبق إلى ما تنظره"4, فعلينا أن نحسن العمل, ونراقب الله تبارك وتعالى في السر والعلن: {إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}[النساء: 1], وقال: {وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا}[النساء: 126].
إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل *** خلوت ولكن قل على رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة *** ولا أن ما تخفيه عنه يغيب
ألم تر أن اليوم أسرع ذاهبًا *** وأنَّ غدًا للناظرين قريب
أيها المسلمون عباد الله: وبعد علم الله تبارك وتعالى المحيط بكل شيء, وشهادته علينا وكفى بالله شهيداً, إنه أعظم شهيد، وأقرب حفيظ، إنه الله تبارك وتعالى الذي هو معنا بعلمه وإحاطته حيث كنا: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ}[الحديد: 4]، إنه الله الذي أحاط علماً بكل شيء: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}[يونس: 61], إنه الله تبارك وتعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ}[الشعراء: 218-219], إنه الله سبحانه وتعالى الذي: {لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء}[آل عمران: 5], إنه الله تبارك وتعالى أعظم شهيد: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[فصلت: 53], ابتعث علينا ربنا تبارك وتعالى شهوداً من أنفسنا لتكون أبلغ في الحجة فيقول رب العزة والجلال في محكم القرآن: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النور: 24], يبين الله تبارك وتعالى لنا في هذه الآية الكريمة أن جوارح بني آدم سوف تشهد عليهم وتنطق بما عملوا واقترفوا, عملنا كذا فعلنا كذا!!!, أخرج الإمام مسلم رحمه الله في الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال: ((هل تدرون مما أضحك؟ قال: قلنا الله ورسوله أعلم قال: من مخاطبة العبد ربه يقول يا رب ألم تجرني من الظلم؟ قال يقول: بلى, قال: فيقول فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني, قال: فيقول كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهوداً, قال: فيختم على فيه فيقال لأركانه: انطقي, قال: فتنطق بأعماله, قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام, قال: فيقول بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل))5, عبد الله يا من تعصي خالقك ورازقك والمطلع عليك العالم بأحوالك وأعمالك ما حجتك في ذلك اليوم؟! ما موقفك عندما تنطق بالشهادة عليك أركانك وجوارحك بما اقترفت, ما حجتك يوم يأتي اللسان خصم لك بين رب العالمين، يوم يأتي يشهد على صاحبه بما اقترف، فيقول: يارب طال ما أكل أعراض الناس غيبة ونميمة، يقول رب العزة والجلال ناهياً عن الغيبة بل إن الله تبارك وتعالى سماها أكلاً للحم المغتاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ}[الحجرات: 12], عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم))6, وعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته))7, وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: ((إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة)) ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين فغرز في كل قبر واحدة, قالوا: يا رسول الله لم فعلت هذا؟ قال: ((لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا))8, وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن محمداً صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أنبئكم ما العضة؟ هي النميمة القالة بين الناس، وإن محمدا صلى الله عليه وسلم قال: إن الرجل يصدق حتى يكتب صديقا، ويكذب حتى يكتب كذابا))9.
عبد الله: اللسان صغير جرمه عظيم أجره ووزره, هو سلاح ذو حدين, فسخره في طاعة الرحمن من ذكر لرب العزة والجلال, واستغفار بالليل والنهار, وقراءة شيء من القرآن, {وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ}[الأنفال: 45], وإياك أن تسخره في معصية الرحمن فهو سبب في دخول الجنة كما أنه سبب في دخول النيران عن سهل بن سعد رضي الله عنه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة))10, وروي عنه بالفظ: ((من توكل لي ما بين رجليه وما بين لحييه توكلت له بالجنة))11, وعن أبي هريرة رضي الله عنه: قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: ((تقوى الله وحسن الخلق. وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال: الفم والفرج))12, وعن معاذ رضي الله تعالى عنه في حديثه الطويل قال: "يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ((ثكلتك أمك يا معاذ, وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم))13, ولتـزداد بيّنة وعلما في خطر هذا اللسان الذي بين لحييك فاسمع هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم))14, وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق))15, متفق عليه. وفي رواية لمسلم: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب))16, ومعنى "ما يتبين فيها" أي: لا يتدبرها ولا يتفكر في قبحها ولا يخاف ما يترتب عليها، فعليكم يا عباد الله أن تراقبوا الله في ألسنتكم فإنكم مسؤولون عن كل ما تنطقون {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق: 18], أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق: 16], بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، قلت ما سمعتم، وأستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين, الرحمن الرحيم, الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب, ذو الطول لا إله إلا هو إليه المصير, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد:
أيها المؤمنون عباد الله: ومن الشهود التي تكون على الإنسان في ذلك اليوم ما قال ربنا تبارك وتعالى عنه في كتابه الكريم: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ}[فصلت: 19-24], عبد الله سينطق بصرك وسمعك بما عملا فما موقفك عبد الله؟! يا من متعت سمعك بسماع قرآن الشيطان, بما سمعت به من الغيبة والنميمة وكل منكر, وما موقفك حين يشهد عليك البصر الذي أطلقته في الحرام بالنظر للقنوات الخليعة, الله تبارك وتعالى خلقك وخلق هذه الجوارح لتكون عوناً لك على طاعة الله تبارك وتعالى, فكيف أنت تتنكب الصراط, وتعصي رب العباد، أما علمت أنك مسؤول عما عملت، يقول رب العزة والجلال في كتابه الكريم: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}[الإسراء: 36].
عبد الله: سيختم الله تبارك وتعالى على فمك وتنطق أركانك شاهدة عليك بما علمت وفي ذلك يقول ربنا تبارك وتعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[يونس: 65].
ومن الشهود عليك يا عبد الله: الكتاب الذي كتبه الملكان، هذا الكتاب شاهد عليك وأول من يقرأه؟ أنت: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}[الكهف: 49], وقال تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا}[الإسراء: 13], ويقول الله: {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}[الإسراء: 15], ومن ضل فإنه سيعظ أصابع الندم في يوم لا ينفع مال ولا بنون، يفرح صاحب كتاب ويحزن صاحب كتاب, الفرحان هو من أوتي كتابه بيمينه: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}[الحاقة: 19-24], وأما الآخر فيقول: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ}[الحاقة: 25-32].
أيها المؤمنون: عليكم أن تحسنوا في هذه الحياة لتفوزوا برضى رب العالمين، فتأخذون كتبكم بأيمانكم فتعيشون سعداء في جنة المأوى, فإذا فرطتم في طاعة الرحمن ومارستم المعاصي والمنكرات فستندمون في يوم لا ينفع فيه الندم, فتأخذ كتابك بالشمال وتخسر الآخرة.
أيها المؤمنون عباد الله: هل أدركتم الخطر؟ هل أعددتم لذلك اليوم؟ اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون, حين يبعثر ما في القبور, قال الله تعالى: {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ}[العاديات: 9], وقال الله سبحانه:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}[الحج: 1-2], قال القحطاني رحمه الله في نونيته:
يوم القيامة لو علمت بهوله *** لفررت من أهل ومن أوطان
يوم تشققت السماء لهوله *** وتشيب منه مفارق الولدان
يوم عبوس قمطرير شره *** في الخلق منتشر عظيم الشأن
يوم يجيء المتقون لربهم *** وفدا على نجب من العقيان
ويجئ فيه المجرمون إلى لظى *** يتلمظون تلمظ العطشان
والجنة العليا ونار جهنم *** داران للخصمين دائمتان
فماذا أعددت لهوله؟ ماذا أعددت لذلك الموقف العصيب؟ هل أنت ممن حافظ على الصلاة والصيام؟ هل أنت ممن خاف من الملك العلام؟ هل أنت ممن راقبت الحق المبين؟ أم أنت معرض عن الله تبارك وتعالى منهمك على المعاصي والسيئات, مبارزاً بالقبائح والمنكرات؟ فإلى متى وأنت معرض؟ أتحسب أنك ستخلد؟ أما سمعت وقرأت قول رب العزة والجلال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}[آل عمران: 185], أما علمت أنك ستسأل عن كل ما عملت؟ قال: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ}[آل عمران: 30], وقال تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}[الفجر: 23-24], ففي ذلك اليوم لا كاشف من كربه إلا الله سبحانه، قال الله تبارك وتعالى: {أَزِفَتْ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ}[النجم: 58].
عباد الله: هذا وصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[الأحزاب: 56]، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً))17, فاللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم أعنا على طاعتك يا رب العالمين, اللهم جعل جوارحنا في طاعتك يا أرحم الراحمين, اللهم غفر لنا ورحمنا, وتجاوز عنا يا أرحم الرحمين, اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك اللهم من النار وما قرب إليها من قول أو عمل, اللهم إن أجسادنا ضعيفة لا تقوى على النار وأنت الغفور الرحيم, اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين, اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ونعوذ بك من سخطك والنار يا عزيز يا غفار, {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الأعراف: 23]، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}[الحشر: 10]، {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[البقرة: 201]، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 هذا جزء من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه رواه البخاري برقم (50) ورقم (4499)؛ ومسلم برقم (7).
2 أضواء البيان (2/171).
3 تفسير السعدي (1/875).
4 جامع العلوم والحكم (161-162).
5 رواه مسلم برقم (2969).
6 رواه أبو داود برقم (4878)؛ وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم ( 5213).
7 رواه أبو داود برقم (4880)؛ أحمد في المسند برقم (19791) وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (7984).
8 رواه البخاري برقم (215)؛ ومسلم برقم (292).
9 رواه مسلم برقم (2606).
10 رواه البخاري برقم (6109).
11 رواه البخاري برقم (6422).
12 رواه الترمذي رقم (2004) وقال أبو عيسى: هذا حديث صحيح غريب؛ ورواه ابن ماجة برقم (4246)؛ وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب رقم (1723)؛ ورقم (2642)؛ في صحيح الترغيب والترهيب؛ السلسلة الصحيحة برقم (977)؛ صحيح ابن ماجة برقم (3424).
13 رواه الترمذي رقم (2616) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح؛ وأحمد في المسند برقم (22069)؛ وصححه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل رقم (413)؛ و السلسلة الصحيحة رقم (1122) وقال: صحيح بمجموع طرقه.
14 رواه البخاري برقم (6113).
15 رواه البخاري برقم (6221)؛ صحيح مسلم برقم(2988).
16 رواه مسلم برقم (2988) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
17 رواه مسلم برقم (384).